سقوط العقيدة العسكرية الإسرائيلية
صدر مؤخراً عن المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»، كتاب «في الحرب والمقاومة»، الذي يحمل الرقم «47» في إطار سلسلة «الطريق إلى الاستقلال»، يتناول بالقراءة والتحليل دلالات الاختراق الكبير «طوفان الأقصى»، وتداعيات حرب الإبادة الصهيونية، تتوزع موضوعات الكتاب على أربعة فصول، أولها «في قلب الطوفان» يتناول في أحد مواضيعه «سقوط العقيدة العسكرية الإسرائيلية».
أدى «طوفان الأقصى» على الصعيد العسكري، إلى إدخال دولة الاحتلال، في امتحان كاسح، من أبرز نتائجه سقوط المبادئ الخمسة التي يعدها جيش العدو أساساً لعقيدته العسكرية، والقائمة على: أسلوب الحرب الخاطفة + نمط الحرب الاستباقية + نقل الحرب إلى أرض العدو + منظومة الردع الفاعلة + التفوق الاستخباري والأمني.
إن الابتعاد عن الأخذ بهذه المبادئ، جعل الجيش الإسرائيلي يتورط في حرب استنزاف مديدة، ليس بمقدور الحالة الداخلية أن تكابد مفاعيلها، لطبيعة جيشها القائم على استدعاء الاحتياط لتعبئة ملاكاته بالمستوى الذي يتطلبه الفعل في الميدان، هذا فضلاً عن انكشاف الجبهة الداخلية على مخاطر العمليات القتالية، التي تهدد – في حال استمرارها لفترة طويلة – بنية المجتمع واقتصاد البلاد، نظراً لمحاذاة تجمعات السكن ومرافق الاقتصاد الحيوية للجبهات العسكرية المشتعلة، وضيق مساحة البلاد التي تجعلها سهلة المطاولة.
«حرب الاستنزاف» أكثر التوصيفات دقة ومطابقة لما هو قائم، تبرز السمة الفعلية للصراع الناشب، العسكري بأسلوبه، والوطني التحرري بمضمونه وأهدافه، كما يحملها منذ أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، ويناضل من أجلها ويضحي في سبيلها شعب فلسطين، في دورة الزمن الممعن في إدامة اغتصاب حقوقه الوطنية.
«حرب الاستنزاف» مضادة بالكامل لـ«العقيدة العسكرية» الإسرائيلية، القائمة على مفهوم «الحرب الخاطفة» التي تكون أرض العدو مسرح عملياتها، بينما ما نشهده اليوم هو أعمال حربية ممتدة، تدور بقسم وافر منها على أرض الكيان الغاصب، ما يعني أن الأسلوب الذي تُدار فيه الأمور، لم يكن خيار إسرائيل الأول، بل فُرِض عليها فرضاً، أي اضطُرت للانسياق إليه رغماً عنها، لأسباب عدة، لم تكن دولة العدوان تُقَدِّر لا نشوءها، ولا تضافرها، ولا إمكانية استمرارها.
تتحرك هذه الأسباب على مستويين: الأول، هو السياق العام الذي أنتجها، لكون الحرب التي نشبت في 7/10، اكتست – منذ بدايتها - طابع الحرب ذات التداعيات الإقليمية، لا تقتصر مجرياتها على الدائرة الفلسطينية – الإسرائيلية المحض، بل تنداح بتفعيلاتها على محيطها. ومن الواضح أن حرباً من هذا القبيل، لا يمكن التحكم تماماً بمساراتها، أو حصرها في إطار زماني ومكاني قاطع المعالم، ولا التحسب المسبق لحجم ونوعية القوى التي تنخرط فيها، ولا التنبؤ بتفاعلاتها السياسية متعددة الدوائر والمستويات، ما يعني أنها ستكون حرباً مديدة، الاستنزاف يطبعها بميسمه، نمطاً وأسلوباً.
