30 تشرين الأول 2024 الساعة 13:20

في ذكرى الرحيل..

2024-10-20 عدد القراءات : 549
فهد سليمان: الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

إسماعيل هنية.. قائد لا تغيب ذكراه

 

 

 

طلال أبو ظريفة.. لسنا هوية تبحث عن مكان

 

 

 

أنطوان سعادة.. في ذكرى مفكر قومي كبير

 

■ الياس خوري .. اللبناني، الذي إختار فلسطين قضية

 

 

إسماعيل هنية ...

 

 

 

قائد لا تغيب ذكراه عن الشعب

 

 

 

 [ في العاصمة القطرية، الدوحة، وتلبية لنداء الدم الزكي، في تشييع القائد الوطني الكبير، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية - حماس إسماعيل هنية، ورفيقه الوفي وسيم أبو شعبان، إجتمع قادة فصائل المقاومة والعمل الوطني الفلسطيني، تحت وطأة الحدث الجلل، الذي هزّ أركان العالم، وكانت له تداعياته الكبرى، وما زالت، في أكثر من مكان:]

■ بين لقائين، يفصل بينهما أكثر من ثلاثة عقود من الزمن الفلسطيني، أولهما في «مرج الزهور» - جنوب لبنان، وآخرهما في الدوحة، وبينهما لقاءات عدة، إمتدت من غزة إلى إيران، مروراً بلبنان، لم يكن يخطر ببالنا، أن الدوحة ستشهد مصابحتنا الأخيرة، بعد أن جمعنا لقاء عمل لبضعة أيام، لنعود ونلتقي، بعد أيام قليلة إلى جانب وفود غفيرة، ضمت قيادات ورجالات وشخصيات، من أربع جهات الأرض، تجمعت تحت ظلال نعشه، ونحن نودعه إلى مثواه الأخير، شهيداً في عملية إغتيال جبانة، خططت لها ونفذتها حكومة العدو.

في 31/7/2024، إغتالته يد الفاشية والغدر الإسرائيلية، يدفعها إلى ذلك حقد دفين، فقد اعتبرته هو، وما يمثل من موقع قيادي ومن قيم كفاحية، وكل من يمت إليه بصلة، عدواً لها، فاغتالت أبناءه وأحفاده وإخوانه وشقيقته، ثم اغتالته هو؛ غير أن ذلك لم يشفِ غليلها، فأصرت على تدمير منزله في مخيم الشاطيء، ثم استكملت حقدها باغتيال مرافقيه السابقين في قطاع غزة، وكأن إسرائيل تحاول أن تنتقم منه، بأكثر الأساليب وحشية وهمجية.

■ باستشهاد القائد الوطني الكبير إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية - حماس، نكون قد فقدنا أخاً وصديقاً ورفيقاً ومجاهداً صلباً، أفنى زهرة العمر في خدمة شعبه وقضيته وحقوقه الوطنية المشروعة، كما كَرَّسَها في خدمة حركته، وكان شديد الإخلاص والتواضع في أدائه السياسي النضالي، وصار رمزاً من أهم رموز شعبنا، وحركته الوطنية.

إتسم بروح الحوار، والمرونة التكتيكية على خلفية صلابة مبدئية متأصلة، يضع مصالح شعبه في مقدمة إهتماماته، قدم فلذات أكباده وأقرباءه، شهداء في خضم النضال والصمود في قطاع غزة، في سياق حرب الإبادة الجماعية لدولة الإحتلال الفاشي، وما استهداف العدو الوقح للقائد البارز أبو العبد في مقره بالعاصمة الإيرانية طهران، إلا محاولة للنيل من معنويات شعبنا وصموده وصلابته، غير أن المباديء التي زرعها الراحل والشهيد الكبير، في صفوف أبناء شعبنا الفلسطيني، جعلت من استشهاده، رغم الخسارة التي لا تعوض، محفزاً تاريخياً للإرتقاء بأساليب النضال والمقاومة، وتصعيد الكفاح بكل أشكاله، لا من أجل أن يدفع العدو الثمن فحسب، وهو حتماً دفع وسيدفع الثمن غالياً، بل ولتحقيق ما كان يصبو القائد الراحل إليه: تعزيز الوحدة الوطنية، واستعادة الوحدة الداخلية، وتصعيد المقاومة، وطرد الاحتلال، وتحرير الأرض، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين إلى الديار والممتلكات.

