"تَغذّيْنا بالشَّمسِ والمِلح".. عن صورَ المنتصرة بإرادة أهلها
استهدف الاحتلال الإسرائيلي، قبل أيام، مدينة صور جنوبي لبنان، صاباً جام لؤمه على لؤلؤة ساحل المتوسط، العروس الذهبية الرمال. أدرك من تبقى من أهل المدينة فيها أن هدف "إسرائيل" هو تهجيرهم. فما أورده في بيانه "التحذيري" مجرد أكاذيب، فلا "عناصر لحزب الله" ولا "منشآت" ولا "وسائل قتالية" في المدينة.
إنه التهجير إذن، لكن إلى أين؟ "إلى شمال نهر الأولي"، كما أورد البيان المرفق بخريطة المدينة التي لوّن العدو قسماً كبيراً منها باللون الأحمر لاستهدافه بالقصف.
يأتي القصف المركّز على المدينة فيما تزداد حدة العدوان وتتكاثف ضرباته لتطال كل ما هو مدني جنوب نهر الليطاني، ضارباً عرض الحائط بالمواثيق والأعراف الدولية. يريد جيش الاحتلال "أرضاً بلا شعب" عبر تفريغ الجنوب اللبناني من سكانه والحيلولة دون عودتهم إلى منازلهم.
بطبيعة الحال لم يغادر الناس مدينتهم، كل ما فعلوه أنهم توجهوا إلى مينائها من جهة وإلى شاطئها الرملي الجنوبي من جهة أخرى. لم يحقق أهل صور لــ "إسرائيل" ما أرادت. فقد رافقت القصف على المدينة تمنيات من متابعين صهاينة على وسائل التواصل الاجتماعي عن احتلال صور والتمتع بجوها الساحر ورمالها الذهبية.
الرمل الذهبي
الرمل قلب صور النابض وأكبر أحيائها وهو الذي تلقى موجة القصف الأخيرة، فالعدو كان خلال الشهر الماضي قد ارتكب مجزرتين راح ضحيتهما مدنيون من أهل المدينة، واستهدف شقة على الكورنيش الجنوبي، وعشية جولة الجنون الأخيرة قصف مبنى إذاعة "صوت الفرح". وها قد أتى جيش الاحتلال ليطعن المدينة في قلبها، بين شارعي المدرسة الجعفرية والآثار، وبين حيرام وقرطاج، مستثنياً جادة نبيه بري جنوباً وشارع حافظ الأسد شمالاً، ربما غصّ بهذين الاسمين ولا يريد إيرادهما على خريطته. بغضّ النظر عن أن أحداً لم يستفت أهل المدينة في تسمية شوارعها، بل كانت بعض الأسماء تحط عليها لتجسد مرحلة زمنية معينة، كدوّار كمال جنبلاط، أو جادة رشيد كرامي، أو شارع السينغال مثلاً.
الرمل حي حديث نسبياً، نشأ بعدما فاضت الحارة بسكانها فخرج من تمكّن منهم، أواسط القرن العشرين، من الحارة وبنوا بيوتاً لهم فوق اللسان الرملي الطويل الذي حوّل صور من جزيرة إلى شبه جزيرة وربطها بالبر، أي بصور البريّة التاريخية. فصور التاريخية الرابضة فوق صخرة في البحر، تضم أحياء الموارنة و"الجورة" والأرثوذكس والجامع والكاثوليك والحسينية والمنارة والبروتستانت والمصاروي، ويصطلح أهل المدينة عليها اسم جامع وهو "الحارة".
وهذه الحارة التي تتميز فيها المسيحية عن اختها المسلمة، تقل مساحتها الإجمالية عن مساحة حي الرمل وحده. ويُفترض أن هذا اللسان الرملي نشأ على جانبي الطريق الذي رصفه جنود الاسكندر المقدوني يوماً كي يخضعوا المدينة التي لم تستسلم، ويفترض أن طريق الإسكندر التي تظهر في موقع البص الأثري، حيث قوس النصر، شرق المدينة، تختفي تحت هذا الحي لتعود إلى الظهور في موقع آثار المدينة قرب البحر.
