أعاد بنيامين نتنياهو، مرة أخرى، كشف أوراقه إلى الرأي العام، حين حصر مشكلة قطاع غزة في الطائرات الورقية التي يطلقها أطفال القطاع، وتؤدي إلى إحداث حرائق في الأراضي والحقول، التابعة لمستوطنات غلاف غزة. ولأجل وضع حد لهذه الطائرات الورقية جند نتنياهو فرق جيشه وسلاحه الصاروخي، وطائراته الحربية، ومئات القناصين الممتدين على طول الشريط الشائك مع القطاع. حتى أنه تحمل مشاق السفر إلى الجنوب، ليتفقد هذه المستوطنات ويهدئ روع سكانها، متجاهلاً، في الوقت نفسه، أن هذه المستوطنات هي بالأساس مقامة على أراضٍ فلسطينية، ليس فقط تم احتلالها عام 1948، بل وكذلك تم السطو عليها حتى من أراضي القطاع، في فترات مختلفة في إطار الصراع الممتد منذ النكبة، وأن مساحات واسعة من تلك الأراضي، التي يقال إنها مملوكة لمستوطنات غلاف غزة، كانت فيما مضى، ملكاً لفلاحين فلسطينيين، مازالوا ينظرون إليها، بشغف، عبر السياج الشائك، في جمعة الغضب ومسيرات العودة وكسر الحصار. أطفال فلسطين، الذي يكرههم نتنياهو، هم الآن مصدر قلقه، وهم الأن مصدر الخطر على «التهدئة». حتى أن نيكولاي ملادينوف، المبعوث الأممي إلى القطاع، لم يتردد في نقل الرسالة إلى قيادة المقاومة في غزة، يطلب فيها، إليها، وقف الطائرات الورقية، حتى لا تتسبب في إشعال حرب جديدة مع إسرائيل. ولعل في الأمر مزحة. بل هي أبعد من مزحة. * * * يدرك نتنياهو أن «مسيرات العودة وكسر الحصار» هي التي تشكل له صداعاً سياسياً، فهي التي كشفت للرأي العام أن سبب تخلف الأوضاع الحياتية في غزة، وسبب التلوث البيئي، وتدهور الاقتصاد، وانتشار البطالة، هو الحصار الذي تفرضه إسرائيل على القطاع، وهو النظام الفاسد للاستيراد والتصدير الذي تفرضه على سكانه. وأن بإمكان القطاع أن يستعيد حيوتيه الاقتصادية، وأن يستعيد نشاطيته الاجتماعية، فيما لو «أطلق سراحه»، بحيث يمتلك حرية الحركة مع الخارج، للسكان، والبضائع، وحرية الصيد في البحر الإقليمي للقطاع، وفيما لو توفرت له موانئه الجوية والبحرية. وأن ما يعطل هذا كله هو الحصار الإسرائيلي، وإصرار إسرائيل على ممارسة سياسة خنق القطاع، بالأساليب والذرائع المختلفة وآخرها ذريعة «أطفال طائرات الورق» الذي أصبحوا الكتيبة المقاومة الأولى ضد الوجود الاحتلالي لإسرائيل. ويدرك نتنياهو، أيضاً، أن عقدة المقاومة في القطاع، هي التي تسد الطريق إلى جانب عقد أخرى سببها الاحتلال الإسرائيلي نفسه إلى الوصول إلى حل يكفل للشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية المشروعة. وأن محاولاته لكسر إرادة المقاومة، وتدمير بنيتها التحتية باءت كلها بالفشل، بل أدت إلى عكس ما كان يطمح إليه. فالمقاومة في القطاع ازدادت تصلباً، وتصاعدت قوتها أكثر فأكثر، وتطور تسليحها. وإذا كان نتنياهو قد ادعى أنه نجح في تدمير «الأنفاق» التي تشكل مسرباً للمقاتلين الفلسطينيين إلى قلب مواقع الجيش الإسرائيلي، فأن العقل الفلسطيني المقاوم، الذي أبدع سلاح الأنفاق، من شأنه أن يبدع أسلحة لا تخطر على بال قيادة جيش الاحتلال، منها ما بات معروفاً (سلاح الطائرات الورقية) ومنها ما يزال سراً، لا يتم الكشف عنه إلا عند الضرورة. لذلك وجد نتنياهو، كما وجدت قيادة جيشه، ضحايا لسخرية القدر الفلسطيني، يجتمعون، لا لدراسة خطر القنبلة النووية الإيرانية بل لدراسة كيفية الخروج من الفشل الذريع في التصدي للطائرات