■ إن استشهاد القائد الوطني الكبير أبو العبد، يؤكد مرة أخرى أن معركتنا مع العدو، هي حرب المصير، حرب الحاضر والمستقبل، يخوضها شعبنا، وقواه السياسية، ومقاومته الباسلة في كل مكان، وبكل الأشكال والأساليب، وأنَّ لا تراجع عن أهدافنا التي تغمست بالدم الطاهر لشهداء شعبنا، وأنَّ لا مساومة على أهداف شعبنا وحقوقه، وإذا كان العدو يريدها حرباً وجودية، فإن شعبنا الذي «نما وتطور على أرض الرسالات السماوية إلى البشر، عبر علاقة عضوية، لا انفصام فيها ولا انقطاع بينه وبين الأرض والتاريخ»؛ شعبنا على إستعداد كامل لأن يخوض هذه المعركة حتى فصلها الأخير، الذي تُكسَر فيه شوكة الاحتلال والعدوان، وشوكة المشروع الصهيوني، وتتحقق كامل أهدافنا في الحرية والإستقلال، وتنتصر فيها سرديتنا بحقيقتها العابرة للزمان.

■ إغتيال إسماعيل هنية، لم يشكل نصراً لإسرائيل، أو للولايات المتحدة، بل على العكس من ذلك، أنتج حالة من القلق العميق في أوساطهما، وتسبب بإرباك شديد.

أدركت إسرائيل كما الولايات المتحدة، حجم الزلزال الذي تسببت في إحداثه، وحجم الهزات الارتدادية التي سوف تصارع ضدها.

تُرى، أي رجل هذا، الذي تحسب حسابه واشنطن، كما تل أبيب، شهيداً، أكثر مما كانت تخافه حياً وقائداً.

هذه واحدة من أهم سمات هذا الرجل، حيثما يمر، يترك بصماته واضحة المعالم، في النفوس، والقلوب، التي تدانت مفاعيلها، مهما تباعدت وقائعها.

هذه سمات الرجال الذين تتحلى شخصياتهم بمظاهر الهدوء وعمق الثورة معاً، الشجاعة والإقدام، والعقل في آن.

■ عندما إلتقيناه في الدوحة، لم نكن ندري أنه لقاء ما بعده لقاء، عقدنا معه ثلاث جولات حوارية، إمتدت لساعات، تناولنا فيها بعمق العديد من القضايا التي تشغل بال الحالة الوطنية، كانت الصراحة والوضوح إحدى أهم علاماتها، ومع ذلك شعرنا أننا لم ننه ما يتوجب أن نعمله معاً، فانحكمنا لأولويات حالت دون تناول عديد القضايا التي كانت تجول في الذهن، فأجلنا بحثها لضيق الوقت، رغم أنه إمتد طويلاً. لقد كانت لفقيدنا الكبير القدرة، وكان لديه الإستعداد للإنفتاح على الحوار، والإستماع إلى وجهات النظر المطروحة بهدوء مهما تخالفت، ومناقشتها بكل أريحية.

■ كنا قد عرفناه في محطات سابقة، فلاحظنا أن الرجل بقي على وفائه لتواضعه الذي اتسم به منذ أن أطل على الرأي العام في خدمة القضية الوطنية.

وقبل أن نغادر قطر، أبى إلا أن يزورنا في مقر إقامتنا، بعد منتصف الليل، ليودعنا، وحمّلنا التحيات إلى الإخوة والرفاق، وبتجديد العهد على الوفاء، وبدعوات جديدة، للقاءات نستكمل فيها ما بقي في جعبتينا من هموم وطنية.