أما المستوى الثاني، فهو كناية عن 4 أسباب مباشرة: 1- صلابة الجبهة الفلسطينية التي انصهرت في بوتقتها إرادة الشعب مع المقاومة. 2- الدور المؤثر سياسياً وفي الميدان لجبهات الإسناد، لا سيما الفاعلة منها على نحو متواصل منهجياً. 3- فقدان العدو لحصرية امتلاك قوة الردع، التي ثُلمت على نحو مُعيب بالنسبة له على يد اختراق عملية «الطوفان» لكل الخطوط الحمر في ساعات الحرب الأولى، تلك القوة الردعية التي كانت تمنحه – فيما مضى - ميزة التفرد والتحكم بقرار التصعيد بوجهة الحسم. 4- التفاعلات الخارجية متعددة الصيغ والأشكال، من حركة الشارع - مروراً بمواقف حكومات - وصولاً إلى قرارات الشرعية الدولية، تلك التفاعلات الضاغطة على مركز القرار في واشنطن، بعد أن أضحت هي إحدى العناصر المؤثرة في السياسة الداخلية للولايات المتحدة، كما في تل أبيب، حيث صبَّت الزيت على نار الملفات الخلافية – وما أكثرها – وفي المقدمة ملف الأسرى المحتجزين لدى المقاومة.
«حرب الاستنزاف» التي انجرّ إليها العدو بفعل صلابة المقاومة، تضعه أمام خيارين، كلاهما يعكس أزمته المستحكمة، ويقودان بالنتيجة إلى الاعتراف بالهزيمة:
- إما الانكفاء، الذي يعني اعتراف إسرائيل بعجزها عن تحقيق أهدافها المعلنة، ما يساوي الهزيمة في هذه الحرب التي تُصنف ضمن فئة الحروب غير المتناظرة، حيث يَهزم التشكيل الفدائي (للمستعمَر) التشكيل النظامي (للمستعمِر)، عندما لا يُمَكِّن الأخير من تحقيق مراميه.
- أو التصعيد، الذي – بدوره – يصطدم بعقبتين: 1- قدرة جبهة المقاومة على الرد في ضوء إدراك العدو عدم استطاعته تحمل الخسائر البشرية، على نقيض من يواجهه. 2- عدم موافقة واشنطن للانجرار إلى حرب واسعة على مستوى الإقليم، لتعارضها مع مصالحها. فالحرب التي نحن بصددها هي «حرب أميركية» من زاوية الإمداد والتمويل والاستخبار وتوفير المظلة السياسية، إلى جانب التموضع العسكري على تخوم مسرح العمليات والتلويح بالتدخل كلما اقتضى الأمر، ومن هنا مرجعية واشنطن القاطعة فيما يتعلق بقرارات السياسة العليا التي تبت بمستوى التصعيد، وتوقيته.
إن خوض «حرب استنزاف» ضد قوات الاحتلال ستكون نتائجها عنصراً مهماً، إن لم يكن الأهم، في رسم نهاية الحرب الضارية في القطاع، وفي التأثير على المواجهات الجارية في الضفة، وفي إجهاض مشروع الحكومة الإسرائيلية لمستقبل الضفة والقدس والقطاع معاً.
أصابت حرب أكتوبر «23» في الصميم العديد من المسلمات الإسرائيلية وأثبتت فشلها، بما في ذلك العقيدة العسكرية لجيش الاحتلال، ومدى قدرته على القتال المديد على أكثر من جبهة، وعن حجم القلق المعيشي والأمني والاجتماعي، عندما ينزح السكان عن مناطق واسعة، كغلاف غزة، وشمال فلسطين المحتلة، ما يشمل حوالي مئتي ألف مستوطن، يعيشون في مراكز الإيواء، يفتقدون إلى الاستقرار، والشعور بالأمان. وقد أسهم في تعميق هذا الإحساس أكثر من عامل، أولها هو التعبئة التي استمرت لأكثر من ثلاثة أرباع القرن بأن إسرائيل، هذه الدولة الصغيرة مساحة وتعداداً للسكان، إنما «المتفوقة» على جيرانها العرب، علمياً وصناعياً، وعسكرياً، وثقافياً، هي دولة محاطة بالأعداء، وأن الحياة المضمونة فيها تقوم على إبقاء الأصبع على الزناد، وقد نجح الإعلام الرسمي في استغلال هذه الادعاءات، وجعلها المحور الرئيس، تغذيه عوامل الصراع مع الجوار من أجل إدامته.
