06 كانون الثاني 2025 الساعة 22:19

نكبة مشفى كمال عدوان

2025-01-04 عدد القراءات : 210
أسامة خليفة/ كاتب فلسطيني

جيش العدو يستنفر قواه ليغزو مشفى، مشفى يختصر حكاية وطن، في 14 أكتوبر، 2023 ينذر الجيش الإسرائيلي إدارة المشفى بإخلائها، أعلن مدير المشفى إن المشفى مليء بالجرحى والمرضى والنازحين ولا يمكن إخلاؤه. هددوا بقصفها، بدأوا بمنازل جوار المشفى، انهارت سقوفها فوق رؤوس ساكنيها، أطلقت طائرة استطلاع صاروخاً أصاب البوابة الشمالية للمشفى. ارتقى شهداء، ووقعت إصابات.

مهجرون لجأوا إليه ظناً منهم أنه ملاذ آمن، فصاروا أهدافاً لآلة الحرب الاسرائيلية، مدنيون معظمهم أطفال ونساء يترصدهم «الجيش الذي لا يقهر»، يترصد جنرالات الطب، وهم «يحاربون» والأصح يصارعون لتتعافى الحياة، على مدار ثلاثة شهور، قصف عنيف شهده المشفى، مرضى، طواقم طبية، يُقصفون، أطباء يُعتقلون، غارات جوية برية بحرية، يتواصل القصف من كل مكان، وتُرتكب مجازر بحق مدنيين عزل، لأنهم قاوموا بالبقاء شمال القطاع ورفضوا الإخلاء والاتجاه جنوباً، منعاً لانتشار سرطان الاستيطان، يوم 25 أكتوبر/تشرين الثاني 2024 اقتحموا مشفى كمال عدوان، اعتقلوا مديره الطبيب حسام أبو صفية مع مئات المصابين والطواقم الطبية، وبعد استجواب قاس، وتعذيب مؤلم، تعرّض المعتقلون للضرب بالهراوات، أُطلق سراح أبو صفية، عاد إلى المشفى ليواصل قيادة فريقه الطبي.

في 24 نوفمبر/تشرين الثاني، وأثناء خروجه من غرفة العمليات، استهدفته مسيّرة إسرائيلية، أصيب أبو صفية بست شظايا، اخترقت منطقة الفخذ سببت له تمزقاً في الأوردة والشرايين، وتابع مهمته الانسانية.

كان القناصون يطلقون النار على المشفى بشكل عشوائي إرهاباً، وكانت الدبابات تحيط بالمشفى تترصد مديره، فلا يخشاها، ويتابع عمله الطبي الذي لا ينتهي، وكلما سنح له الوقت يترصد تحركاتهم ومناوراتهم، التقط مقطع فيديو لآلية إسرائيلية تضع متفجرات أمام إحدى بوابات المشفى، في 23 ديسمبر/ كانون الأول 2024، نشرها للعالم لعل الضمير الإنساني يصحو، قبل الفاجعة والاقتحام الأخير. على مدار الشهور الماضية، وقف أبو صفية داعياً العالم والإنسانية والمجتمع الدولي لإنقاذ المنظومة الصحية التي تنهار تحت وطأة الإبادة، وإمداد مستشفى كمال عدوان بالأدوية والمستلزمات الطبية لإنقاذ الجرحى.

طاقم كتيبة ذوي الرداء الأبيض صامدون خلف جدران ونوافذ زجاجية تقاوم القصف المتواصل، والرصاص الخارق الحارق ينفذ إلى الأجساد البشرية، يتهيأ حسام أبو صفية لعملية جراحية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، يقدر القائد الميداني الموقف، ويصفه بالخطير واللاإنساني، يدير المشفى والصراع بشجاعة ويتصاعد الخطر، لا وقت متاح للاستشفاء قد لا يلتئم الجرح، لكن عليه أن يقاوم ويقاوم وألا تضعف عزيمته، وألا يهتم لقذائف ثقيلة ورصاص الموت ويواصل العمل، يحمل رسالة نبيلة يؤديها بأمانة وقلب كبير، حوصر ومنع عنه الطعام والماء والدواء والوقود والكهرباء، قام بواجبه بأقل الإمكانيات،  وما كان ليتوقف رغم آلة الحرب الوحشية والقصف المتواصل، وما كان ليتوقف، وما كان للمعتدي البائس أن يمنعه عن أداء دوره الإنساني إلا بالاعتقال أو الاغتيال، استشهد ابنه إلياس في شهر تشرين الأول/ اكتوبر صلى عليه أمام بوابة المشفى، وتابع ما يمليه عليه قسمه أمام الله والتاريخ والشعب، الشعب الذي انتمى إليه ابن مخيم جباليا، امتدت سيرة حياته على مساحة جباليا المخيم وجباليا البلد وصولاً إلى بيت لاهيا حيث أدار هناك مشفى كمال عدوان، فجعل منها رمز صمود، وحكاية ملحمة بطولية، جاء إلى مخيمه لاجئاً من قرية حمامة قضاء عسقلان عام النكبة، فكان بردائه الأبيض حمامة السلام البيضاء يطلب الشفاء والبراء والنصر لأبناء شعبه، في معركة طوفان الأقصى لم يترك موقعه القتالي الصحي الإنساني، بقي متحدياً الفظائع التي ارتكبها فاشست العصر، والمشهد مؤلم لكنه يسلي الجنود المهوسون بالقتل والتدمير، الغطرسة تعربد على مشفى، لم يكن فيه ارهابيون كما يدعون، لم يكن ثمة سلاح إلا مبضع الجراح، وبقايا دواء يدعون أنه سلاح حرب كيماوي، كذلك كالوا التهم بالإرهاب لمجمع الشفاء الطبي في غزة حين غزاه برابرة جيش الاحتلال، وارتكبوا بلا وازع من ضمير مجزرة مشفى المعمدان.

