في خطابه المطول أمام المجلس المركزي الفلسطيني (14/1/2018) والذي كان ممكنا اختصاره كسباً للوقت، دون أن تتأثر معانيه وما حمله من رسائل، أكد رئيس اللجنة التنفيذية محمود عباس«أننا لن نكرر أخطاء الماضي». وأشار بوضوح إلى «أخطاء 1948»، و«أخطاء 1967»، لكنه تجاهل ـــ للأسف ـــ أخطاء 1993 وما بعدها، والتي مازلنا حتى الآن، نقطف ثمارها السامة. فنحن، كشعب فلسطيني، وكقوى سياسية فاعلة في صفوفه، تجاوزنا هذه الأخطاء، من خلال إعادة بناء الشخصية والكيانية الوطنية الفلسطينية، وانطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، بأشكالها المختلفة، بالمقاومة المسلحة، والشعبية، والسياسية، والدبلوماسية، والثقافية وسواها. وسلحنا هذه الثورة ببرنامج سياسي ثوري أعاد القضية الوطنية الفلسطينية إلى المعادلات الدولية من بوابة اعتراف الأمم المتحدة بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً لشعب فلسطين، والإقرار بحق هذا الشعب بتقرير مصيره، وإقامة دولته الوطنية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشرقية، على حدود 4 حزيران (يونيو) 67، وحق العودة للاجئين بموجب القرار 194، إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها منذ العام 1948. وتحت راية هذا البرنامج انطلقت الانتفاضة الوطنية الكبرى، وصدر في المجلس الوطني (15/11/1988) إعلان الاستقلال، للتأكيد أن هدف مسيرتنا الوطنية، هو قيام الدولة الفلسطينية المستقلة. لكن ما جرى فيما بعد، أن قامت القيادة المتنفذة، عبر مطبخها السياسي، الذي كرس نفسه بديلاً للقيادة الإئتلافية لمنظمة التحرير، بالانقلاب على البرنامج الوطني، وعلى إعلان الاستقلال، وعلى الانتفاضة الشعبية، وعلى الإرادة الشعبية، وذهبت منفردة، ومن وراء ظهر الجميع، إلى اتفاقات أوسلو الكارثية. ومع هذه الاتفاقات بدأت رحلة المعاناة المأساوية للشعب الفلسطيني، تحت الاحتلال، في القدس والضفة الفلسطينية وقطاع غزة، وفي الشتات في مخيمات اللجوء والمنافي، وفي مناطق الـ 48 أيضاً. وتكشفت يوماً بعد يوم زيف الوعود التي حملها هذا الاتفاق، وصحة التحذيرات التي أطلقتها القوى الوطنية والديمقراطية الفلسطينية من مخاطر هذا المنزلق. إلى أن وصل بنا المطاف إلى الرهان على «صفقة القرن»، على لسان القيادة الرسمية الفلسطينية، التي رحبت بها، وأيدتها، بدعوى أنها ستحمل إلينا الحل. ليتبين أيضاً، وكما حذرت القوى الوطنية والديمقراطية، أن هذه الصفقة هي على حساب شعب فلسطين وحقوقه الوطنية المشروعة. وحين تكون فاتحة «الصفقة» الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ستكون خاتمتها شطب الكيانية الفلسطينية، وحل نهائي وفق الشروط والمقاييس الإسرائيلية، دون غيرها. * * * القيادات التقليدية الفلسطينية، قبل النكبة، أدركت مخاطر وعد بلفور وأدركت مخاطر صك الإنتداب البريطاني، وأدركت خطورة الدور البريطاني في تشييد أركان الكيان الصهيوني في فلسطين. لكنها مع ذلك لم تفك إرتباطها ببريطانيا، وظلت حريصة على مد جسور العلاقة مع الإنتداب، للحفاظ على مكاسبها الفوقية، والفئوية والطبقية، على حساب مصالح أبناء الشعب، الفلاحين والمزارعين في الريف الفلسطيني، الذين كانت أرضهم ومياههم هي الهدف المباشر للغزوات الصهيونية، والعمال والإجراء في المدن الفلسطينية، الذين زاحمتهم على مصدر عيشهم اليد العاملة اليهودية، التي سرعان ما انتظمت في الهستدروت الإسرائيلي في تطوير هجماتها على المصالح الوطنية الفلسطينية. إلى أن كانت «نكبة العصر»، عام 1948، حين تفكك الوطن الفلسطيني وتشظى. القيادة الرسمية الفلسطينية الحالية تدرك جيداً الدور الأميركي في إسناد إسرائيل ومدها بكل متطلبات التفوق في المنطقة، وتدرك الدور الأميركي المنحاز دوماً إلى الجانب الإسرائيلي في رسم سيناريوهات الحلول للصراع. ولعلّ تجربة الراحل ياسر عرفات في كامب ديفيد 2 (تموز/ يوليو 2000) كانت ذروة التجربة الفاشلة في الرهان على الدور الأميركي. ومع ذلك استمرت حتى «الرمق