• كل الطرق تقود إلى "الدولة الواحدة"..!
    2018-01-28
    الأمنية المطلقة لكل الفلسطينيين والعرب، هي تحرير فلسطين، بمعنى طرد الغزاة الغرباء الذين جاؤوا إليها واحتلوها بقوة السلاح. والتحرير بهذا المعنى أخلاقي بكل المعاني، لأن الذي يغزو بيتك الذي ورثته وبنيته ويقتل أولادك ويشردك، ليست له شفاعة أخلاقية. ولم يكُن الفلسطينيون قبل احتلال وطنهم شعباً عدوانياً، وكانت فلسطين قبل سقوطها بيد الغزاة وطناً دافئاً لأهلها من مختلف العقائد والأديان، ومضيافة لكل زائر ومقيم، ومنفتحة على التفاعل الحضاري والتقدم.
    لكن تحرير فلسطين بالمعنى المذكور يصبح مستحيلاً يوماً بعد يوم. فخلال سبعين عاماً انقضت الآن منذ نكبة 1948، كرَّس الاحتلال نفسه ليصبح قوّة عسكرية إقليمية كبيرة. وتمكَّن من كسب شرعية قانونية لنفسه في المؤسسات الدولية –في أراضي فلسطين التاريخية 1948- بل والحصول على اعتراف عربي وفلسطيني، بحيث أصبح الاحتلال نفسه "حقيقة على الأرض". ويعني "تحرير فلسطين" الآن أن يخوض العربُ حرباً حاسمةً بكل قدراتهم العسكرية وإرادتهم ضد الكيان، والتي ستكون أيضاً ضد الولايات المتحدة وغيرها من المؤمنين بقضية المستعمرين الصهاينة أو المستفيدين منهم. ومن المستحيل تقريباً أن يشن الفلسطينيون حرب تحرير بالمفهوم العسكري، لأنّه ليست لهم أرض يقفون عليها ويبنون فيها جيشاً مجهزاً ينطلق لتطهير الأرض شارعاً شارعاً وبيتاً بيتاً.
    بطبيعة الحال، لا يبدو أن هناك إرادة عربية في أي وقت قريب لمحاربة ما تدعى "إسرائيل" بقصد تحرير فلسطين. وقد بذل الفلسطينيون، من جهتهم، كل جهد ممكن، عسكرياً وشعبياً، من أجل استعادة أرضهم. لكنهم كانوا بلا ظهير حقيقي. وقد أوصلهم انغلاق آفاق الكفاح المسلح إلى الملاذ الأخير المؤلم المتمثل في التنازل على مضض عن معظم وطنهم التاريخي، والقبول بقطعة صغيرة منه، على أساس "حل الدولتين". لكن هذا الخيار فشل أيضاً بسبب افتقار الفلسطينيين إلى أي وسيلة ضغط يعتد بها، والتخلي عنهم، وتحكم الولايات المتحدة بالمسارات وعجز المجتمع الدولي عن فعل شيء لإنفاذ إرادته.
    ما يتشكل على مدى العقود في فلسطين المحتلة، عن قصد أو غير ذلك، هو ما يدعى "الدولة الواحدة ثنائية القومية" في فلسطين التاريخية. وهو شيء يقاومه الفلسطينيون، من خلال دفعهم إلى "حل الدولتين" والانفصال عن الكيان، ولو بوطن منقوص، وهو شيء يقاومه أيضاً أنصار فكرة "يهودية الدولة" من المعسكر المقابل، على اعتبار أن الاتجاهات الديمغرافية في فلسطين التاريخية تتجه إلى تحقيق أغلبية عربية على حساب المستعمرين اليهود.
    كما هو واضح من قرار ترامب الأخير المتعلق بالقدس، و"صفقة القرن" المتوقعة، سوف ينتهي بشكل من الأشكال شكل "الدويلة" الصوري في الضفة الغربية ومعه وظيفة "السلطة الفلسطينية"، وسوف يعود الاحتلال الذي لم يتوقف يوماً إلى حقيقته. وسوف يجد الفلسطينيون نفسهم غالباً أمام الشكل الوحيد المتبقي للنضال: النشاط الشعبي الصعب من أجل حقوق المواطنة والمساواة في نظام فصل عنصري قاسٍ في وطنهم التاريخي. وسوف يضطرون إلى التعامل موضوعياً مع فكرة استحالة تحرير فلسطين بإسقاط مؤسسة الكيان عسكرياً وإعادة الغزاة إلى المناطق التي أتوا منها.
    في المقابل، يرى الكثيرون من منظري سياسة الكيان أيضاً أنه ليس هناك مستقبل لما تدعى "دولة إسرائيل" في هذه المنطقة، ما لم تتعامل بطريقة مختلفة مع الصراع. فهي في نهاية المطاف عضوٌ غريب على جسم المنطقة، مسكون بالخوف ومحاط بالأسوار ومدجج بالسلاح وفاقد للأسس الأخلاقية وللعناصر الطبيعية. ولذلك، قد يكون الحل على المدى البعيد تطبيع "مواطني" هذا الكيان أنفسهم في المنطقة بقبول الفلسطينيين الأصليين كمواطنين بكامل الحقوق والواجبات، والعمل على إطفاء العداوات وتكوين أُمّة من شعبين يوحدهما حكم القانون ومصلحة البقاء المشتركة.
    بطبيعة الحال، يرفض العقل الشوفيني الحاكم في فلسطين المحتلة هذا التصوُّر من منطلقات التعالي والإقصاء، بما ينطوي عليه ذلك من خطر وجودي ماثل في كل لحظة، وأقله تعامل الكيان مع صورته الحتمية كنظام أبارتيد مكروه وغير أخلاقي، وأقصاه تغيُّر ظروف المنطقة –بحرب مفاجئة أو حدث تاريخي مفصلي- يُسقط النظام الصهيوني عسكرياً.
    مع ذلك، يبدو أن على الفلسطينيين في التحصيل الأخير التفكير جدياً في الاحتمال الوحيد المتاح على ما يبدو –بل والعمل في اتجاهه على علاته- والمتمثل في التعايش مع "الدولة الواحدة" بأفضل شروط يمكن تحقيقها بالنضال الشاق الجديد.

    http://www.alhourriah.ps/article/48457