الأخ القائد أبو العبد ...

ودعناك إلى مثواك الأخير في الدوحة، لكنك، أيها الأخ الكريم، واحد من القادة الذين لا تغيب ذكراهم عن الشعب، مهما إمتدت الأيام■

25/8/2024

 

 

 

طلال أبو ظريفة: لسنا هوية تبحث عن مكان،

 

 

 

بل مناضلون من أجل حرية الوطن

 

 

■ عندما ترغب في الكتابة، عن رفيق لك، عايشته لفترة زمنية طويلة في الإطارات الحزبية، وتعرفت عليه كإنسان، من لحم ودم، يفرح ويحزن، كباقي البشر، تصاب بالإرباك، وأنت تبحث عن الكلمات التي تعتقد أنها تفي صاحبك حقه، دون أن تتجاهل الآخرين.

تتراكم أمامك، المشاهد والصور، تستدعيها في محاولة لرسم الصورة الأخيرة لشهيد رحل في غير موعده، وأنت تتخيله وقد استهدفته قذيفة من طائرة، ما اعتادت إلا أن تستهدف الأحياء والمنازل المدنية، فتحول المكان إلى ركام، والأجساد إلى أشلاء متناثرة في أرجاء المكان، تسبح في دماء هُدِرَت بوحشية، لا لسبب سوى لأن صاحبها فلسطيني، رفض إلا أن يكون فلسطينياً، وألا يغيب عن أرض فلسطين، فوقها ولد، وعلى ترابها مشى، ومن مياهها ارتوى، غادرها لفترات قصيرة، تلبية لنداء العِلم والمعرفة، ثم عاد إليها بشوقه العارم، تفتح له ذراعيها، مناضلاً، مسخراً جهده وعقله وكل مشاعره في خدمة أقربائه وجيرانه، وأبناء حارته، مدركاً بإحساسه العميق أن لا قيمة للفلسطيني إلا إذا قدم لفلسطين وبذل حياته في سبيلها.

■ ولد الشهيد طلال أبو ظريفة، كأي مولود فلسطيني في قطاع غزة، يحمل في يده بطاقة تُعرّف بالهوية وتُجهل الجنسية، ومثل الكثيرين، نشأ طلال ونما، وانخرط في اتحاد الشباب الديمقراطي الفلسطيني - «أشد»، ما أسهم في تكوين شخصيته الوطنية وبلورتها، فنظر إلى فلسطين نظرة جديدة، ليس باعتبارها مجرد نكبة رافقها تهجير وتبديد، ومؤامرة لطمس الهوية، بل هي وطن، وشعب، وقضية، وهياكل وطنية، جمعت تحت راية فلسطين الملايين، وابتدأ في تلقي الفكر الجديد، الذي أبدع اليسار الفلسطيني الجديد في بلورته مشروعاً نضالياً، أفاض على الجميع، وصار هو المشروع الوطني بعناصره، وهو العنوان بتفاصيله.

■ النقلة الأولى في حياته، كانت عندما سافر إلى الجزائر، بمنحة جامعية أمّنها إتحاد الشباب - «أشد»، وللمرة الأولى في حياته، خرج من خلف أسوار قطاع غزة، إلى العالم الفسيح: القاهرة، ثم الجزائر، حيث عاش أوضاعاً مختلفة، فقد تَعرَّف أكثر على فلسطين، حين التقى أقرانه الجامعيين، أبناء جِلدته، القادمين من أقطار اللجوء الأخرى: سوريا، العراق، الأردن، كما تعرف إلى أبناء الضفة الغربية، الشريك في معاناة الاحتلال.

