
فلسطين في الأدبيات الروسية
في كتابهِ "فلسطين في مرآة الثقافة الروسية" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2022)، يلقي الباحث والدكتور محمد دياب الضوء على فلسطين كما ظهرت في وثائق الحجاج الروس إلى الأماكن المقدسة. ومن خلال نسقٍ تاريخي يبدأ من القرن الثاني عشر حتى بدايات القرن العشرين، وإلى جانب ما كتبه عنها الأدباء والشعراء الروس، يكشف الصورة التي ظهرت عليها في رسومات الفنانين الروس الذين تركوا لوحاتٍ تعكس صورة الحياة في فلسطين، وتشكل مصدراً مهماً لتاريخ فلسطين القديم.
ويذكر الباحث، المحاضر في الجامعة الأميركية في بيروت، أن فلسطين كانت حاضرة في الوعي الروسي، إذ بدأت الفرق السلافية التغلغل في أراضي سوريا وفلسطين منذ أواسط القرن السابع عشر، وتتضمن أقدم مخطوطة روسية وصلت إلى أيدي الباحثين تحت عنوان "قصص السنين الغابرة"، عام 1110، والتي تضمنت معلومات جغرافية دقيقة وقيّمة عن مدن الأراضي المقدسة.
ويشير الباحث إلى ارتباط الثقافة الروسية بأواصر روحية خفية لا تنفصم عن الأراضي المقدسة، الأمر الذي يترك تأثيراً محدداً في تكوين الحضارة الروسية.
ومع الوقت صار تبجيل الأماكن المقدسة والحج إلى القدس وبيت لحم مفضلاً لدى الأدباء والشعراء الروس، إذ تغنوا بها عبر قصصهم ورسائلهم، فضلاً عن مساهمة الكتب المسيحية والأيقنوغرافيا وذخائر القديسين في تشكيل تصوراتٍ في الوعي التاريخي الروسي، والتي تمحورت حول انتماء روسيا إلى ذلك العالم الذي ترمز إليه مدينة القدس.
ينخرط الباحث في أدب رحلات الحجاج الروس إلى الأراضي المقدسة، مؤكداً سعي روسيا لخلقِ حضورها الدائم في الشرق وترسيخ وجودها فيه. وكان لهذا الأدب ما يميزهُ، ذلك بأن عدداً من دارسيه كشف أن الهدف منه لم يكن نشر المعرفة الدنيوية عن عالم الخليقة، بل كان للتنوير الروحي. ولأن اهتمام الحجاج كله تركز على وصف الأماكن المقدسة وربطها بأحداث الكتاب المقدس،كانت رموز الفضاء المقدس، بالنسبة إلى الحاجّ، موضوعاً أكثر أهمية من صور الزمان الفاني.
فما إن يأتي إلى فلسطين حتى يشعر بالانفصال عن زمنهِ ليزيح المقدس الغارق في القدم واقعهُ اليومي. وهنا يردنا الباحث إلى القرن الثامن عشر حين تزايدَ اهتمام الدولة الروسية بشرق البحر المتوسط،إذ استقبلت فلسطين والمشرق العربي أعداداً كبيرة من الأدباء والمؤرخين والسياسيين الروس، فضلاً عن الديبلوماسيين والرحالة، وهو ما أدى إلى إعلان روسيا بصفتها "روما الثالثة"، وبصفتها حامية الأرثوذكس في الشرق، في إبان الحرب الروسية التركية (1828-1829).
ويقول الدكتور دياب: تتمثل السمة المميزة لأدب رحلات الحجاج إلى القدس، ليس في فهم الأراضي المقدسة بصورة رمزية فحسب، بل في القصور الذي شابَ الكشفَ عن صورتها التي افترضت وجود صورة أصلية أسطورية في وعي القارئ. فثراء طبيعة شرق المتوسط، كما يبدو في كتابات الحجاج، يندرج تماماً في صورة الأرض المقدسة بصفتها جنة الله على الأرض. وعُني الحجاج الأوائل بالحديث عما عدّوه أساسياً وراسخاً وأبدياً.
