• حرب بوتين «الناعمة» لتقويض الديموقراطية الليبرالية في أوروبا... عبر الفساد
    2018-10-04

    اعتمدت روسيا خلال السنوات الأخيرة نمطاً من الحروب التي يطلق عليها الخبير الأميركي ماكس بوت تسمية «الحروب اللامتناظرة» أو «الرمادية» أو «الهجينة». ويشير التقرير الخاص بإستراتيجية الدفاع الوطني الأميركية إلى «أن الدول المارقة تستخدم عبر المواجهات غير المسلحة أسلحة الفساد والممارسات الاقتصادية العدائية والدعاية الموجهة والتخريب السياسي والحروب بالوكالة والتهديد باستخدام، أو الاستخدام الفعلي للقوة العسكرية المحدودة في محاولة تغيير الحقائق الواقعة على الأرض».


    يتفق المحللون على أن روسيا بشكل خاص تمتلك براعة تتسم بالتميز في هذه النوع من الحروب التي سميت بالهجينة. ويبرز دهاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في العمليات السرية التي تنفذها أجهزة بلاده المتخصصة في أوروبا والولايات المتحدة، ولقد عمل على دعم المعجبين به وبروسيا في إيطاليا وألمانيا وبلجيكا وهولندا والنمسا والمجر وغيرها من البلدان الأوروبية، كما سعى بقوة لزرع الانقسام والشقاق والفساد في المجتمعات الأوروبية. وتكشف لائحة اتهام المحقق الخاص روبرت مولر كيف دفع بول مانافورت مدير الحملة الانتخابية للرئيس دونالد ترامب لحفنة من السياسيين الأوروبيين من بينهم المستشار النمسوي السابق الفرد غوسينباو- مبلغاً قدره 2.5 مليون دولار لممارسة الضغوط اللازمة بالنيابة عن الحكومة الموالية لموسكو في أوكرانيا.

    تعمل دول مثل السويد وبريطانيا على سبيل المثال على مواجهة التدخلات الروسية في مساراتها السياسية الداخلية من خلال تثقيف مواطنيها بخفايا الأخبار المزيفة والكاذبة التي تنشرها الترولات والبوتات التي تمولها موسكو في وسائل التواصل الاجتماعي، وأيضاً تسعى لإغلاق الثغرات التي ينفذ من خلالها القراصنة الروس. وذكر بوت في مقال له في صحيفة «واشنطن بوست» في نيسان (أبريل الماضي) أن «قيام الولايات المتحدة بالتجهيز بمزيد من الأسلحة الفتاكة لن يساعدها على تأمين سلامة وأمن البلاد والمجتمع، إذ هي تحتاج بصورة موازية إلى تعزيز قدراتها الدفاعية التقنية ضد الحرب الهجينة». وكان قائد كتيبة القيادة السيبرانية الأميركية الأدميرال مايكل روجرز أقر أمام الكونغرس بأنه لا يملك ما يكفي من الأدوات اللازمة لمكافحة تدخلات روسيا في الانتخابات، وقال: «لم يدفع الجانب الروسي ثمن هذه التدخلات بما يكفي ليرتدع ويغير سلوكه في ما بعد».

    قوة ناعمة ولكن سلبية

    في عام 2012 شرح بوتين لإحدى الصحف الروسية معنى مصطلح «القوة الناعمة» التي قال إنها «تتألف من مجموعة من الأدوات والأساليب المستخدمة لتحقيق أهداف السياسية الخارجية من دون اللجوء إلى القوة العسكرية، بل من خلال المعلومات وغيرها من وسائل النفوذ». ويرى الباحث جوزيف س.ناين الابن أن مفهوم القوة دخل في سياسة روسيا الخارجية عام 2013. وفي عام 2016 أعلن رئيس الأركان العامة الروسي فاليري غيراسيموف أن الرد على الهجمات الأجنبية الهجينة باستخدام القوات التقليدية أمر مستحيل، لأن التصدي لها لا يمكن أن يتم إلا بالطرق الهجينة نفسها. ويسود اعتقاد لدى النخب الروسية منذ انتهاء الحرب الباردة بعد السقوط الدراماتيكي للاتحاد السوفياتي والمنظومة الشيوعية بأن خطط توسع الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي وجهود الغرب لنشر الديموقراطية تهدف إلى عزل روسيا وتهديدها، ما يستوجب تطوير القوة الناعمة الروسية بالترويج لأيديولوجية المذهب التقليدي وسيادة الدولة والتفرد الوطني.

