18 كانون الثاني 2025 الساعة 13:10

هل تدرج اليونيسكو "مقدّمة" ابن خلدون ضمن "ذاكرة العالم"؟

2025-01-18 عدد القراءات : 11

"إنّ التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، وفي باطنه نظر وتحقيق". حكمة أثبتت صحتها وقدرة صاحبها على الاستشراف وتجاوز الزمن لتضمّنها معطيات دقيقة عن علم التاريخ وفنّه، ليس من خلال سرد الأحداث عبر تعاقب الحضارات والأزمان فحسب، بل أيضاً لأنّ "فنّ التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال، تشدّ إليها الركائب والرحال". هكذا قال العلّامة عبد الرحمن ابن خلدون، في مقدّمته المعروفة بــ "مقدّمة ابن خلدون". والتأريخ أمر لا غنى عنه لأيّ أمّة أو شعب، لأنه جوهر حضاري وإنساني، لكنه أيضاً نظر عميق وتحقيق دقيق. 

وقد فسّر ابن خلدون ذلك بشكل واسع في مقدّمته الشهيرة التي منحته سبق التأسيس لعلم الاجتماع وبات بمثابة موسوعة علمية تُرجمت إلى لغات عديدة آخرها اليابانية. 

إذ يتميّز مؤلّف المقدّمة بعمق معرفي وبعد استشرافي، جعله مرجعاً معتمداً في المناهج العلمية في جامعات عالمية، للاستفادة من فكر ابن خلدون السابق لعصره وتعمّقه في تاريخ المجتمعات والحضارات، حيث أثبت الواقع صدق نظريته وصوابية حكمه.

ابن خلدون في "ذاكرة العالم"

نجح العلّامة التونسي، ابن خلدون، في تحويل الظواهر الاجتماعية إلى منهج علمي، توصّل من خلاله إلى إثبات الكثير من الحقائق والنظريات، مثّلت نهضة كبيرة في مجال الدراسات الاجتماعية والتاريخية، ليكون بذلك مؤسس علم الاجتماع، وقد سبق غيره من المفكّرين والفلاسفة إلى العديد من الأفكار. 

هكذا خلّف لنا ابن خلدون إرثاً ثقافياً وإنسانياً من المهم أن يدرج ضمن ذاكرة العالم. من أجل هذه الغاية تداعى عدد من المؤرّخين والمشتغلين في علم الاجتماع من تونس ودول أخرى من بينها فرنسا والولايات المتحدة، للعمل من أجل تسجيل "مقدّمة ابن خلدون" في سجل "ذاكرة العالم" لدى منظّمة "اليونيسكو". وقد تقدّمت تونس بخطوات مهمة في هذا الاتجاه بهدف تخليد أثر ابن خلدون ضمن التراث الفكري الإنساني بصفته رائداً لــ "علم العمران البشري".

في حديثه مع "الميادين الثقافية"، قال المنسّق العام للجنة الدولية لدعم تسجيل مقدّمة ابن خلدون، عبد الحميد الأرقش، "لقد بدأنا أولى الخطوات لتسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة التراث العالمي، كتراث إنساني مشترك لكلّ البلدان التي ساهمت في إعادة التعريف بابن خلدون، بما فيها بعض الجهات الغربية، نذكر منها المدرسة الاستشراقية الفرنسية والإنكليزية". 

وأوضح أنه "تمّ جمع جزء كبير من نسخ المقدّمة من دول مختلفة لتضمينها في الملف والذي أصبح جاهزاً لتقديمه إلى "اليونيسكو"، عبر وزارة الثقافة التونسية، باعتبارها المؤسسة الرسمية المعنية بذلك".

وتأتي هذه الخطوة، وفق الأرقش، بعد جهود متواصلة، حيث أعيد إحياء ملف إدراج "مقدّمة ابن خلدون" بعد طرح هذه المبادرة منذ العام 2017، لكنها راوحت مكانها منذ ذلك التاريخ. 