فتركزَ اهتمامهم في كتاباتهم على الأرض المقدسة من دون أن يعيروا اهتماماً للناس الذين يعيشون فيتلك الأرض. ولربما كان ذلك سببه أن معرفة الحجاج الأوائل بالأماكن والمعالم الجغرافية الفلسطينية كانت سطحية واختلطت عليهم أمورٌ كثيرة، سواء في تعريف المدن أو الجبال أو في التخلص من معارفهم عن فلسطين، والتي كانت تستند إلى الخرافة والأساطير إلى حد بعيد.
أما فيما يخص أعمال الفنانين الروس حيال فلسطين؛ فيشير الدكتور دياب إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بحيث بدأت في روسيا موجة جديدة من الاهتمام بفلسطين كأرض مقدسة وقبلة للمسيحيين. فأُنشئت الجمعية الفلسطينية الأرثوذكسية في سان بطرسبورغ.
وتبدلت في تلك الحقبة ظروف الرحلات إلى الشرق، وتراجعت إلى حد بعيد المخاطر التي كانت تواجه الحجاج الأوائل. وشكل ذلك حافزاً ليزورها الرسامون،ومنهم الرسام والأكاديمي مكسيم فوربيوف (1787-1855) الذي عرّف الجمهور الروسي إلى طبيعة الأراضي المقدسة، وصوّر الأشخاص ومناخ المكان المحيط بهم، مندمجاً في العمارة والمشهد العام المحيط بها. أما الرسام العظيم إيليا ريبين (1844-1930) فزار فلسطين صيف عام 1898، وأنجز فيها مجموعة من اللوحات والرسوم.
ولم يكن اهتمام روسيا بشرق المتوسط والأماكن المقدسة في فلسطين مصادفة، بل ثمة عوامل دينية وسياسية تفسر ذلك. لقد أدى سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين عام 1453 إلى تضعضع الكنيسة الشرقية، وعدّ الحكام الروس أنفسهم ورثة عرش بيزنطية وحماة الكنيسة الأرثوذكسية في حدود الإمبراطورية العثمانية التي عدتها روسيا الحافظة الوحيدة للتقوى المسيحية.
وهو ما دفع الروس إلى تشكيل "بعثات روحية" إلى القدس، وإنشاء لجنة فلسطينية غير حكومية لعموم روسيا، وبعدها اللجنة الفلسطينية عام 1859، لكن تحت إشراف الوزارة التي ساهمت فيما بعد في إنشاء مجمع الموسكوبية في القدس.
أما في العصر السوفياتي، فتراجع نسبياً الطابع الروحي الديني في العلاقة الروسية الفلسطينية، وغلب السياسي فيها. فاعترفت الحكومة السوفياتية بدولة فلسطين، وكانت من أوائل الدول التي افتتحت سفارة فلسطينية في عاصمتها، وقدمت دعماً سياسياً وعسكرياً إلى منظمة التحرير الفلسطينية ودعمتها في المحافل الدولية.
وما لا شك فيه أن تاريخ العلاقات الروسية - الفلسطينية، على الرغم من تقاليدها العريقة والغنية، شهد حالات صعود وهبوط. لكن، على الرغم من ذلك، فإن اهتمام الروس بالأرض المقدسة وانجذابهم الروحي إليها كانا عظيمين دائماً. ففلسطين، بالنسبة إلى روسيا، بحسب رأي سيرغي ستيباشين، الذي انتُخب في عام 2007 رئيساً للجمعية الفلسطينية الإمبراطورية، "تمثّل ذلك الجزء من ذاكرتنا التاريخية، ومن واجبنا المحافظة على هذه الذاكرة وترسيخها في فضاء العالم الروسي".
تجدر الإشارة هنا إلى أن ما يميز الكتابات المعاصرة عن فلسطين هو ذلك التنوع، إلى حد التناقض أحياناً، وبين ما هو متعاطف بالكامل وتمثل مقاربته استمراراً لتقاليد مدرسة الاستشراق والاستعراب الروسية في العهد السوفياتي، والتي قاربت فلسطين وقضية شعبها بصورة علمية وموضوعية، وبقدر كبير من التعاطف مع هذا القضية وتأكيد عدالتها، وبين ما هو محايد، من جهة ثانية، إلى حد يعكس، بصورة أو بأخرى، السياسة الخارجية البراغماتية للدولة الروسية الراهنة.
أضف تعليق