بين الليطاني وتخوم غزة يزهر ورد الشهداء
2018-04-03
من يصدق أن أربعون عاماً مرت على أبديتك الخالدة يا بشير؟! هكذا، وبهذه السرعة، فهي بالنسبة لي تأتي وكأنها بالأمس، فما زال حضورك طاغياً، وذكراك متجددة ندية نضرة، بل وحية في قلوب كل من عرفوك، ما زلت أذكر كابوس تلك الليلة، والذي ملأ صدري بالضيق، بأن حادثاً جللاً قد ألم بك، وفقط في اليوم التالي اتضحت لي مدى خطورة هذا الكابوس دون تحديد واضح لطبيعة هذا الخطب الخطير، حيث وصلني تلكس يطلب مني الحضور فوراً إلى “بيروت بسبب =====اخوك بشير”، مشطوباً منها كلمة وكأن الذي سجلها في مكتب بريد القاهرة لم يطاوعه قلبه بنقل مثل هذا الخبر الصادم، فظل قلبي منقبضاً إلى ان اتضحت الكلمة المشطوبة من البرقية بعد وصولي إلى دمشق ومنها لبيروت، نعم، من يصدق؟ فهي ذكرى موجعة وما زالت تنز دماً وألماً من وسط جرح الذاكرة، ولكنها مجللة بالغار… ندية عطرة تفوح منها رائحة الشهداء في خلودهم بين “مقبرة الشهداء في بيروت” ومقابر شهداء فلسطين في كل مدينة وقرية ومخيم وآخرهم شهداء يوم الأرض في مسيرة العودة الكبرى! أربعون عاماً كانت حبلى بأحداث كبرى في مسيرة الثورة وأحلام الشعب الذي قضيت من أجل تحقيق أهدافه بالحرية والعودة وتقرير المصير، فصمودكم في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي في الليطاني في الخامس عشر من آذار 1978، مهَّد لملحمة الصمود الكبرى في بيروت عام 1982، وكلاهما أثمر انتفاضة كبرى مهدت لها تضحيات ومعاناة وعمل ومثابرة أجيال حملت في وجدانها برنامج الدولة والعودة، فانتقل الشعار الذي حيرني وظل يتنقل مع ذاكرتي بأن “لا صوت يعلو على صوت تحرير الجنوب” الذي حمله الشباب والمقاتلين في تشييعك إلى خلود الأبدية، ليصدح مجلجلاً بهتافات شعب، وحيث يجب أن يكون ملعلعاً في كل ساحات الوطن وميادينه وأزقته “بأن لا صوت يعلو على صوت الانتفاضة” التي حملت أحلام شعب، وتضحيات آلاف الشهداء وعشرات آلاف الجرحى ومئات آلاف المعتقلين والمشردين والمنفيين، لتزهو بهم في نشيد شعب يعاهد الشهداء بقسم الحرية والسير علي خطاهم نحو الخلاص من الاحتلال والانعتاق من ظلمه، وتزهر وردة لكل أم وعاشق للحرية والحياة… أحداث كانت دوماً حبلى بأمل الانتصار ونشيد العودة. اسمح لي يا رفيقي أن أكتم في قلبي ما يمكن أن يوجع روحك وأرواح كل الشهداء، فلن أخبرك عن التيه وتمزيق الأمل والتفريط بالألم والدموع الذي انسكب من عيون الأمهات الثكلى والآباء والأبناء على رحيل أغلى البشر… عشاق الحرية والحياة، وسأرجو الذين التحقوا واستحلفهم واحداً واحداً أن لا يخبروكم عما حل بنا، لعلنا نكون قادرين على استجماع قوة الضمير وإرادة الوفاء التي نستمدها من صفاء أرواحكم على محو هذا الفصل المعتم من مسيرة شعب استحق ان يكون شعب الشهداء، لنعود قادرين ونجرؤ على لقائكم متحدين خلف نهوض وطني عارم اجترحه الإبداع الشعبي على تخوم غزة مقدماً عناصر استراتيجية فاعلة للكفاح الوطني ترتكز على المقاومة السلمية والوحدة