الورقية لأطفال فلسطين ومكافحتها. ويبدو أن ضباط نتنياهو لا يملكون حلاً لهذه «المعضلة الاستراتيجية»، لذلك لجأوا إلى التصعيد، في توجيه الإنذار، مرة بشكل مباشر، عبر تصريحات نتنياهو في جولته التفقدية، في مستوطنات «غلاف غزة»، ومرة عبر المبعوث الأممي ملادينوف إلى قيادة المقاومة، إما وقف «حرب الطائرات»، وإما اللجوء إلى إغتيال القيادات الفلسطينية في قطاع غزة. ودعونا نقارن بين الفعل الفلسطيني، ورد الفعل الإسرائيلي، لنكتشف أن إسرائيل، وإن كانت جادة في التخلص من الطائرات الورقية إلا أنها تخفي أيضاً أهدافاً أخرى، تعتقد أنها بإنذارات الإغتيال، يمكنها أن تحققها. * * * إسرائيل تريد حقاً وقف «حرب الطائرات الورقية»، لأنها تحرجها أمام الآخرين. لكن إسرائيل، تريد، في مقدمة ما تريده، هو وقف «مسيرات العودة وكسر الحصار». وما الضغوط التي تمارس على القطاع، وآخرها إغلاق معبر «أبو سالم»، إلا من أجل وقف هذه «المسيرات » التي تحولت إلى محطات سياسية تنتظرها عواصم العالم بلهفة وترقب، وتثير في كل مرة ردود فعل صاخبة ضد إسرائيل، على وقع الدم الذي يسيل برصاص القناصة المنتشرين على طول الشريط الشائك. وإسرائيل تريد الوصول مع المقاومة إلى «صفقة» دائمة لوقف إطلاق نار طويل، يخرجها من أزمتها، وهي المتهمة على لسان مراقبين إسرائيليين أنها فشلت في امتلاك استراتيجية في معالجة الوضع في القطاع. لذلك ترى القيادة العسكرية الإسرائيلية أنه وبسبب الفشل الذريع واستحالة القضاء على المقاومة في القطاع، فإن الحل يجب أن يكون «سياسياً»، أي الوصول مع المقاومة في قطاع غزة إلى اتفاق «هدنة» (أي أكبر من تهدئة) تشكل مقدمة لفتح صفحة جديدة مع القطاع، هي صفحة زجه في الحل السياسي الذي يلوح في الأفق، وإسمه «صفقة العصر». وإذا كانت «صفقة العصر» في الضفة الفلسطينية تأخذ طابعها الخاص (الاستيطان- القدس – اللاجئون – حقوق الأسرى وعائلات الشهداء)فإنها في القطاع، معنية بأن تأخذ طابعاً خاصاً. منه على سبيل المثال، إلى جانب وقف «مسيرات العودة وكسر الحصار»، ووقف «الطائرات الورقية»، و«البالونات الحارقة»، توقف إسرائيل سياسة القنص، لأنه تصبح لا حاجة لها، وإلى جانب «الهدنة» الطويلة تبادل الأسرى، بحيث تستعيد حكومة نتنياهو من تعتقد أنهم أسرى من جنودها في قطاع غزة. هذا كله يمهد الأجواء للحديث بجدية أكبر، وبحماسة أكبر عن «المشاريع الانسانية» للقطاع إما من خلال خطة ملادينوف، أو من خلال بوابات أخرى، على طريق حل القضايا الحياتية للقطاع المتراكمة منذ العام 2007، وبحيث تبدأ «الرفاهية»، ويبدأ «الرخاء» يمدان خيوطهما إلى شرائح واسعة في القطاع. خاصة إذا ترافق هذا كله مع تقدم خطوات المصالحة، ورفع العقوبات عن الموظفين العموميين، وحل مشكلة موظفي حماس المعلقة كقضية خلافية. تتدفق الأموال على القطاع. وتتدفق المشاريع وفي إطار هذا كله تتدفق الحلول والسيناريوهات السياسية. هل يحتاج القطاع إلى الأموال؟ نعم يحتاج وهل يحتاج القطاع إلى مشاريع تنموية؟ نعم يحتاج لكن هل يجب أن تكون بوابته: • المصالحة الوطنية وإنهاء الانقسام. • عودة الوحدة بين القطاع والضفة. • الذهاب جميعاً إلى البرنامج الوطني، وطي صفحة أوسلو، والشروع بتطبيق قرارات المجلس الوطني. عندها نفوت الفرصة على نتنياهو، وعلى «صفقة العصر» وعلى أصحاب الأحلام الصغيرة.
http://www.alhourriah.ps/article/51385