مدير مشفى كمال عدوان يستهدفه العدوان، لم يرضخ في مواجهة آلة الحرب، هددوا أسرته وحياته، حين أصابوا ساقه بجراح مشى على جراحه مرفوع الهامة، واستمر دون تردد ولو للحظة، ودون خوف على مصيره المهدد، صار أيقونة للشجاعة، أيقونة للصمود، أيقونة للتحدي، أيقونة للصبر، أيقونة للإصرار، ألزم نفسه بالواجب الإنساني وتعرض لتهديدات أعداء الإنسانية وكان قادراً على الانسحاب طالباً السلامة الشخصية، لكنه أبى واستمر يبذل جهداً ودماً ودموعاً مؤمناً بحق الحياة يخدم غير آبه لمكافأة أو شهرة أو ثواب .

 تحدثت الصحف عن صاحب الرداء الأبيض، صاحب المهنة الإنسانية، أبرزت أخلاقه المهنية وصفات ملائكة الرحمة أشادوا، وأعلوا شأن الطبيب، بالمقابل شهدوا نزعة العدوان من حقد أسود لدى محترفي القتل والتدمير، فنددوا واكتفوا، مدير مشفى كمال عدوان مشفاه يتعرض للعدوان، استهدف العدوان ابنه إلياس صلى على الشهيد، وتابع، هدد الاحتلال حياته أصيب بالشظايا وتابع، لم يتردد لحظة ولم يرضخ أو يتراجع.   

حوصر ورفض إخلاء مبنى المشفى، ناشد الطبيب طويلاً إنقاذ المشفى لكن دون جدوى، أرواح الناس مسؤوليته، أعلن للملأ ذلك خطر على حياة بشر حقيقيون من لحم ودم، رواية حقيقة كان يجب أن تصدق، لكن اصطف النازيون سياسيو الغرب وراء رواية كاذبة وصدقوا ما لا يصدق، كيف جيش مدجج بالسلاح يلاحق المرضى ومن يرعاهم من أطباء وممرضين. 23 كانون الأول / ديسمبر حدثت الجريمة النكراء بعد أسابيع من التهديد والوعيد في ظل الخذلان العربي والصمت العالمي، لا يستطيع جيش الاحتلال أن يتستر على جرائمه، يقتل سبل الحياة للباقين الصامدين على أرضهم، قصف البيوت المحيطة فوق رؤوس ساكنيها، في 3 آذار/مارس 2024، قال مدير المستشفى حسام أبو صفية إن عدد الأطفال الذين فقدوا حياتهم حتى هذه اللحظة بسبب الجوع وسوء التغذية ونقص الوقود وصل إلى 15 طفلاً، قتل خمسة من الجهاز الطبي، دمر مخبر المشفى، هذه ليست حرب، إنها مجرد قتل وتدمير، لكنها إبادة جماعية، حكاية المشفى جزء من الإبادة، وحكاية طبيب قاوم الإبادة ورفض مغادرة منطقته، قائد القتلة يحاصر المشفى فخوراً بنصره المؤزر يحسبه حصار طروادة، ويحسب المشفى ثكنة عسكرية، قاومت وانهزمت لبراعة هذا القائد وبطولاته، فليفخر ويعتز بهذا الانتصار، وليذكره التاريخ في سجل الفاتحين العظماء، وفي 27 ديسمبر/كانون الأول 2024 اقتحمت قوات الاحتلال مستشفى كمال عدوان المحاصر، يتحدث جنرال الحرب عبر مكبر الصوت طالباً من طبيب مسلح بإرادته الحديدية وإيمانه بشعبه وقضيته العادلة، أن يستسلم رافعاً يديه، ومشهراً رداءه الأبيض راية استسلام، خرج أبو صفية يمشي فوق ركام بيوت الحي المدمر، يتجه نحو دبابة إسرائيلية صوبت فوهة سبطانتها نحوه، ليتم اعتقاله تحت تهديد السلاح مرتدياً مريوله الأبيض، وسيق للاستجواب، إلى معتقل «سدي تيمان» المعروف بالتعذيب الوحشي، ومسؤول أميركي الراعي الحصري للمعتدين يصرح للصحافة: سنأخذ أمر اعتقال طبيب على محمل الجد. أما المشفى فقد أخلي وأحرق كي لا يكون رمزاً لوطن يسعى للحرية والاستقلال.

أضف تعليق