سليم نوفل الطرابلسي.. أستاذ العربية في عاصمة القياصرة
في أواخر خمسينيات القرن الــ 19، وصل ابن طرابلس الشام، سليم نوفل (1828-1902)، إيريني غورغيفيتش نوفل بالروسية، وعُرف أيضاً باسم "سليم دي نوفل"، إلى روسيا القيصرية بدعوة من الإدارة التعليمية في كلية سان بطرسبورغ للغات الشرقية، والتي كانت تبحث عن أستاذ للغة العربية وآدابها يتابع مسيرة شيخ الأساتذة العرب، محمد عياد الطنطاوي (1810-1861).
وفق المستشرق إغناتي كراتشكوفسكي (1883-1951)، تلقى نوفل تعليماً شامياً نموذجياً، بحيث ألحقه والده بإحدى مدارس المبشّرين، ثم قسّم وقته مطلع شبابه بين التجارة والعمل لدى الممثليات الأوروبية والدراسات الأدبية. ويلاحظ المستشرق أغاتانغل كريمسكي (1871-1942) أن تحصيل نوفل للعلوم سبق ازدهارها في الشام مع افتتاح "الكلية السورية البروتستانتية"، والتي أصبحت لاحقاً "الجامعة الأميركية في بيروت"، و"جامعة القديس يوسف" اليسوعية، لكن ذلك لم يمنعه من متابعة مسيرته، فتوافُر الموارد المالية لدى أسرته فتح أمامه أبواب العلم في أوروبا، بحيث تابع دراسته في في المدرسة اللغوية الملكية في لندن، ثم في جامعة السوربون.
أرّخ الفيكونت فيليب دي طرازي (1865-1956) حياة نوفل "أقدم محرري جريدة حديقة الأخبار وأحد مؤسسي الجمعية العلمية السورية"، حيث يقول في كتابه "تاريخ الصحافة العربية" (1913) إن اسمه سليم بن عبد الله بن جرجس نوفل، "ولما كانت مدارس طرابلس مقصورة على تدريس المبادئ العربية ذهب سليم إلى بيروت لداع عائلي، وتلقى في إحدى مدارسها من اللغة الفرنسية ما يمكنه من الفهم والتفهيم بها، وبعد خروجه من المدرسة بقي في بيروت فلازم علماءها الأعلام كالشيخ ناصيف اليازجي والمعلم بطرس البستاني. وهو الذي أنشأ معهما ومع بعض الفضلاء الجمعية العلمية السورية ومجلتها المشهورة". ثم عاد إلى وطنه طرابلس، وأكبّ على الدرس والمطالعة. وفي سنة 1858 عهدت إليه "وكالة الشركة الروسية للملاحة والنقل البحري"، لكنه لم يعمل فيها إلا عاماً واحداً.
من طرابلس الشام إلى سان بطرسبورغ
لعل التحاق نوفل بالخدمة في "الشركة الروسية للملاحة والنقل البحري" كان الدافع وراء دعوته من قبل الإدارة التعليمية في كلية سان بطرسبورغ للغات الشرقية لتعليم اللغة العربية فيها أواخر خمسينيات القرن الــ 19. أما ما ذكره ابن شقيق سليم، عبد الله حبيب نوفل، في كتابه "تراجم علماء طرابلس وأدبائها" (1929) من أن الأمير قنسطنطين قنسطنطينوفيتش (1858-1915) "أواخر تلك السنة (أي 1858) وصل من روسيا للسياحة في الشرق ولزيارة القدس الشريف فطلب من البطريرك الأنطاكي إذ ذاك أن يهديه إلى رجل بارع في اللغتين العربية والفرنسية ليكون أستاذاً للآداب العربية في جامعة بطرسبورغ فأشار البطريرك عليه به، وبعد رجوع الأمير إلى روسيا طلبته الحكومة الروسية..."، لكن من الواضح أنه غير صحيح وأن الأمور اختلطت على المؤلف، أو أنه أخطأ في اسم الأمير.
على الرغم من أن نوفل لم يكن ملمّاً باللغة الروسية حين بدأ بمزاولة عمله في سان بطرسبورغ، فإن الإدارة التعليمية في وزارة الخارجية القيصرية رحّبت به، ولم يشكل ذلك عقبة أمام نشاطه. فكانت اللغة الفرنسية هي السائدة في منهاج قسم اللغات الشرقية، ودرّس هذه اللغة إلى جانب اللغة العربية وآدابها، منذ عام 1872، ثم درّس الشريعة الإسلامية في العام التالي.
ودعمه مدير الكلية ماتفي غامازوف (1812-1893) وحافظ على علاقة ودّية مع نوفل وعائلته. يقول عنه: "حصل على تعليم أوروبي عالي ويدرّس اللغة العربية في القسم منذ 28 عاماً، بالرغم من حالته الصحية المضطربة منذ مدة طويلة، ويؤدي المهام الموكلة إليه بدقّة... أشير ببساطة إلى الشهادة الممتازة لمرشحيه الذين أوصت بهم هيئة التدريس، وقد أخبروني أنهم تمكنوا، للمرة الأولى في معهدنا، من النحو العربي وأن محاضرات الأستاذ نوفل المبنية على قواعد النحو العام المقارن، تؤدي بشكل مباشر إلى فهم شامل لمشكلات اللغة وتقلباتها".