    يجمع الخبراء على إمكان استخدام حرب المعلومات هجومياً لتقويض الخصوم، ولكنها في هذه الحال لا يمكن أن تكون إلا قوة ناعمة سلبية، فمن خلال مهاجمة قيم الآخرين، يمكن التقليل من جاذبيتهم، وبالتالي قوتهم الناعمة نسبياً، ويتبين صدى ذلك بوضوح في المجر حيث أثنى رئيس الحكومة فيكتور أوربان على الديموقراطية غير الليبيرالية السائدة الآن في أوروبا، وهو ما يسعى إليه بوتين بالفعل، إضافة إلى تمويل ودعم الحركات الشعبوية والقومية الجديدة، وحتى التيارات النازية الجديدة في أوروبا الغربية، وهذا كان أيضاً هدف التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية ولتشويه سمعة الديموقراطية الغربية.

    تسعى روسيا بتدخلها في السياسات الداخلية للديموقراطيات الأوروبية إلى تقويض جاذبية الحلف الحلف الأطلسي الذي يجسد القوة الصارمة الغربية كونها ترى فيه تهديداً خطيراً على أمنها القومي، إضافة إلى محاولة تفكيك الاتحاد الأوروبي وزعزعة أركان الوحدة الأوروبية من الداخل من خلال تدعيم مواقع القوى الجديدة الرافضة للمشروع الاندماجي الأوروبي.

    لقد أسهمت التكنولوجيا السيبرانية في حرب معلومات أرخص وأبعد مدى وتأثيراً، كما وعقدت صعوبة اكتشاف مصادرها ووفرت إمكان سهولة إنكارها. وتوظف موسكو، إضافة إلى الناطقين بلسان الديبلوماسية الروسية الرسمية مثل قناة «روسيا اليوم» ووكالة «سبوتنيك»، جيوشاً من الهاكرز والمتصديين والمأجورين وشبكات الروبوت لضخ معلومات كاذبة يمكن نشرها في وقت لاحق وإضفاء الشرعية عليها كما ولو كانت صحيحة. يقول الصحافي الاستقصائي الروسي سولداتوف في حديث مع صحيفة «واشنطن بوست» عام 2017، إن الاستخبارات الروسية تشرف على شبكة خاصة وواسعة من قراصنة الإنترنت. وأكد أن (عامل) بوتين من العوامل الحيوية والحاسمة في فهم المسائل ذات الصلة بقضية القرصنة الإلكترونية. كان سوتولوف كتب عام 2016 في مدونته الشخصية أنه على «رغم امتلاك أجهزة الأمن والاستخبارات الروسية القدرات والتقنيات الإلكترونية إلا أن أغلب الهجمات الفعلية تأتي عبر قنوات أخرى»، مشيراً إلى شركة تكنولوجية روسية تم تكليفها بالمساعدة في تنظيم هجمات (حساسة) للخدمات وإيقاف خدمات في الإنترنت.