الشعبية التي لا يمكن أن تقهر، كي نستمر موحدين نتوارث حكايات التغريبة الفلسطينية ودروسها التي تجعلنا نستحق الوفاء لأرواحكم، ونستعيد رفاة جثامينكم لتراب وطن سيظل فخوراً بتضحياتكم وفياً لدموع الأمهات الثكالى، ولوعد الفرح على شفاه أطفال وصبايا يرقصون كفراشات في يوم النصر القادم. قم يا أخي ورفيق درب المناضلين القابضين على جمر الحياة وأخبرهم أن هذه السنين لم تكن سوى كابوس ثقيل يغادر ليلنا لنظل ممسكين بوعد الوفاء واقفين نتحدى الريح. نعم، من اعتقد أن تضحياتكم تذهب هدراً وأن تدجين الشعب وجعل قضيته لقمة صائغة بات في متناول اليد، فهو لا يعرف الفلسطيني الذي ما يلبث أن يهدأ إلا لينطلق مجدداً كطائر الفينيق. قم وعُد لنا، فنحن بحاجة لمن يُطفئ نارنا ويمسح غبار المرحلة، عُد يا بشير وصحبك الشهداء لتبشر الأجيال وتروي لهم عن مستقبل لن يحيد عن قسم الوفاء ووعد من يستحقون الفرح، وعن تاريخ لن ينجح العابرون في تزييفه، ولا سرقة ابتسامات أطفاله. عد فلم نعد نحتمل العبث. وها هم شبان وصبايا غزة ينهضون كماردٍ لا يمكن تدجينه أو إطفاء روح تمرده. عد فقد وعدتني بأن الشهداء يعودون هذا الربيع. وها قد انتظرناك أربعين ربيعاً يا بشير! عد يا أخي كي نسقي الدالية والزيتونة ونوقد شمعة تكسر ظلمتنا وعلّها تدلنا على الطريق! في الرابع من نيسان تحل الذكرى الأربعين لاستشهاد المناضل بشير عوض زقوت. ولد بشير في 17 ديسمبر 1950 في مخيم الشاطئ بغزة بعد حوالي عامين من نكبة فلسطين لأسرة لجأت من بلدة اسدود الى مدينة غزة. التحق مبكراً بالنضال الوطني. وانتسب إلى كلية الهندسة في جامعة شبين الكوم في مصر حيث كان عضواً في الجبهة الشعبية ومن ثم في الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين. أبعد من مصر عام 1969 إثر إعلان ما سمي ب”مبادرة روجرز “، حيث واصل دراسة الهندسة في بغداد، والتي أُبعد منها بعد أن شكلت بغداد جبهة الرفض ضد البرنامج المرحلي للمنظمة عام 1974، وواصل دراسته في جامعة دمشق إلى أن أعتقل وأُبعد منها مجدداً إلى بيروت عام 1976 إثر التدخل العسكري السوري ضد الثورة الفلسطينية في لبنان. انضم إلى القوات المسلحة الثورية للجبهة الديمقراطية وعمل مفوضاً سياسياً لكتيبة بيسان. تصدى ورفاقه من قوات الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية لقوات الغزو الإسرائيلية التي اجتاحت الجنوب اللبناني في “معركة الليطاني” 15آذار 1978، حيث قاتل ببسالة في معركة الحاصباني، وكلف بعد وقف إطلاق النار بمتابعة العلاقة مع قوات الطوارئ الدولية في هذا المحور من جنوب لبنان. استشهد يوم 4-4-1978 إثر إصابته بقنبلة عنقودية بعد عودته من اجتماع مع قوات الطوارئ الدولية. شيعت جنازته في بيروت بموكب جماهيري ووطني وعسكري مميز. ولم تتمكن سوى والدته ومعها شقيقه منير من الوصول إلى بيروت للمشاركة في جنازته، حيث أعيد والده وأعمامه من الحدود العربية واحدا تلو الآخر. • كاتب فلسطيني.
http://www.alhourriah.ps/article/49759