بدأ الرئيس الأميركي ترامب حربه الشعواء على الحقوق الفلسطينية بتمجيد الاستيطان. وعندما رأى أن الإدارة التي سبقته ارتكبت جرماً شنيعاً عندما مررت القرار 2334 في مجلس الأمن، كان يطمئن حكومة نتنياهو بأن الأمر لن يتكرر في ولايته.
واتضحت أبعاد هذا الموقف أكثر مع الخطوات اللاحقة التي اتخذتها إدارته تجاه القدس وقضية اللاجئين. وبذلك، أدركت الحكومة الإسرائيلية أن الحليف الأميركي انتقل من الدور الداعم إلى دور الشريك في الرؤية .. والتطبيق.
لكنها تدرك في الوقت نفسه أن الترجمة المثلى لهذه الشراكة يجب أن تتركز وبنشاط في ميدان الاستيطان والتهويد والتطهير العرقي، واعتمدت على هذا الأساس سياسة توسعية «جديدة» تجمع ما بين نشر الاستيطان وتمتينه وبين تطبيقات «قانون القومية» في القدس وفق بوصلة «العناوين الفلسطينية» لصفقة القرن.
لفت المكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان الانتباه إلى أسلوب احتيالي تعتمده الحكومة الإسرائيلية في «تفريخ» مستوطنات جديدة نمت واستقلت عن «المستوطنات الأم»، وكانت معروفة سابقا كأحياء ضمن تلك المستوطنات. وبما أن بناء مستوطنات جديدة بشكل معلن سيلقى ردات فعل دولية أكثر حدة من التوسع في داخل المستوطنات، لجأت الحكومة الإسرائيلية إلى أسلوب التورية هذا بانتظار الوقت والظرف المناسبين لترسيم المستوطنات الجديدة.. والمقصود ترقب خطوات وإجراءات أميركية إضافية على طريق الإعلان الرسمي لـ«صفقة العصر»، وفرض اعتمادها على الدول المستهدفة بتطبيقاتها في الإقليم.
وفي إطار الأسلوب ذاته، تسعى الحكومة الإسرائيلية إلى إيجاد «نهاية سعيدة» لمسألة البؤر الاستيطانية، التي انصب عليها النقد الدولي في السنوات السابقة بما فيه الأميركي عبر «خارطة الطريق»، التي دعت إلى تفكيك هذه البؤر. لذلك تسعى حكومة نتنياهو إلى التعامل كل بؤرة واحتياجات مستوطنيها باعتبارها حياً تابعاً لأقرب مستوطنة، دون ترسيم ذلك لأسباب معروفة. ومع الوقت، تفسح في المجال لنمو البؤرة حتى تصبح مستوطنة راسخة في خريطة الاستيطان.
يتطابق هذا المسار مع الاعلانات الإسرائيلية السابقة عن عزم حكومة نتنياهو استقدام مليون مستوطن خلال العشرة أعوام القادمة إلى القدس وباقي أنحاء الضفة، ويؤكد هذا الأمر سيل الوحدات الاستيطانية التي تخطط لإقامتها، وآخرها الإعلان عن 14864 وحدة استيطانية إضافية قيد التنفيذ في مستوطنات «غوش عتصيون» الواقعة بين بيت لحم والخليل.
من نافل القول إن«الصفقة» لم تؤسس للسياسة التوسعية الإسرائيلية، لكن عناوينها الفلسطينية المعلنة جعلت من هذه السياسة أكثر وقاحة وتغولاً في ثلاثة مجالات متكاملة: الأول تسريع نشر الاستيطان، والثاني ممارسة التطهير العرقي بشكل مكشوف( الخان الأحمر على سبيل المثال)، والثالث تمكين المستوطنين من امتلاك أراض وممتلكات فلسطينية خاصة من خلال مد ولاية القضاء الاسرائيلي إلى مستوطنات الضفة، وإعطاء المحاكم الاسرائيلية صلاحية البت في النزاعات الناشئة بين أصحاب الأرض والممتلكات المسروقة وبين المستوطنين على «هدى» تطبيقات «قانون القومية».