الأخير» في السير خلف الدور الأميركي والرهان على «الراعي» الأميركي، والرهان على قدرة الراعي الأميركي في الضغط على إسرائيل، والاعتقاد الراسخ أن 99% بل 100% من أوراق الحل والربط والضغط بيد واشنطن. لتأتي «صفعة العصر» على وجه القيادة الرسمية الفلسطينية (كما اعترف رئيس اللجنة التنفيذية نفسه بذلك)، لتنهي الوهم حول «مفاوضات الحل الدائم» وحول الرهان على هذه المفاوضات، ولتؤكد بشكل فاقع أن كل ما كان يجري تحت سقف أوسلو، هو ترتيب الوضع ميدانياً للوصول إلى هذه النقطة، إن كان بالاستيطان، أو بالتهويد، أو بتدبير الاقتصاد الفلسطيني، أو بدمجه بالاقتصاد الإسرائيلي، أو بتحويل السلطة الفلسطينية إلى عالة تعتاش على المقاصة الإسرائيلية وعلى أموال الجهات المانحة وفي ظل شروط وقيود شديدة التعقيد. ما قبل النكبة، كانت القيادات الوطنية التقليدية تحرص على التمسك بالمقاومة «السلمية»، كالإضرابات والتظاهرات وإصدار البيانات وتقديم المذكرات وسواها. وكانت تحرص على عدم «الانجرار» إلى «العنف». لا مع الاحتلال البريطاني، ولا مع الغزوة الصهيونية. وحتى عندما استشهد الشيخ عز الدين القسام، تغيبت هذه القيادات عن تشييع جنازته (ربما خوفاً من الجماهير، وبالتأكيد مراعاة لمشاعر الاحتلال البريطاني) وتوقفت في احتجاجها عند حدود «الإضراب الطويل»، ولم تنخرط بالثورة المسلحة التي اندلعت عام 1936. المقاومة «السلمية» كان هو سقف تحركها. ما جرى أن العصابات المسلحة الصهيونية بنت تشكيلاتها العسكرية، والمسلحة، بينما تركت القرى والبلدات والمدن الفلسطينية عزلاءْ، وعندما انفجرت الأوضاع، وجد الشعب الفلسطيني نفسه أمام جيش صهيوني بتشكيلات وأسلحة نظامية، بما فيها الطائرات الحربية والدبابات والمصفحات. وكان أمراً طبيعياً أن تنهزم المقاومة الفلسطينية المشتتة في الريف وفي المدن، لغياب التنظيم وغياب الإستراتيجيات، تحت تأثير القيادات التي رسمت للحركة الشعبية حدوداً، أرادت بها، ألا تتخطى هذه الحركة مصالح القيادات التقليدية، الفئوية والطبقية. فكانت النكبة. تجربة المقاومة السلمية تكرر نفسها. وليست المشكلة أننا نخجل لهذه المقاومة أولا نخجل. هذا تزوير وحَرَف للنقاش. من منا يخجل إذا حمل الشبان حجارتهم في وجه الاحتلال، أو حتى لوحوا بعلم فلسطين. الخجل أن نتبرأ من المقاومة المسلحة، وأن نغمز من قناتها أنها إرهاب، وأن نعلن فعل الندامة والتوبة في التأكيد، بمناسبة وبدون مناسبة أننا ضد الإرهاب وأننا سنقاوم الإرهاب. ليتبين أن الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة لا تقاوم «الإرهاب المنظم» للاحتلال، بل تتعاون مع هذا «الإرهاب المنظم»، في مطاردة النشطاء والمناضلين الشبان، والنشطاء في فصائل المقاومة، عبر استدعائهم إلى مراكز التحقيق أو الزج بهم في السجون. من نتائج هذا «التعاون»، المسمى « تنسيقاً»، أنه ألحق الضرر ببنية المقاومة في الضفة الفلسطينية وضيق عليها، وحدّ من قدرتها، وشاغب على قدرتها على النمو. * * * • لن نتحدث عن الاستيطان الذي تغوّل في ظل أوسلو. • ولن نتحدث عن تغول سياسة القتل والإعتقالات الجماعية. • ولن نتحدث عن سياسة تهويد القدس وتدمير مؤسساتها وإرهاق البنية التحتية للتواجد الفلسطيني فيها. • ولن نتحدث عن الإفتراق السياسي الذي أصاب العلاقة بين الشعب في مناطق الـ 48 وبين الشعب خارجها. • ولن نتحدث عن إضعاف حق العودة، والتلويح بالاستعداد للتخلي عنه. • ولن نتحدث عن تهميش منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها، وتهميش «الخارج» الفلسطيني، وتعداده لا يقل عن خمسة ملايين. • ولن نتحدث عن الزمن الضائع والعمر المهدور. والدم المسفوك في ظل سياسات عقيمة وعبثية. بل نتحدث عن سياسة «عقيمة وعبثية»، مازالت حتى الآن تعاند، وترفض الاعتراف بمسؤولياتها عن كوارث ربع القرن الأخير من عمر القضية الوطنية. هل حقاً تعلمت القيادة الرسمية دروس نكبة 1948؟ وهل حقاً تعلمت دروس نكسة 1967؟ هل تعتقدون ذلك حقاً؟■
http://www.alhourriah.ps/article/48348