ظلت بيوت الحي الأنيقة ذات التصوينات والحدائق متناثرة فوق الرمال، بعيدة بعضها عن بعض، إلى أن حدثت طفرة عمرانية على دفعتين، الأولى بفضل المهاجرين الصوريين إلى أفريقيا، أما الثانية ففي سنوات الحرب الأهلية وما تبعها فارتفعت على جانبي شوارع الحي شبه المتوازية الخمسة مبان متلاصقة، هي عبارة عن مكعبات إسمنتية تفتقر إلى الذائقة المعمارية.
وربما بسبب اختلاط اسمنتها بملح ماء البحر يحتاج معظمها إلى الترميم، وبعضها المتهالك إلى إعادة إعمار، إذ يندر أن يمرّ فصل من فصول الشتاء من دون أن تهوي شرفة هنا أو جدار هناك.
الحي الذي يضم معظم سكان المدينة قائم على الرمل الذهبي الذي تشتهر به صور.
ويقال إن قسماً معتبراً من شارع المدرسة الدينية، الذي نالته قذائف العدو، وهو يتوسط شارعي حيرام وقرطاج، كان عبارة عن مستنقعات مائية ضحلة. وبقي على حاله منذ خراب صور الصليبية على يد جحافل المماليك سنة 1393، إلى أن احتل المدينة جيش إبراهيم باشا مطلع ثلاثينيات القرن التاسع عشر.
وتذكر الحكاية المحلية الشعبية أن إبراهيم باشا المصري كان مولعاً بزوجته النوبية التي يسميها بـ"السمرة" (السمراء مع القصر)، وكان ينصّب على كل مدينة يحتلها أحد أشقاء "السمرة" والياً من قبله.
ولعل في هذه الحكاية جانباً من الحقيقة. إذ نجد اليوم أن اسم هذه العائلة موجود في صور وصيدا وغيرها من المدن الساحلية. فكان من نصيب صور أحد هؤلاء الولاة الذي ردم المستنقعات، ووصل المدينة بالطريق الساحلي خارجها، حيث أطلال مرمح الخيل الروماني، الذي لم تكن الحفريات قد كشفت عنه في ذلك الزمن.
الرمل اليوم
لم يغادر الناس مدينتهم. عادوا من الميناء ومن الشاطئ الجنوبي إلى حي الرمل. ينتصر أهالي صور لمدينتهم بالعودة إلى منازلهم، أو ما تبقى منها في حي الرمل. التهجير الذي ينشده العدو لم يحدث. ركام المباني يقفل شارع المدرسة الدينية الذي نال حصّة معتبرة من همجية العدو.
من يرغب بقطع الشارع عليه أن يتسلق التلة التي تضم ما تبقى من أحد المباني. تضم التلة جدران الحي وشرفاته، آمال الناس وأحلامهم وذكرياتهم، صبحياتهم وهمومهم التي أثقلت كواهلهم في مسلسل الأزمات المرهقة الأخيرة. وكأنهم لم يكن ينقصهم فوق كل المصائب التي عاشوها في السنوات الأربع الأخيرة إلا أن يستهدف الصهاينة حيّهم.
في المباني التي لم تهو، يعمل النجارون على إعادة الأبواب التي انتزعها عصف الانفجارات من أماكنها. يعيدون تثبيت أبواب النازحين من المدينة، ويقفلونها بالأخشاب والمسامير. يتصلون بأصحابها ويرسلون صورة الباب أن البيت لا يزال مكانه بعد العدوان. يتصل الناس بعضهم ببعض، بين "الحمد لله ع السلامة" و"الله يحميكن". لكن الشوارع والأزقة لا تسترد الحياة الطبيعية. الجميع اليوم في ترقب وانتظار، فالعدو الذي لا يؤمن جانبه لا يزال متربصاً بالمدينة وأهلها، وإن كانوا يؤمنون أنها ستنتصر وأن "إسرائيل" إلى زوال.
أضف تعليق