طرحت عملية «طوفان الأقصى»، على الدوائر الإسرائيلية، سؤالاً حول كفاءة أجهزتها الأمنية، من الموساد، إلى الشاباك، إلى أمان... وكشفت الوقائع عن خلل مركب على مستوى مركز اتخاذ القرار الحكومي، جمع بين القصور في تقديم تغطية محترفة في الجانب الاستخباري + التقييم الصحيح من الجهة المختصة، وبين العجز عن اتخاذ القرار السياسي المناسب، حيث فشلت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في التقاط ما كانت كتائب القسام والمقاومة الفلسطينية تحضر له، فجر 7 أكتوبر، أين تدرب المقاتلون؟. كيف استوردوا أو صنَّعوا عتاد الهجوم؟. كيف حصلوا على المخططات الدفاعية الإسرائيلية؟. وكيف تمكنوا من تعطيلها؟. أسئلة كثيرة طرحها الإسرائيليون على أنفسهم، ولم يجدوا لها جواباً، ما أوصلهم إلى قناعة بأنهم وقعوا ضحية إخفاق ذريع لأجهزة أمنية، طالما تباهت أنها الأكثر ذكاء ومهارة وقدرة وحرفية، ليس في المنطقة فحسب، بل وفي العالم أيضاً.
صحيح أن هذه الأجهزة تتقن القيام بعمليات أمنية خاصة، لكنها لم تمتلك القدرة على تمزيق الحجب التي تسمح لها بقراءة مطابقة لجوهر الإنسان الفلسطيني، وجوهر المقاوم الفلسطيني، وجوهر عقلية القائد الفلسطيني. وعلى هذه الخلفية، اعتمد مركز القرار في الحكومة الإسرائيلية على تمثل خاطئ بنيوياً للحالة الفلسطينية، بمفاعيل الشلل الناجمة عن هذا التمثل في غير مجال، وبخاصة من زاوية انعكاسه عجزاً عن إدراك تجذر الإرادة الوطنية وصلابتها لدى الجانب الفلسطيني في تفعيل خيار المقاومة المسلحة بالأولوية والحيوية التي تعود إليه في البرنامج الكفاحي. وفي ظل هذا التقدير الاستراتيجي المغلوط وجدت إسرائيل نفسها أمام واقع جديد، لم يكن ليخطر ببال أكثر المحللين السياسيين الإسرائيليين أو المتنبئين ذكاء، وهو الأمر الذي أصاب سمعة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في الصميم، وأحدث الفوضى في صفوفها، فاشتعلت حرب تبادل الاتهامات فيما بينها، حول من يتحمل المسؤولية المباشرة عن هذا الإخفاق التاريخي.
تدخل حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة، شهرها الـ«15»، حيث تبدو طبيعة المأزق الإسرائيلي، بين جيش يقاتل ضد أهداف غامضة، غير مرئية، وبين قيادة سياسية تمعن في التعنت والتهرب من الضغوط الخارجية، للوصول إلى وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى بين الجانبين الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية.
لقد بدا التناقض واضحاً بين شعار رئيس الحكومة الفاشية، تحقيق ما يسميه «النصر المطلق» من خلال القضاء على المقاومة، واعتقال قادتها، واستعادة الأسرى الإسرائيليين بالقوة. في الوقت الذي تؤكد فيه القيادة العسكرية أنه لم يعد لديها في القطاع، أهدافاً ذات قيمة عسكرية ذات شأن، وأن على القيادة السياسية الوصول إلى اتفاق، ينهي الحرب ويعيد الجيش الإسرائيلي إلى ثكناته، ويعود جنود الاحتياط وضباطهم إلى الحياة المدنية.
تكبد جيش الغزو البربري لقطاع غزة خسائر فادحة، وباعتراف قيادته، خسر الجيش خلال عام من طوفان الأقصى أكثر من 650 قتيلاً، وتدمير أكثر من 550 آلية، وإحالة أكثر من 9 آلاف ضابط وجندي إلى العلاج النفسي، وإصابة أكثر من 3 آلاف جندي وضابط بإعاقات دائمة، حسب الإعلانات الرسمية الإسرائيلية، بما في ذلك تمرد جنود الاحتياط على الأوامر، ورفضهم الاستدعاء مرة أخرى إلى ساحة القتال.