كما تعرف إلى الشعب المضيف، وهو شعب بنى وطنه، بالتضحيات الغالية، عبر ثورة أفضت إلى تحرره من الاستعمار الفرنسي، أدرك أن الحرية حق مقدس للشعوب، وأن الحرية لا تُقدر بثمن، حتى ولو سُفِكَت في سبيلها دماء غزيرة، دماء الشهداء والجرحى، وأنَّ على الشعب المتطلع إلى الحرية أن يقدم ما عليه من واجبات وتضحيات، وأنه دون ذلك، فإن الحديث عن الحرية، مجرد لغو لا معنى له، بل هو أحياناً ذريعة واهية للتهرب من الواجبات الكبرى.

ضمن هذه الأجواء، إنخرط مع رفاقه في العمل الوطني والنقابي في إطار «أشد» وإتحاد طلاب فلسطين في الجزائر، واحتل مكانة متقدمة في النهوض بواجباته طالباً جامعياً، إلى جانب رفاقه، من أجل فلسطين.

■ النقلة الثانية في حياته، كانت عندما أنهى في الجزائر دراسته الجامعية، وبات عليه أن يعود مرة أخرى إلى قطاع غزة، يحمل معه علماً ومعرفة، ليكرس حياته، منذ تلك اللحظة، للتفرغ للعمل الوطني، واحداً من الكوادر المتقدمة للجبهة الديمقراطية في القطاع، يجند خبراته في خدمة شعبه وفي خدمة منظمات حزبه في القطاع، حيث تألق دوره كمنظم من طراز رفيع قادر على إجتراح أشكال التنظيم واعتماد أشكال النضال المناسبة لاحتياجات تقدم دور حزبه في العملية الوطنية. وفي الوقت نفسه بدأت مكانته تتقدم، ودوره الوطني يتعزز عبر انتسابه إلى الاتحادات الشعبية التي توفرت لديه شروط الإنتساب إليها، ثم بدأ يتدرج في نهوضه مضطلعاً بدوره الوطني، فاحتل المواقع التالية:

ممثلاً للجبهة الديمقراطية في الهيئة الوطنية لكسر الحصار وحق العودة.

عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني.

ممثلاً للجبهة الديمقراطية في اللجنة العليا للتنسيق في القطاع.

تراه في مقدمة الصفوف في التظاهرات والإعتصامات الشعبية في طول القطاع وعرضه.

تراه على خطوط التماس في أيام الجمعات في مسيرات كسر الحصار وحق العودة.

تراه متحدثاً مفوهاً إلى رجال الإعلام حتى بات أحد المراجع الدائمة لمندوبي الفضائيات والصحف ومراكز الإعلام في القطاع.

هذه النشاطية المتميزة في العمل الجماهيري والوطني، لم تُثنه على الصعيد التنظيمي الداخلي عن تركيز جهده على عملية البناء الحزبي، بتعقيداتها وصعوباتها التي يدركها كل من دخل هذا العالم، مراكماً الخبرات والمهارات الناجمة عن الممارسة الهادفة، فأبدع بحِرَفيته ومثابرته وتحليه بمواصفات من تعاطى «الهندسة التنظيمية» على خلفية الإلمام بـ«هندسة علم الأحياء» التي اكتسبها من دراسته الجامعية.

■ النقلة الثالثة كانت مع انفجار «طوفان الأقصى»، وبات عليه في هذه المحطة، أن يحسم خياره، كأي قائد وطني، بين تلبية إستحقاقات موقعه القيادي، في صفوف رفاقه وأبناء شعبه، وبين تلبية واجباته العائلية.

مهماته السياسية والتنظيمية كانت دائرتها الواسعة شمال القطاع، أي مدينة غزة وجوارها، ومنزله حيث تقيم عائلته في عبسان الكبيرة في جنوب القطاع.

وكما هو منتظر من أي قائد، إنحاز لواجبه الوطني، وبقي في الشمال، تصاعدت عمليات القصف التدميري، والاجتياحات، لكنه بقي ثابتاً، صامداً ولم يغادر، وبقي يتنقل من مكان إلى آخر، في شمال القطاع في قيادة منظمات الجبهة الديمقراطية، بالتوجيه لجناحها العسكري «قوات الشهيد عمر القاسم»، والدور الميداني في مراكز الإيواء والمستشفيات، جنباً إلى جنب مع لجان العمل الطوعي، من الجبهة الديمقراطية ومن الفصائل الأخرى، في تعزيز صمود الناس، في حرب، أدرك أنها ستكون طويلة.

