إبراز الجرائم النازية لإخفاء الجرائم الصهيونية في غزة
تطفو على السطح في الأعمال الفنية الجديدة جرائم النازية، التي جرت في إبان الحرب العالمية الثانية، والتي تفترق عن وقتنا الحالي بوناً من الزمن، وتبرز أكثر بالنسبة إلى الأعمال الأدبية الحديثة نسبياً، ويتم التركيز عليها بإصرار لافت للنظر، فمن المؤكد حقيقةً أن أي جريمة لا تزول بمرور الزمن وتبقى راسخة في الذاكرة، ولا يُعفى مرتكبوها من وصمة العار التي تَصِمُهم. لكن، ماذا عن الجريمة التي تُرتكب في فلسطين على مرأى من الجميع، وهل القصة مصادفة محضة، أم هي محاولة لحرف أنظار العالم عما يحدث في غزة من انتهاكات يندى لها الجبين، أم هي محاولة لإحياء المظلومية اليهودية لبشر اضطهدتهم النازية العنصرية في زمن سابق، تلك التي رفضها ويرفضها العالم أجمع.
ففي رواية "سارقة الكتب" لـ"ماركوس زوساك" الأسترالي الجنسية، والتي حولت إلى السينما بالاسم ذاته، وترجمتها "داليه مصري"، يستحضر الزمن النازي الذي عصف بألمانيا، قبل أكثر من سبعة عقود، والذي قاد النازيون فيه عنفاً ضد اليهود وممتلكاتهم في جميع أنحاء ألمانيا والنمسا، بالإضافة إلى الحرب التي شنها الحلفاء على ألمانيا إلى أن انتهت مدمرة تلملم حطامها وجراحها.
تروي الرواية حكاية الفتاة "ليزيل ميمنغر" التي فقدت أهلها تباعاً: ففقدت أخاها بعد فقد أبيها، وهجَرتها أمها مرغمة في رحلة الهروب على متن قطار، وقامت عائلة أخرى بتبنيها وبدأت عشق القراءة والكتب التي لم تكن تتوافر لها بسهولة. وأول كتاب سرقته هو "كيفية دفن الموتى" في أثناء مواراة أخيها التراب الذي فقدته برحلة القطار في مقبرة تشرف على غابة في طريق السفر.
في محاولة من الأب بالتبني هانز "عازف الاوكورديون"، المواظبة على تعليم الصغيرة القراءة تدريجيًا، ليبدأ بعدها هوسها بالكتب عندما سرقت كتابها الثاني من محرقة الكتب، حيث كان النازيون يطبعون كتب الأعداء ليعاودوا إحراقها ثانية في مهرجان الإحراق المتبع، بالإضافة إلى كتبهم الموجودة أصلاً، وتتالت بعده السرقات، سرقات الكتب من مكتبة رئيس البلدية بتعاون زوجته بالخفاء مع الصبية الصغيرة، على رغم ردود أفعال هذه الأخيرة تجاهها. وتعددت سرقات الكتب ضمن مغامرات طفولية صور الكاتب في أثنائها مشاهد عن التنكيل باليهود وملاحقتهم وقضايا اضطهادية أخرى، على غرار منع اليهود من الحصول على الجنسية الألمانية، ومنع الزواج بين اليهود والألمان، وعند تصوير الكاتب شخصية أبيها بالتبني "هانز" بأنه أنقذ يهودياً في واحدة من المرات، بالإضافة إلى أنه لم ينتسب إلى الحزب النازي كونه لا يستطيع أن يعادي ويكره فئة من الناس من دون سبب، وليس باعتقاده أن هذه الكراهية لا يمكن أن تدوم إلى آخر الدهر، وكذلك في محاولة تجميل شخصية اليهودي في عبارة "العم لم يكن غنياً، لم يغتصب حق أي شخص آخر"، كما يصف الكاتب أخطاء هانز في ذلك الجو المشحون، مرتين: الأولى عندما قام بدهن باب يهودي وتعرض للتنكيل على إثر ذلك، والثانية عندما سحب طلبه بشأن الانتساب للحزب النازي.