لقد أثبتت الوقائع، أن جيش الاحتلال، يكرر في حربه في قطاع غزة، ما سبق أن اقترفته العصابات الصهيونية في عام 1948، حين استهدفت المدنيين، فارتفعت أعداد الشهداء في القطاع إلى أكثر من 50 ألف شهيد (بمن فيهم المفقودين تحت الركام)، وحوالي 100 ألف جريح، منهم حوالي 11 ألفاً فقدوا أطرافهم السفلية، وباتوا في حالة إعاقة دائمة، وأكثر من 11 ألفاً آخرين، مهددين بالموت للافتقار إلى العلاج، بعدما دمر جيش الاحتلال المستشفيات، والمنظومة الصحية في القطاع.
وسقطت الحرب الخاطفة من العقيدة العسكرية، حيث تعتبر الحرب العدوانية الإسرائيلية في القطاع، أطول حرب تخوضها إسرائيل منذ نشأتها، دون أن تنجح في تحقيق ما أعلنته من أهداف، كالقضاء على المقاومة، واستعادة الأسرى بالقوة، وتهجير السكان إلى الجوار المصري، والاستيلاء على القطاع، حزاماً أمنياً لما بات يسمى «دولة إسرائيل الكبرى»، أي ما تسميه قيادة نتنياهو تحقيق النصر المؤزر على الشعب الفلسطيني ومقاومته.
ولا تتبدى في الأفق المباشر، أية نوايا لدى حكومة نتنياهو لوقف الحرب، وهي تراهن على وصول المرشح الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، باعتباره أكثر انحيازاً لـ«إسرائيل»، وأكثر «حسماً» ضد التطلعات الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، فضلاً عن مصالح حزبية وشخصية لدى الليكود وحلفائه، من شأنها أن تديم الحرب.
ولا يمكن قراءة هذا التعنت الإسرائيلي، بعيداً عن أشكال الدعم وأساليبه التي تقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل ، منذ اللحظة الأولى لاندلاع حرب 7 أكتوبر، من حشد للأساطيل البحرية والجوية، وبناء جسر جوي، لنقل المعدات والأسلحة والذخائر والعتاد، وتوفير المعلومات الاستخبارية عن الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والإقليم، خاصة على جبهات الإسناد والمشاغلة الجدية في لبنان والجولان، واليمن، وكذلك في إيران، فضلاً عن الدعم السياسي غير المحدود في المحافل الدولية، خاصة في مجلس الأمن، والجمعية العامة للأمم المتحدة، ومحكمة العدل الدولية، والضغط المتزايد على الجنائية الدولية، للتراجع عن قرار استدعاء نتنياهو وغالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب. أدت حرب 7 أكتوبر، فيما ما أدت إليه، إلى إدخال دولة الاحتلال بعزلة دولية غير مسبوقة، ما جعلها في مصاف الدول المارقة، التي لا مقعد لها في المحافل الدولية، إلا حيث توفر لها الولايات المتحدة ومن يساوقها في الغرب الإمبريالي، الغطاء السياسي الكثيف عبر سياسة الضغط والبلطجة.
لقد أدمنت حكومة نتنياهو خلال فترة الحرب على إتباع مناورات مكشوفة لإجهاض كل مشاريع التهدئة، والدعوة لوقف الحرب، بما في ذلك مشروع التهدئة الذي قدمه للرأي العام الرئيس الأميركي بايدن- 31/5/2024، على أنه اقتراحات إسرائيلية، وتبناه مجلس الأمن لاحقاً في قراره الرقم 2735-10/6/2024، ووافقت عليه حركة حماس – 2/7/2024، بل على العكس من كل هذا، وبالتضاد مع آلية «الوقف الفوري والتام لإطلاق النار» في المرحلة الأولى لقرار مجلس الأمن، و«الوقف الدائم للإعمال العدائية» في مرحلته الثانية، واصلت حكومة نتنياهو التصعيد في محاولة لتوسيع دائرة الحرب، ونقلها إلى مرحلة جديدة، لتطال الإقليم كله، وانكشفت نواياها في احتلال القطاع، وطرد سكانه وتهجيرهم، في سياق مشروع إقامة دولة إسرائيل الكبرى.
سياسة الاغتيال عقيدة عسكرية راسخة في الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية، ظلت اسرائيل تمارسها رغم فشلها في تحقيق أي نتائج ميدانية، حيث أقدمت على اغتيال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في 4/10/2024، واغتيال فؤاد شكر – 30/7، القائد العسكري الأبرز في حزب الله، وأقدمت بعدها بساعات، وفي الليلة ذاتها – 31/7 على اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية/ حماس، في مقر إقامته الرسمي في طهران، حيث كان يقوم بزيارة لها للتهنئة بانتخاب رئيس جديد للجمهورية الإسلامية.