■ وختاماً، أتت النقلة الرابعة، حيث طالت الحرب، وبقي شمال القطاع ساحتها الرئيسية، بالكاد تصله أنباء عائلته، ودع عدداً من أقربائه، قضوا بنيران الطائرات الحربية الإسرائيلية.

وفي ليل 16/5/2024، وبينما كان يأوي، في ساعات الليل الأخيرة، إلى مهجعه، الذي لم يكن يعتقد أنه كان آمناً بالقدر الكافي، سقطت من الأعلى، صاعقة أميركية الصنع، ألقت بها طائرة أميركية الصنع أيضاً يقودها طيار إسرائيلي، أحالت المنزل إلى دمار شامل، وحولته مع رفيقه القائد العسكري الميداني محمود حمامي، إلى أشلاء، بذل رفاقهما جهداً مضنياً في تجميعها في أكياس رحيل الشهداء.

وفي جنازة مهيبة، شديدة التواضع، عميقة في رمزيتها، ووري ورفيقه محمود الثرى، محاطاً بألم الفراق الأخير، ليصبح طلال أبو ظريفة عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، ذكرى لا تُنسى، إلى جانب الآلاف من أبناء منظمات الجبهة الذين سبقوه، والذين سيلحقون به، إلى الشهادة، على طريق القدس.

طلال أبو ظريفة، أيها الرفيق، لقد كنت قائداً بالفطرة، صقلتك التجربة في الميدان، وكان شعارك دائماً: «لسنا هوية تبحث عن مكان، بل مناضلون من أجل حرية الوطن»■

 

28/8/2024


 

 

 

 

 

 

 

أنطون سعادة .. في ذكرى مفكر قومي كبير،

 

 

 

شاء القدر أن يكون زعيماً

 

 

 

 

 

ينظر كثير من المؤرخين، وعلماء الإجتماع، إلى الزعيم أنطون سعادة، على أنه مفكر وقامة سياسية سامقة، جاء إلى ساحة النضال الوطني والمجتمعي، متجاوزاً عصره؛ فقد وجد نفسه، وهو يطرح أفكاره التقدمية، الإصلاحية الجذرية، يصارع نخباً سياسية تقليدية محافظة، أو حتى رجعية، تقلدت مواقعها في إدارة شئون بلدان المنطقة، تحت سقف الدوائر الإستعمارية، الساعية لإفراغ مفهوم الإستقلال من جوهره السيادي، لصالح تبعية سياسية إقتصادية للغرب الإستعماري.

لذلك، لا غرابة أن تتحالف هذه التيارات السياسية على اختلاف مشاربها، متجاوزة الخلافات فيما بينها، كما وقع في سوريا ولبنان، وتحيك مؤامرة مكشوفة، لتنهي حياة الزعيم، عبر إغتياله في 4/7/1949 بقرار قضائي تعسفي، مُعد مسبقاً من أعلى المرجعيات، نفذته السلطات الحاكمة ما أن صدر.

الزعيم أنطون سعادة إستشهد، لكنه لم يفارقنا، بل بقي بفكره معنا، لا نكتفي باستحضاره في مناسبات ولادته أو إستشهاده، بل هو راهن الحضور عبر الفكرة التي أطلقها وصارت مشروعاً سياسياً يدب على الأرض، ممثلة بحزبه؛ الحزب السوري القومي الإجتماعي.

لقد زرع الزعيم سعادة بذرة في وعي الناس، أفراداً، ومجتمعاً، وأمة، وصارت البذرة شجرة باسقة، قاومت الرياح العاتية، وتحدتها، بحيث صار الحزب السوري القومي الإجتماعي ركناً من أركان حركة التحرر الوطني والإجتماعي في المنطقة، ضد سياسات الهيمنة الغربية، وضد المشروع الصهيوني ممثلاً بإسرائيل.