وقد مهدت حكومة نتنياهو لذلك عبر اشتراطها على المقدسيين تقديم سند الملكية «الطابو» لإثبات ملكية ما يملكونه، وهي التي منعتهم خلال العقود الماضية من تسجيل أملاكهم، وفهم من ذلك أن الاحتلال عازم على استملاك الأراضي والعقارات التي لا يستطيع أصحابها إثبات ملكيتها وبعض هؤلاء من الذين نزحوا إبان عدوان العام 1967.
ومن التداعيات الخطيرة للصفقة على مستقبل مدينة القدس الشرقية إعلان الإدارة الأميركية أن مدينة القدس عاصمة للاحتلال ونقل سفارتها إليها. وبذلك أعطت إدارة ترامب تل أبيب الضوء الأخضر للتصرف بالقدس باعتبارها جزءاً من «الدولة الإسرائيلية»، وكان هذا واضحاً مع إعلان الحكومة الإسرائيلية عزمها على إغلاق كافة مؤسسات «الأونروا» في القدس الشرقية، وإلغاء تعريف مخيم شعفاط شمالي القدس كـمخيم للاجئين. ولم يكن هذا ممكناً على هذا النحو لولا الموقف الأميركي المستجد من الأونروا ومدينة القدس.
بالمقابل، ما يزال معظم المجتمع الدولي ضد القرارات الأميركية بخصوص الاستيطان والقدس والأونروا. وقد اتضح ذلك عبر قرار مجلس الأمن الرقم 2334 الذي أدان الاستيطان واعتبره غير شرعي، وعبر رفض معظم الدول التي لها علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل نقل سفاراتها إلى القدس. وبخصوص الأونروا، شهدت الفترة التي تلت وقف المساهمة الأميركية في موازنتها مؤتمرات واجتماعات دولية عدة جهدت لتعويض العجز في موازنة الوكالة الذي أحدثه الحجب المالي الأميركي. يضاف إلى ذلك عامل مهم على الصعيد الأميركي، وبالذات المذكرة التي وقعها 112 عضواً في الكونغرس الأميركي، من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، والتي طلبوا فيها من وزير خارجية بلادهم جورج بومبيو العودة عن قرارات إدارة ترامب وقف تمويل وكالة الغوث، الأونروا، ومستشفيات الفلسطينيين في القدس الشرقية المحتلة. وقد أدرك هؤلاء أن قرارات إدارة ترامب تهدد استقرار المنطقة بانعكاساتها السلبية على أوضاع اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة والقدس، وباقي مخيمات الشتات. وانتقدت المذكرة قرارات إدارة ترامب ووصفتها بأنها تفاقم التوتر في المنطقة وتغلق آفاق الوصول إلى تسوية للصراع فيها.
هذا وما سبقه، يعني أن المناخ الدولي يساعد على فتح اشتباك سياسي وميداني واسع مع المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي. ويعني بالأساس أن الخطة الأميركية ليست قدراً، ولا تستطيع فرض حلولها التصفوية على الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية. وهذا يتطلب من القيادة الرسمية الفلسطينية أولاً المباشرة في تنفيذ قرارات المجلسين المركزي (15/1/2018) و«الوطني» (30/4/2018)، بما في ذلك تجاوز الرهان على ما يسمى «رؤية الرئيس»، والعودة إلى اتفاق أوسلو الفاسد، لصالح سحب الاعتراف بإسرائيل ووقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، وفك الارتباط بالاقتصاد الإسرائيلي، واتخاذ موقف حازم بنقل القضية والحقوق الوطنية إلى الأمم المتحدة ومحكمة الجنايات الدولية، لنزع الشرعية عن الاحتلال وعزل الكيان الإسرائيلي وإدارة ترامب.
وقد أكد المجلسان المركزي والوطني على ضرورة إطلاق المقاومة الشعبية وتوفير الحماية السياسية لها ودعمها، كما شدد على ضرورة إنها الانقسام واستعادة الوحدة، من موقع الإدراك لحجم المخاطر الكبرى التي تتهدد قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه على يد المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي المسمى «صفقة العصر».
خطوات هامة ومهام كثيرة أمام الحالة الفلسطينية كي ترتب أوضاعها وتنتقل من حالة التراجع والتردد إلى استعادة المبادرة.. تحت راية البرنامج الوطني التحرري.