من أشكال السقوط الأخرى، سقوط هيبة إسرائيل أمام عظمة الصمود الفلسطيني، والاستنجاد الإسرائيلي بالأساطيل الأطلسية البحرية والجوية والاستخباراتية وغيرها، التي سرعان ما هبّت لنجدتها. فـ«طوفان الأقصى» لم يكن مجرد معركة مفصلية ذات شأن، أو عملية عسكرية فذة نجح فيها المقاتلون الفلسطينيون في اختراق العمق الإسرائيلي وصولاً إلى مستوطنات «غلاف غزة»، بل شكل هذا «الطوفان» حرباً بكل ما في الكلمة من معنى، لم يشهد الإقليم لها مثيلاً، منذ حرب أكتوبر 1973، بآثارها الكبرى على العدو الإسرائيلي، المزلزلة لكيانه، وتداعياتها الإقليمية والدولية، وقدرتها على خلط الأوراق في الحسابات السياسية، للولايات المتحدة بخاصة، كما ولعواصم الغرب الإمبريالي. أما في إسرائيل فقد وصفت عملية «طوفان الأقصى» بـ«الإخفاق الكبير»، الذي لا يساويه خطورة سوى الإخفاق التاريخي للقيادة الإسرائيلية بالمفاجأة الاستراتيجية التي داهمتها في حرب أكتوبر 1973، إخفاق دخل التاريخ بمسمى «التقصير» (المحدال).
عقيدة «هنيبعل» جزء من العقيدة العسكرية القذرة للجيش الإسرائيلي، لقد انكشفت حقيقة أن عدداً كبيراً من الذين قتلوا في الاقتحام الفلسطيني، من الإسرائيليين، إنما سقطوا برصاص جيش إسرائيل نفسه، في ظل حالة الفوضى والإرباك التي سادت صفوفه في الـ«12» ساعة الأولى من الحرب، إلى جانب ما تتيحه عقيدة «هنيبعل» للجيش الإسرائيلي في استباحة لحياة الجنود والمواطنين، سواء بسواء، في حال تعرضهم لاحتمال الأسر، وقد تعرض الهديد من الأسرى لخطر الموت الفطيس في الأنفاق تحت ضربات آلة التدمير والقتل الإسرائيلية.
«عقيدة الضاحية» استخلصها غينادي أيزنكوت – رئيس هيئة الأركان الأسبق، بعد حرب 2006 ضد المقاومة في لبنان، نسبة للضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، والتي تدور حول الفكرة المركزية التالية: إن إلحاق الدمار الواسع بالبنية التحتية وبالعمار عموماً في المعسكر المعادي، يؤدي بالأضرار الفادحة التي يتسبب بها إلى فصل الشعب وإبعاده عن المقاومة، أي عزلها عنه، فهو يشكل الخطوة اللازمة لإلحاق الهزيمة بالعمل المقاوم. إن أكثر من يدرك الأهمية الفائقة، لا بل المصيرية، للعلاقة الوثيقة القائمة بين المقاومة والشعب، هو العدو الإسرائيلي.
في الكيان الغاصب، أتت ردود الفعل الانتقامية على «الطوفان» بأسلوب فائق الهمجية، وضع خلف الظهر كل ما اتسمت به ممارسات الحركة الصهيونية، منذ أن وطأت قدماها أرض فلسطين، فشرعت حكومة الكيان – بعد إعلان التعبئة العامة – بشن «الحرب الشاملة» على الشعب الفلسطيني في القطاع، ورفعت – في الوقت نفسه – وتيرة عملياتها العسكرية – الأمنية في الضفة الغربية.
في هذه الحرب استعمل العدو كل ما امتلك من أسلحة دمار بهدف «محو المقاومة في غزة»، واستعادة أسراه بالقوة، وتدمير بنية القطاع التحتية والمؤسسية، وتهجير سكانه، وتحويله إلى حزام أمني للكيان الإسرائيلي، وتحولت الحرب الثأرية الإسرائيلية إلى مسلسل من المجازر وحمامات الدم، في ظل فشل صارخ عن تحقيق أي من الأهداف المعلنة.
أضف تعليق