حروب الإمبراطورية.. "إسرائيل" وتغيير خرائط المنطقة
في مقاله المنشور مؤخراً، يطرح توماس غرين، الكاتب وأستاذ الفيزياء النظرية الآيرلندي، تساؤلات لها ما بعدها: لماذا يعجز الغرب عن وقف حرب "إسرائيل" الوحشية على غزة، وامتداد أعمالها العدائية إلى لبنان؟ لماذا لا يستطيع الغرب منع "إسرائيل" من مهاجمة إيران؟ يُجيب غرين: لأن "إسرائيل" تنفذ أوامر الغرب، وإلا لَما حدث أي شيء من هذا.
ما المهمة الأكبر، إذاً؟
إن تدمير غزة وغزو لبنان أكبر مما يبدو للوهلة الأولى، أي أنهما ليسا لمجرد ترميم الردع الإسرائيلي المتأكّل، أو تجريد المقاومة في كل من لبنان وفلسطين من قوة راكمتها في الأعوام الماضية، أو منعها من تشكيل أي خطر على الكيان الصهيوني، أو مصادرة أي فعل مستقبلي، كطوفان الأقصى.
إنهما تطوران مبكّران في إعادة تقسيم الشرق الأوسط، المخطَّطة، منذ فترة طويلة لاستيعاب المصالح الجيوسياسية والاقتصادية الغربية بشكل أفضل عبر توسيع سيطرة "إسرائيل" على الأرض. وعبّر دونالد ترامب صراحة مؤخراً عن أنّ مساحة "إسرائيل" ضيقة جداً ويجب توسيعها!
يتوقع غرين أن تقوم "إسرائيل" بمعظم أعمال هذه الحملة القذرة، كونها مخلب قط لـ"الغرب المسيحي"، وستكافَأ بسخاء، على رغم أن حصة الأسد من الغنيمة سيتقرَّر أن تفيد "العالم المسيحي"، كما يفعل دائماً، بل يتوقع أن يرى "دولة إسرائيلية" أكبر بمجرد أن ينجلي غبار المعارك.
كانت انتفاضة السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 ذريعة طال انتظارها. ردت "إسرائيل" على الهجوم عدة مرات في غضون بضعة أشهر، ومع ذلك تستمر الوحشية أكثر من عام. كانت وسائل الإعلام الرئيسة توفر الغطاء، وتخفي فظائع "إسرائيل"، بينما تبالغ في التهديد العالمي الذي تشكله حماس وحزب الله، والأهم إيران. وكان ضرورياً أن تعلن الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا مراراً وتكراراً التزامها التام حماية "إسرائيل". فالقصة الرئيسة: "إسرائيل" في خطر رهيب تدافع عن نفسها، وتقاتل من أجل البقاء. وفي الوقت نفسه، يحميها حلفاؤها المخلصون.
سيستغرق رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط عدة أعوام، بحيث تتضمن توسيع حدود "إسرائيل" إلى أجزاء من لبنان وسوريا والعراق، وربما مصر والأردن، وربما السعودية. وقبل إنجاز هذه الخريطة، سيتم ابتلاع غزة، وربما الضفة الغربية المحتلة؛ وسوف تفقد دول عربية مجاورة أراضيها. ويُتوقع أن تشابه حدود "إسرائيل" في النهاية تقريباً خريطة "إسرائيل الكبرى"، المتداولة عبر الإنترنت، لكنها مرسومة بشكل أكثر تواضعاً.
المفارقة أن هذه الأراضي ليست هدية إلى "إسرائيل". فالهدف النهائي تعزيز الوجود الأمني الغربي والسيطرة على موارد الطاقة في المنطقة، استباقاً لأي تغير في النظام الدولي. وهذا من أجل ضغط المقاومة في مناطق أصغر، ويتطلب قواعد عسكرية غربية أكبر، وأعداداً متزايدة، وبنية أساسية للأمن والمراقبة والتسلح والذخيرة والمركبات، والأفراد الذين يمكن بواسطتهم فرض القوة الأميركية والأوروبية، على مختلف أنحاء المنطقة، بينما تتظاهر "إسرائيل" بالقيام بهذا. سيقال إن هذا التشكيل الجديد ضروري لأمن "إسرائيل"، لكنه مصمَّم لعقاب إيران وحصارها (إن لم يلهمها لتحقيق الحلم النووي الذي يخشاه الغرب منذ عقود).
هي بداية عملية إقليمية تستغرق أعواماً لتكتمل. لقد استغرق تقسيم سايكس - بيكو من عام 1916 إلى عام 1922، لذا فهي عملية طويلة. وخططت "نخب" الإمبراطورية الحاكمة والعابرة للقوميات هذه العملية طويلاً، بواسطة أشخاص مسيطرين عليها، ويظلون مؤثرين بغض النظر عمن يُنتخَب للحكم: سماسرة سلطة يتجنبون الشهرة والكاميرات؛ نقابات وشركات تدير الأمور، ولا يعرف سوى قِلة منا أسماءها ووجوهها.
هؤلاء الأشخاص تقابلهم في المنتدى الاقتصادي العالمي، ومؤتمر بيلدربرغ، وعلى طول منتزهات دوفيل في فرنسا، وفي مراكز مؤتمرات كريستال سيتي تحت الأرض، على بعد 5 أميال جنوبي واشنطن. أشخاص يقدرون القيمة المحتملة لـ"إسرائيل"، بالنسبة إلى الامبراطورية، لكنهم ليسوا صهاينة بالضرورة. إن هؤلاء الناس، الذين يفهمون الصهيونية كفكرة قابلة للهضم والبيع، وموجَّهة نحو منطق "أخلاقي" واضح مشترك بين الناس العاديين، قد نسميها حِساءً بلاغياً للاستهلاك الشعبي.