كان من المفترض أن تحتوي محاضرات نوفل على معلومات ضرورية لممثلي روسيا الدبلوماسيين في الشرق، بهدف حماية مصالح الرعايا الروس. وبالتوازي، كانت الإدارة العسكرية في روسيا في حاجة إلى معلومات عملية لفهم المشكلات القانونية في العلاقات مع المسلمين الروس والعمل على حلّها. وطلب غامازوف من نوفل طباعة محاضراته لتسهيل تداولها بين الكليات، وقد طبعها نوفل بالفرنسية طباعة حجرية قبل طبع ترجمتها الروسية.
لماذا قلّده القيصر "وسام القديسة آنّا"؟
واصل نوفل نشاطه بنجاح، وترقّى إلى مناصب عليا في وزارة الخارجية الروسية بالإضافة إلى أنشطته التعليمية، كما نجح في تمثيل قسم السياسة الخارجية الروسية في المؤتمرات الدولية للمستشرقين، وترجم الوثائق الرسمية وساعد غامازوف الملمّ بالعربية في تحرير الوثائق المترجمة إلى الروسية. ومن اللافت أن نوفل كان مقرّباً إلى القيصر ألكسندر الثاني (1818-1881)، ومن المتعذر معرفة مدى قربه منه، إلا أن حادثتين مهمتين من الممكن أن تلقيا الضوء على هذه المسألة:
الحادثة الأولى تتعلق بأشهر مقاومي ضمّ القوقاز إلى روسيا القيصرية، وهو الإمام شامل الداغستاني (1797-1871)، الذي قاتل ضد الجيش الروسي لأكثر من ربع قرن من الزمن وكبّده خسائر هائلة، فكان أن هاجمه الروس بجيشين وأحكموا الحصار عليه وعلى 500 من مقاتليه فاستسلم سنة 1859. اقتيد شامل في رحلة برية استعراضية طويلة من بلاده إلى موسكو لتحسين سمعة الجيش الروسي الذي كان آنذاك هُزم في حرب القرم مع السلطنة العثمانية. يُقال إن الإمام شامل رفض التحدث باللغة الروسية في بلاط القيصر، وتحدث باللغة العربية، فكان أن استعين بسليم نوفل لنقل كلامه.
من الممكن أن تكون حادثة مثول الإمام الأسير أمام الإمبراطور صحيحة، كونها تحمل دلالات سياسية كبيرة، ففي أثناء سنوات المقاومة رصدت روسيا 45 ألف روبل لمن يُوْقِع بشامل، فكتب شامل خطاباً إلى الجنرال الروسي على خط المواجهة، يقول فيه: "كم كانت سعادتي كبيرة حين علمت أن رأسي يساوي هذا الثمن الضخم، ولكنك لن تكون سعيداً حين أخبرك أن رأسك، بل رأس القيصر نفسه، لا يساوي لدي كوبيكاً واحداً (جزءاً من المئة من الروبل)".
والأرجح أن الإدارة الروسية استعانت بنوفل لترجمة مراسلات الإمام شامل الرسمية التي كانت باللغة العربية، وكذلك التحقيقات الرسمية مع الإمام خلال أعوام الأسر العشرة في موسكو. ولعل هذا ما دفع القيصر إلى تقليد سليم نوفل عدداً من الأوسمة وعلى رأسها "وسام القديسة آنّا" من الدرجة الأولى في مقابل "خدماته الجليلة ومؤلفاته".
أما الحادثة الثانية فلا تخلو من غرابة، إذ إن القيصر الروسي تلقى رسالة من الملك الأإيوبي تيودروس الثاني (1818-1868) باللغة الأمهرية، فعهد بها إلى سليم نوفل لينقلها إلى الروسية. يُقال إن نوفل طلب نسخة من ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الأمهرية في البداية، وعكف على تصفحها ومقارنتها بالترجمة العربية، وبات يقابل كلمات الرسالة بكلمات الكتاب المقدس. لكن من المرجح أنه كي يتمكن من إتمام المهمة استعان بمن يعرف اللغة الأمهرية وكان يعرض عليه ترجمة كلمات متفرقة من الإنجيل بما يتوافق مع كلمات الرسالة حتى بلغ هدفه وتمكن من ترجمتها بنجاح.
سليم نوفل.. مسيرة رجل متواضع
جلّل التواضع مسيرة سليم نوفل العلمية والأدبية طوال حياته فكان يتجنب المظاهر الفاخرة، حتى إنه كان يمثل روسيا في أحد مؤتمرات الدراسات الشرقية في باريس، وكان حاز وسام "جوقة الشرف" الفرنسي من درجة "غران كوردون"، لكنه لم يرغب في وضع ذلك الوسام على صدره، إلا أن رفيقه إلى المؤتمر الأمير محمد أمين أرسلان (1838 - 1869) ألحّ عليه أن يضعه لكون رئيس الجمهورية الفرنسي سيكون حاضراً، فوضعه مرغماً إكراماً لتمثيله الإدارة الروسية لا إكراماً لنفسه. ويقال إنه حين كان في العربة مع أرسلان كان يغطي الوسام بمعطفه كي لا يظهر إلا حين تدعو الحاجة لإظهاره.
تُوفي نوفل عام 1902 في سان بطرسبورغ، تاركاً وراءه مكتبة كبيرة تضمنت مخطوطات نادرة، وتلاحظ الباحثة في الدراسات الشرقية يكاترينا سميرنوفا أن "أبناءه، الذين أمضوا حياتهم كلها في روسيا، باعوا المكتبة بعد وفاة والدهم. ويمكن العثور أحياناً على مخطوطات فريدة من مجموعة نوفل لدى تجار الكتب القديمة" في روسيا.
أضف تعليق