كما يثير العمل أسئلة وجودية: هل هناك جبن في الاعتراف بالخوف، هل هناك جبن في السعادة بالنجاة، أسئلة راودت الأب بعد أن اتهمه ابنه المنتمي إلى النازية بأنه جبان، وهو ما يجعل مشاعر الخوف المتصاعدة من الحزب النازي تظهر من ناحيتين جانب السوق الإجباري للخدمة العسكرية والانخراط في حروب مجنونة لا ناقة لهم فيها ولا جمل. والأمر الثاني الخوف الذي تشيعه أرتال اليهود المساقين إلى الموت، وقد أُقنعوا بأنهم سيدخلون حمامات لتعقيمهم وتنظيفهم في الوقت التي كانت تهيَّأ لهم غرف الغاز للإبادة الجماعية والاعتقال في معسكرات أوتشفيز، التي يعملون فيها كعبيد.
كما يقوم الكاتب بتأكيد تجسيد صورة الفتى ماكس اليهودي الهارب والفقير والجائع وغير المعتد بيهوديته، وأنها صفة جاءته بالولادة وليس بالاختيار، وقصة قيام أسرة الفتاة بالتبني بإخفائه في منزلها ضمن حالة من الرعب وشد الأعصاب بعد وعد قطعه هانز لأبيه الذي قضى في أثناء مرحلة الشباب والمشاعر الرهيفة التي تتولد بين الشاب والفتاة، وهو ما جعلها تشرع في كتابة القصص رداً على رسومه التي تؤطر وتشرح ما يشعر ويجيش في جنباته، مؤرخاً حكاية هروبه حيث تظهر المقولة التي يريد إيصالها الكاتب إلى المتلقي: "القراءة في مواجهة الخوف أو الحكاية عندما تواجه الخوف".
كان لتعاطف هانز صاحب العينين الفضيتين مع عجوز يهودي يسقط من الرتل في حفلة الموت، ومحاولته إعطاءه بعض الخبز وتمسك الأخير بقدميه، شرارة النحس لأهل بيته وله وللضيف المخبَّأ في منزله، وهو ما جعله ينتظر أياماً طوالاً أن يأتوا ليأخذوه حتى يشعر بأن موت ماكس شبه المحقق كان بحجم التضحية التي قام بها، وكي يرتاح ضميره بأن خروجه من بيته كان ضرورة لا اختيار فيه.
يتبع الكاتب تقنية تعدد الأصوات السردية، فمرة يكون الراوي الفتاة، ومرة بصوت أبيها، ومرة بالراوي العليم، لكن الأهم بصوت الموت الذي يتجسد كصوت مشفق على الضحايا، التي لا بد من اقتناص أرواحها وتردده مشفقاً أمام الأرواح النبيلة، "حتى الموت لديه قلب"، ضمن أسلوب شاعري يصور التآلف والمودة والتعاون بين سكان شارع هيمل الفقير، فدائماً الطبقات الفقيرة والمهمشة تتحمل آثار الحروب والعدوان، موضحاً ذلك ضمن رؤية طبقية في المجتمع الألماني الذي تهيمن عليه ظلال الحرب.
هذه المشاهد تؤكد، عبر أثرها، مظلومية عاشها اليهود في زمن ما، لكن ربما كان الأجدى أن نركز على مظلومية اليوم، جرائم قتل النساء والأطفال بدم بارد في غزة والمعاناة التي يعانيها أهل فلسطين من الاحتلال الجائر لبيوتهم وأراضيهم، فالصهيونية لا تعدم اختراع حجج ومبررات لقيامها بذلك، وليس أخرها أمن "إسرائيل" المهدد، في واقع بارز للعيان ومن الوضوح بما يفقأ العين بأنها هي من يهدد أمن الجميع.
أضف تعليق