وككل مفكر مبدع، لا تندثر أفكاره حتى بعد رحيله، آمن سعادة بالإنسان، باعتباره أساساً لبناء المجتمع، وبالمجتمع باعتباره مكوناً للأمة، أي بتعبير آخر، آمن بدور التنظيم كرافعة للبناء والتغيير، وهو المفكر المطلع على تجارب الشعوب والأمم والقوميات الأخرى، وفي القلب منها «الأمة السورية» كما يُعرِّفها إنطلاقاً من معطيات الوجود في الزمان والتجذر في المكان.

وهو الذي نظر إلى واقع «الأمة السورية» كونها تعيش تحت وطأة «وعد بلفور»، الذي شَرَّعَ أبواب فلسطين أمام الهجرات اليهودية في سياق إنجاز المشروع الصهيوني لإقامة دولة إسرائيل، كما وكونها – أي «الأمة»- تعاني من تفاهمات «سايكس - بيكو»، التي مزقت المنطقة إلى كيانات سياسية عدة، تحكمها نخب سياسية، تنتمي وفرة منها إلى الإقطاع السياسي، أو إلى النخب العسكرية المنشغلة بصراعات السلطة على حساب توطيد أركان الوطن، أو تلك التي مدت يديها إلى المشروع الصهيوني، تتآمر معه، لتقاسم فلسطين، باعتبارها غنيمة سياسية مستباحة.

ورغم أن الفكر السوري القومي الاجتماعي، تعارض لفترة مع الفكر القومي العربي، ومع فكر الاشتراكية العلمية، إلا أنه شق طريقه، ونجح في تطوير أدواته السياسية والحزبية، واندمج في خندق النضال، جنباً إلى جنب، مع باقي القوى والتيارات السياسية، مدركاً أهمية إنتمائه إلى حركة التحرر في المنطقة، وضرورة إخراجها من التخلف والإنقسام والتفتت، الذي أبقاها فريسة للإنتداب الإستعماري الفرنسي والبريطاني، مؤهلة في كل مرحلة للاستتباع في ظل هيمنة الغرب على منطقتنا.

البذرة التي زرعها الزعيم سعادة، لم تكتفِ بطرح مشروع الأمة السورية، بوحدتها، بل إهتم بتجديد الوعي، شعاره «التوليد لا التقليد»، ما أسهم في التأسيس لثورة فكرية، شعارها «العقل لا النقل». لقد أسهمت هذه الثورة في مقارعة الأفكار المفوَّتة، الهادفة إلى تفتيت المجتمع إلى أقوام وأديان ومذاهب وملل ونحل، بدلاً من توحيده في ظل مشروع إستقلالي قومي جامع بأفق تقدمي.

لذلك، لا غرابة أن يدعو الزعيم إلى تجاوز حدود الأفكار البالية التي يقوم عليها الإنتماء الهوياتي الضيق، لصالح الإنتماء إلى المجتمع بكليته، وإلى الأمة بأسرها، وأن يرى في هذه الأفكار المفوَّتة، وخاصة عندما تتمأسس بأي من الأشكال، قوة شد عكسي، توغل في إلغاء التحولات الثورية في الفكر والوعي، إن لم نقل تعطلها.

بقي أن نقول أن الزعيم سعادة، لم يكن شهيد تآمر النخب السياسية المنصاعة فحسب، بل كان في واقع الأمر، شهيد فلسطين. لقد قرأ الزعيم مبكراً خطر المشروع الصهيوني على مشروع نهضة الأمة في عين المكان، أي على فلسطين، ولبنان وسوريا، والأردن والعراق، فدعا مبكراً إلى محاربة هذا المشروع قبل استفحاله، وقبل أن يشتد عوده ويتحول إلى خطر داهم على شعوب المنطقة بأسرها.