إن "تجديد" الشرق الأوسط، أو تغييره كما يريد بنيامين نتنياهو، ليس شأناً يهودياً خالصاً! نعم، هناك مليارديرات يهود مؤيدون للإبادة الجماعية يُلقون أموالهم يساراً ويميناً لدعم الصهيونية، لكنهم مجرد مجموعة واحدة في منظومة الثروة والسلطة والبروباغندا العابرة للحدود، والتي تسيطر على الغرب.
لا يزال العالم تحت رحمة الذين أرادوا حرب الخليج الثانية، وأولئك الذين "حلموا" بأن تؤدي إلى "عراق" صديق للولايات المتحدة وإلى "إيران" منهزمة، وبالتالي شرق أوسط ناضج لاستغلال غربي معزَّز، إضافة إلى أولئك الذين اختلقوا ذريعة من الهواء والتلميحات، وحافظوا على رباطة جأشهم عبر وجوه جامدة لا تقول شيئاً.
نشهد الآن سعياً لتحقيق نهاية سعيدة متخيلة، عبر مسار مغاير. قد تكون الأهداف الاستراتيجية مخطَّطة مسبّقًا، لكن تم تفويض العمليات والتكتيكات لـ"إسرائيل"، وهي مسؤولة إجمالاً عن تنفيذ الأعمال العدائية وتحديد قواعد الاشتباك (بما فيها الإبادة الجماعية). هذا ما يساء تفسيرُه كاستقلال إسرائيلي. وتدفع "إسرائيل" نحوه، لكنه وهم. "إسرائيل" رأس الحربة بسبب قدرتها على بيع رواية المظلومية الصهيونية إلى الأبد تقريباً، وتحديها بقوة شديدة يوقع المعارضين في مآزق قانونية حالياً.
الاستقلال المحدود يعني أن "إسرائيل" قد ترفض مطالب أميركية أو أوروبية في حالات محددة، الأمر الذي يخلق احتكاكاً طفيفاً، يُصوّره البيت الأبيض كمحاولة من جانب "جُو الرحيم" بكل ما أوتي من قوة لكبح جماح "إسرائيل"، لكن من دون جدوى، لكنها مجرد رسالة انتهازية. لقد قرر الغرب، منذ زمن بعيد، أن يخصص لـ"إسرائيل" أراضي تابعة حالياً للبنان وسوريا والعراق وربما مصر: "وعد" جديد، إن شئت.
من خلال الإفراط المستمر في العنف لمزيد من الاستعمار والاحتلال، يضمن الغرب تركيز الكراهية لـ"إسرائيل" وتقطيرها في روح نقية وقوية، وهو ما سيجعل "إسرائيل" هدفاً أكثر فأكثر، وأكثر اعتماداً على الدعم الغربي/المسيحي، وأكثر عرضة لتأثيره ونفوذه. وهذا أمر مقصود إلى حد كبير.
لقد مارس الأوروبيون، على مدى ألفي عام، لعبة إخضاع اليهود، فمَن الأحمق إلى درجة تجعله يعتقد أنهم أدركوا الحقيقة فجأة؟! ومُن الأحمق إلى درجة تصوّر أن لعب ورقة المحرقة يجبر الأميركيين والأوروبيين على تجاهل مصالحهم الخاصة، بشكل واسع؟
إذا انتهى الأمر بالإسرائيليين إلى احتلال مزيد من الأراضي، فسيستحيل عليهم الاحتفاظ بها بأنفسهم. وستكون المقاومة قوية للغاية. وهذا هو الوضع الذي يسوقهم إليه حلفاؤهم الغربيون. إن [اليهود] الذين يتصورون أنهم محظوظون بفرصة تطهير الجوار عرقياً، سيواجهون عاجلاً أو آجلاً مفاجأة غير سارة، وقد يتوقون إلى عودة [أعدائهم] الفلسطينيين بمجرد أن يذوقوا طعم تجربة الهيمنة الغربية (المسيحية) الحقيقية.
لن تستمر "إسرائيل الكبرى" إلا برغبة الإمبراطورية التجارية والمالية الغربية وقدرتها على حمايتها من جيوش أعداء منتقمين، خلقتهم الإمبراطورية نفسها، وهو أمر مشكوك فيه تماماً. وليس موقفاً يرغب فيه أي عاقل على الإطلاق، في ظل كل هذه الدماء والعداء.
لكن هل الإمبراطورية قادرة أصلاً على الخروج من دوامة الفناء والفساد والاندثار؟
لقد مضى الزمن الذي كان فيه المشرق لقمة سائغة منزوعة السلاح، وبلا وعي تاريخي ثاقب واجتماع مقاوم وتقاليد قتالية راسخة. ستبقى أحلام الإمبراطورية الغربية أحلام يقظة بوجود مقاومة وجماهير مؤمنة ثابتة في أرضها.
يجب أن تأخذ المقاومة في الحسبان أن المعركة ستطول، وأن الكيان دخل طور نهاية "مسيانية" قيامية، كنهاية اليهود الحشمونيين قبل ألفي عام! وستكون بإذن الله نهاية المشروع الصهيوني في المشرق.
أضف تعليق