■ .. والمقصود بغزة، كل القطاع بسكانه وقواه السياسية ومقاومته، برجاله ونسائه، وأطفاله وشيوخه، وشبانه وشاباته وجرحاه، وترابه المضمخ بدماء شهدائه. فهو معرض للحصار منذ أكثر من عشر سنوات، تواصل العدوان الإسرائيلي عليه في أكثر من جولة عدوانية دموية، يعاني صعوبات في ميادين الحياة كافة. اقتصاده بات شبه مدمر، ونسبة البطالة بين أبنائه عالية جداً، وخطيرة في آن، وشهد تطورات دراماتيكية منذ سنوات لا تحصى، تتوجها الآن سلسلة العقوبات التي يتعرض لها، على يد الاحتلال من جهة، وعلى يد السلطة الفلسطينية من جهة أخرى. فلماذا يكرهون غزة. • يكرهون قطاع غزة، لأنه في هذه الأيام بالذات، قدم نموذجاً لحالة العصيان الوطني، والتمرد الشعبي الشامل على الاحتلال، في إطار منظم، توحدت في فضائه عشرات الآلاف من أبناء القطاع، في «مسيرات العودة»، وأعادت إلى مقدمة الصفوف القضية الفلسطينية بما هي قضية حركة تحرر لشعب تحت الاحتلال وخلف الحصار، يناضل من أجل حقه في الحرية والاستقلال والعودة إلى الديار التي طرد منها، وليست قضية مفاوضات حول «سلام» مزعوم، يقوم على الإذعان، وفرض القيود السياسية والأمنية والاقتصادية على الشعب الفلسطيني، بقوة الحديد والنار، وتحت غطاء سياسي يقدمه «شريكاً لعملية سلام فاشلة». • يكرهون قطاع غزة، لأنه كشف حقيقة الاحتلال الإسرائيلي، وحقيقة الكيان الصهيوني، وأسقط عنه أقنعة الديمقراطية المزيفة، وأقنعة طهارة السلاح المزعوم، ورفع الغطاء عن أكاذيبه، باعتباره نظاماً استعماريا قاتلاً، يستعيد الأساليب النازية لتحقيق أهدافه العنصرية، في نهب الأرض، وهدم المنازل، وقتل النساء والأطفال، وتدمير كل ماله علاقة بالإنسانية في حياة الشعب الفلسطيني. • يكرهون قطاع غزة، لأنه، للمرة الثانية يحشر جنرالات العدو الإسرائيلي، ويدفع بهم نحو الحائط، ليعترفوا، كما اعترف من قبلهم إسحق رابين، في ذروة الانتفاضة الوطنية الكبرى، أن لا حل لثورة شعبية إلا بالسياسة، وأن العنف والقتل وحروب الإبادة أثبتت فشلها. الآن يبرز التناقض صارخاً، بين تصريحات جنرالات جيش الإحتلال، الذين جربوا القتل في القطاع، ليس على مدى الأسابيع الثالثة الماضية «أسابيع مسيرة العودة»، بل على مدى سنوات الصراع، استعملوا كل أنواع السلاح، في الجو، والبحر، والبر، بما فيه المحرم دولياً، ولم تنكسر شوكة القطاع، وتأكد مرة أخرى، أن هذا «الجيش الذي لا يقهر»، فشل في قهر قطاع غزة وإرغامه على الاستسلام. وما وصول جنرالات العدو إلى قناعة بفشل حلول القوة لحسم الأمر مع القطاع، سوى شكل آخر من أشكال الاستسلام والاعتراف بالهزيمة. * * * • يكرهون قطاع غزة، رفض الخضوع للإذلال والتسليم بالواقع المر. وحين إنسدت في وجهه الطرق، لجأ إلى هدم السدود، وإجتياح الحدود، بحثاً عن الحق في الحياة الكريمة، وعن الحق في الكرامة الوطنية. ومن الطبيعي أن تكون قيادة جيش الإحتلال قد وضعت في حسابها أن تتصاعد الثورة في صفوف أبناء القطاع، وأن يندفعوا مرة أخرى نحو الحدود، يزيلونها، لكن هذه المرة، نحو السياج الإسرائيلي، وليس نحو الحدود عند رفح، وهو تقدير خطير، أدرجته قوات الإحتلال في حسابها، بإعتباره «مأزقاً» سياسياً سيدخل إسرائيل في نفق مظلم على المستوى الدولي. • يكرهون قطاع غزة، لأنه أسقط مقولة أن المفاوضات هي الخيار الوحيد الممكن، عبره، الوصول إلى حل مع الجانب الإسرائيلي. ولأنه قدم أساليب متعددة في النضال، أثبتت كلها جدواها حين إستعملت في سياقها السياسي السليم. أنه أعطى لبندقية المقاومة موقعها في الحسابات السياسية الفلسطينية. ستبقى تصونه وتصون دورها، رغم كل الصراخ الهستيري الآتي من أروقة المقاطعة في رام الله، بشعار حق، يراد به الباطل، حول «البندقية الواحدة» و«القانون الواحد»، وحول تسلم القطاع من الباب إلى المحراب، وتجريد مقاومته من سلاحها المشروع، الذي كان له، وسيبقى شرف صياغة الصفحات الذهبية في تاريخ المقاومة الفلسطينية. صراخ هستيري، يتجاهل أن بندقية المقاومة في القطاع، باتت حقاً مقدساً من حقوق الشعب، والقضية، وإنها ورقة كبرى من «أوراق قوته»، وأن الدعوة لتجريده منها لا تخدم سوى المشروع الآخر، المتمثل في توصيف الاحتلال والولايات المتحدة لبندقية المقاومة أنها «الإرهاب»، وسلخها من موقعها الطبيعي للزج به عنوة، وعبر عملية تزوير مفضوحة في صراعات اقليمية، لم يدخلها الشعب الفلسطيني ولن يدخلها على الإطلاق. * * * كثيرون كانوا يحلمون ويتمنون أن يغرق قطاع غزة في البحر، ليضعوا بذلك نهاية لكابوس كان يؤرق عليهم نهارهم وليلهم. وهم الآن يحاولون أن يعيدوا صياغة قواعد اللعبة، دون تغيير الهدف. فيتباكون على القطاع، ويتظاهرون بجرمهم على انتشاله من أزماته، مستفيدين من حالة الانقسام التي تعصف بالقضية الوطنية. فيعدون القطاع بالمياه العذبة، وهم الذين سطوا على مياهه حين نشروا فوق أرضه مستوطناتهم. ويعدون القطاع بميناء متحرك، وهم الذين يغلقون البحر على صياديه وعلى سفن الإنقاذ القادمة إليه من الأصدقاء ويعدونه بخدمات حياتية، وهم الذين دمروا له اقتصاده، وجعلوا منه سجناً ضخماً يعتاش على المساعدات، ورهينة للاقتصاد الاسرائيلي وإجراءاته الجائرة. ويحولون القطاع، ضحية الاحتلال والحصار إلى سلعة يتاجرون بها في سوق المزاد العلني، يقدمون إلى الرأي العام وجههم الإنساني، بينما خناجرهم لا تتوقف عن تمزيق الجسد الغزي والتفنن في تقطيعه. كرهوا القطاع، أم لم يكرهوه. سيبقى علامة كبرى مميزة من علامات التاريخ الفلسطيني. فالقطاع ليس ملكاً لطرف سياسي دون غيره ولا لسلطة دون غيرها، بل هي ملك لشعبه، معقلاً من معاقل المقاومة ومسيرة العودة.■