ما لم يدركه البعض، والبعض المتنفذ غالباً، بعد النكبة، أدركه الزعيم، قبل وقوعها، لذا إحتل المشروع الصهيوني بمخاطره على الأمة، موقعه المتقدم في وعيه، ومن هنا إهتمامه بتظهير ما يمثله من تهديد وجودي يستدعي المسارعة إلى توفير شروط إجهاضه قبل أن يتحول إلى قوة سيطرة وتسلط، مسنودة بالغرب.

من هنا، كان إنخراطه في القتال ضد العصابات الصهيونية في فلسطين، على رأس أعضاء حزبه الذين شكلوا أحد فصائل القتال في فلسطين.

وفي هذا السياق، أدرك أنطون سعادة بعد النكبة، الأثر البليغ لهذ الحدث الكبير على مصالح الأمة، ومستقبلها، ووحدتها، وانشغالها بدرء الخطر الصهيوني على صناعة المستقبل المشرق.

ما أسس له الزعيم، في ثلاثينيات القرن العشرين، واستشهد لأجله قبل أن ينتصف القرن بعام، يصونه الآن حزبه، الحزب السوري القومي الاجتماعي، بانخراطه في القتال، ضد الاحتلال الإسرائيلي؛ وبتبنيه خيار المقاومة، جنباً إلى جنب، مع باقي فصائل المقاومة في المنطقة، قدم الحزب من أجل تحرير لبنان من قوات الغزو الإسرائيلي عام 1982 قافلة من الشهداء، إلى أن اندحر الاحتلال عن الأراضي اللبنانية عام 2000، وما زال الحزب السوري القومي الاجتماعي، في خندق الدفاع عن «الأمة» في وجه العدوان الإسرائيلي، والهيمنة الغربية، مدركاً الواقع المستجد، باعتبارنا نعيش في هذه المنطقة مرحلة تحرر وطني بمواجهة مشروع بناء الحلف الإسرائيلي – العربي، تحت المظلة الأميركية، بدعوى «التكامل الهيكلي» للإقليم، عبر «دمج» إسرائيل في المنطقة، وبناء حلف «الناتو العربي» بمشاركة إسرائيل، بذريعة «التكامل الدفاعي» ضد الفعل الوطني المقاوم المتصاعد فعلاً وتأثيراً على إمتداد الإقليم.

في استذكارنا لسيرته ورحيله إغتيالاً على يد أنظمة التبعية للاستعمار الغربي، نستعيد سيرة قامة فكرية، تحوَّل إبداعها الفكري إلى قوة سياسية فاعلة، إلتف حولها آلاف وآلاف المحازبين والمؤيدين، وانتمت إلى فكر أثبت قدرته على الحياة، هو فكر الزعيم أنطون سعادة

 

4/7/2024

 

 

 

الياس خوري .. اللبناني،

 

 

 

الذي اختار فلسطين قضية

 

■ منذ الساعات الأولى لصباح السادس عشر من أيلول/ سبتمبر 1984، تدفقت إلى شوارع مخيم شاتيلا وأزقته الضيقة، آلاف المواطنين، لبنانيين وفلسطينيين، يحيون الذكرى الثانية لمجزرة صبرا وشاتيلا، إندفعت بمسيرة حاشدة إلى المقبرة الجماعية للمجزرة، رافعين الأعلام اللبنانية والفلسطينية، وسار في ركاب التظاهرة التي شهدتها العاصمة اللبنانية بيروت للمرة الأولى، منذ الغزو الإسرائيلي في حزيران/ يونيو 1982، قادة سياسيون، ومؤسسات إجتماعية وكتّاب وصحفيون محليون وأجانب، ومن ضمن هؤلاء كان يسير في المقدمة، كاتب وروائي وصحفي، وصاحب كلمة جريئة، إسمه الياس خوري.