    خلق الأزمات وتغذية الانقسامات

    لا تنكر روسيا شنها الحرب الإلكترونية ضد الغرب، فلقد اعترفت مصادر مقربة من الكرملين بإنفاق مبلغ قدره 1.25 مليون دولار عام 2017 وحده على حملات إعلامية أجنبية، كما واستخدم هذا المبلغ لتمويل المواقع المتخصصة في الأخبار المختلقة والكاذبة حيث ظهر في المجر والتشيك وسلوفاكيا وبلغاريا وغيرها من الدول الأعضاء آلاف المواقع والحسابات الوهمية التي تعمل على تلويث البيئة المعلوماتية في الاتحاد الأوروبي. يقول الباحث ديفيد فون دريل: «عمدت روسيا إلى استغلال انقسامات سياسية وثقافية قائمة في الغرب، كما استغلت النظام اللوغاريتمي الذي يتبعه كل من فايسبوك وغوغل لنشر معلومات مضللة في الأوساط الأكثر احتمالاً لتصديقها وإعادة نشرها». ورصدت الأجهزة الأوروبية المعنية بالحرب الإلكترونية اختلاق روسيا لآلاف الهويات الزائفة عبر الإنترنت لإشعال أزمات سياسية. يقول رئيس شؤون الأمن السيبراني في بريطانيا كيارات مارتن، إن روسيا «تسعى لتقويض النظام الدولي، وهذا واضح تماماً لنا».

    يتزايد عدد الهجمات الإلكترونية في شكل كبير وتتطور، ويتعاظم في الحجم والتأثير، ومع تحول العالم في شكل متزايد إلى كيان مترابط ومحكم التواصل يرتفع منسوب المخاوف من نقاط الضعف التي تعاني منها الإنترنت. يقول الخبير في «معهد بروكينز» ورئيس مركز الاقتصاد العالمي والجغرافية السياسية التابع لمعهد «أيسيد» خافيير سولانا، إن «الجريمة السيبرانية تماثل في الحجم والتأثير تجارة المخدرات». ويضيف أن الفضاء الإلكتروني يهدد بالتحول ساحة معركة حيث تشتبك الحكومات والكيانات غير التابعة لحكومات والقطاع الخاص.

    طرحت روسيا العام الماضي على الأمم المتحدة مسودة مشروع اتفاقية للتعاون في مجال مكافحة جرائم المعلوماتية مكونة من 45 صفحة وتحتوي على 72 مادة تغطي حركة المرور على الإنترنت بواسطة السلطات وتحدد قواعد السلوك في الفضاء السيبراني والتحقيق المشترك في النشاطات. وبرأي الكثير من الخبراء السيبرانيين الأميركيين أن هذه الاتفاقية من شأنها تعزيز قدرات روسيا والبلدان الديكتاتورية على السيطرة على الاتصالات في هذه البلدان، وإمكان الوصول إلى الاتصالات في البلدان الأخرى. وكان الرئيس ترامب ذكر في تغريدة على «تويتر» أنه ناقش مع الرئيس بوتين مقترحاً بتشكيل وحدة أميركية- روسية مشتركة للأمن السيبراني، حتى تكون القرصنة الانتخابية وغيرها من الأمور السلبية قيد الأمن والسيطرة. وأثار هذا المقترح ضجة هائلة في الأوساط السياسية الأميركية. وكتب أحد المعلقين على «تويتر» آنذاك أن هذا يشبه أن تطلب المباحث الفيديرالية من المافيا تشكيل وحدة مشتركة لمكافحة الجريمة المنظمة.

    فشل بوتين في مساعيه مع ترامب لقبول مقترحه دفعه إلى إطلاق حملته لتنظيم الفضاء السيبراني وفق شروطه، من خلال حشد الحلفاء لدعم البديل المطروح على ميثاق بودابست لعام 2001 الذي تشكو موسكو من أن المادة (23 ب) فيه تسمح بالسيطرة عليها بدلاً من الحكومات، فيما هي تريد بسط سيطرة الدولة على المعلومات. وكانت روسيا رفضت التوقيع على الميثاق الذي صادقت عليها الولايات المتحدة إلى جانب 55 دولة، لأنها، كما ذكرت جريدة «كوميرسانت» الروسية، رأت فيه تهديداً مباشراً لسيادة البلاد. وبرأي المعلق الأميركي ديفيد أغناتيوس فإن روسيا تنظر إلى المعلومات من زاوية أنها سلاح سياسي حاسم، ولهذا تريد السيطرة على فضاء هذه المعارك المحتملة.

    http://www.alhourriah.ps/article/51555