وأكّد الأرقش أنّ "الأفكار التي نقلها ابن خلدون تعتبر مدروسة ومترجمة ومنتشرة في العالم، ما يبرز أهمية تسجيل هذا الكتاب كتراث إنساني عالمي مشترك، لما يزخر به من معارف ولأنّ ابن خلدون أممي بفكره".

التاريخ ليس مجرّد رواية 

و"المقدّمة" كتاب ألّفه ابن خلدون سنة 1377 ميلادية كمقدّمة لمؤلّفه الضخم بعنوان "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر".

واعتبرت المقدّمة بعد ذلك مؤلّفاً منفصلاً ذا طابع موسوعي لما تضمّنته من أطروحات في فلسفة التاريخ، حيث تمّ التطرّق فيه إلى جميع مجالات المعرفة، من الشريعة والتاريخ والجغرافيا وصولاً إلى الاقتصاد والعمران والاجتماع والسياسة والطبّ، إضافة الى كيفيّة نشأة الأمم وتطوّرها وأسباب انهيارها، مركِّزاً في تفسير ذلك على مفهوم العصبية.

وكتب ابن خلدون "المقدّمة" خلال رحلاته بين تونس حيث وُلد ونشأ، والجزائر والمغرب ومصر، وكان في الــ 43 من عمره، وقد أهدى منها نُسخاً للعديد من الأمراء والملوك، لذلك ظلّت آثار "المقدّمة" الكتاب الأكثر شهرة في الكثير من البلدان.

وقد ثمّن عديد المؤرّخين الإرث العلمي الكبير الذي تركه ابن خلدون للإنسانية، حيث اعتبر المؤرّخ البريطاني، أرنولد توينبي، في كتابه "دراسة التاريخ"، أنّ ابن خلدون: "قدّم فلسفة للتاريخ تعتبر من دون شكّ من أعظم ما أنتجت عبقرية لم يكن لها مثيل في أيّ مكان أو زمان". 

كما اعتبره المؤرّخ اللبناني، فيليب حتّي، "من أعظم الفلاسفة والمؤرّخين الذين أنجبتهم الحضارة الإسلامية، وهو من أكبر ما أنجبت كلّ العصور والأزمنة".

وامتاز ابن خلدون عن غيره من المؤرّخين برؤيته للتاريخ، فلم يرَ فيه مجرّد رواية للأحداث، بل علماً يجب أن يُدْرس وفق منهجٍ واضحٍ، وانتهت رؤيته إلى اكتشاف نوع من الفلسفة الاجتماعية أطلق عليها اسم "العمران البشري".

وكان لمؤلفات ابن خلدون أثرٌ كبير في الفكر العالمي. إذ يُعدُّ أول من درس نشوء وتفكّك الدول وفق رؤيةٍ كاملة شملت النُظم السياسية والاجتماعية والسياسات الاقتصادية والنقدية، إضافة إلى مستوى التقدّم في العُمران المدني، حيث مثّل منارةً علميةً في العلوم السياسية والاقتصاد ودُرّست مؤلفاته وتُرجمت إلى عدّة لغات، وأولُ هذه الدراسات كانت على يد جاكوب خوليو الذي تتبّع فكر ابن خلدون وألّف كتابه المعنون رحلات ابن خلدون عام 1636.

ووُلد ابن خلدون في تونس زمن الدوّلة الحفصية، (سنة 732هـ المُوافقة لسنة 1332م ) وقضى فيها طفولته قبل أن يبدأ تنقّله بين المُدن في المغرب العربي وبلاد الأندلس واعتكف وهو في المغرب للدراسة، وأنهى مقدّمته الشهيرة قبل هجرته إلى مصر.

ولا يزال منزل ابن خلدون الذي نشأ فيه في "نهج تربة الباي" و"المسجد" الذي درس فيه في المدينة العتيقة، من أهم المعالم الأثرية التونسية الشاهدة على حياة عالم استثنائي ألهم العالم.

أضف تعليق