■ عاش الياس خوري في مطلع شبابه المرحلة الذهبية لبلده لبنان. في تلك الأيام إنطلقت الحركة الوطنية اللبنانية، بتعدديتها وحيويتها الدافقة، بخطى ثابتة نحو إرتياد آفاق التحرر الوطني والديمقراطي في دولة المواطنة والحرية والمساواة؛ وترافقت معها إنطلاقة مقاومة الشعب الفلسطيني، رداً على هزيمة 5 حزيران/ يونيو 67، وبدأت الحالة العربية تعيش منعطفات سياسية، تحت وطأة الهزيمة وفي ظل النهوض الشعبي في المنطقة. بالمقابل، لجأت أطراف التحالف الأميركي- الإسرائيلي إلى تحريك أدواتها وأتباعها والملتحقين بها، والمتضررين من النهوض الجماهيري الكبير، والإطلالة القوية للأفكار والمشاريع التحررية الوطنية الديمقراطية في الإقليم. وفي قلب هذا التحرك في لبنان، كان الياس خوري يعيش في كنف عائلته، في بيروت، التي انقسمت سياسياً، حتى قبل إندلاع حرب السنتين 1975-1976، إلى شرقية وغربية، حيث نفوذ الأحزاب الوطنية اللبنانية في الغربية، المتحالفة مع المقاومة الفلسطينية.

■ أدرك الياس خوري أن المقاومة الفلسطينية ليست مجرد «بندقية» أُشهرت بمواجهة هزيمة حزيران والرد عليها فحسب، بل هي حركة تحرر وطني، تشكلت في مراحل النهوض والصمود الكبرى، حليفة حركات التحرر العربية، وواحدة من أهم حركات التحرر في العالم. كما رأى في الإنتماء العضوي، إلى هذه الحركة الوطنية، مخرجاً له من الغوص في معازل الإنتماءات الضيقة، وحلاً عملياً لإثبات خطأ الإدعاء بـ«الطائفة – الطبقة»؛ فلا هذه، في الغربية ولا تلك في الشرقية، طبقة، بل صراع نفوذ على هندسة نظام سياسي لم تستقر أوضاعه، منذ الاستقلال.

■ شكل ميدان الصحافة الفلسطينية التي ازدهرت في بيروت، في زمن النهوض والصمود، الفضاء الفسيح، ليعبر فيه الياس خوري عن نفسه، وفكره وصدق إنتماءه إلى عروبته برؤية تقدمية وطنية. إحتل مكانة مميزة في عالم الصحافة الفلسطينية، حتى أن كثيرين إعتقدوا أن الياس خوري فلسطيني، أو لبناني من أصول فلسطينية، فقد رأوا فيه نموذجاً للمثقف الذي يقرن الوعي بالعمل، والذي لا يكتفي بالدفاع عن أفكاره وقناعاته في مساجلات المنتديات – على قيمتها – بل يندفع إلى الميدان، مساهمة منه في تحقيقها.

دافع الياس خوري عن قناعته ويقينه السياسي، بالرواية، والقصة، والمقال؛ كان أديباً كما كان سياسياً؛ كان روائياً بقدر ما كان مؤرخاً عبر الرواية؛ كان ناقداً، يُحول قلمه إلى سوط يجلد فيه الإنحراف السياسي الرسمي عربياً ومحلياً، يملك الشجاعة في قول كلمته بالوضوح الكافي دون دوران، وبعيداً عن أي حسابات خاصة.

وقدم في هذا السياق نموذجاً في رؤيته لما يتوجب على الكاتب والمثقف أن يكون، حين انتمى إلى «الكتيبة الطلابية»، الفلسطينية بانتمائها، والتعددية – إن لم يكن الأممية - بتكوينها، التي أرادت ونجحت في أن تقدم تجربة رائدة، جمعت في صفوفها عشرات المثقفين، من أهل القلم وغيرهم، الذين حولوا قواعد العمل الفدائي إلى حاضنة للفكر وتعميق الوعي النقدي بجوهر المشروع الوطني الفلسطيني.

■ بعد أن غادرت قيادة المقاومة الفلسطينية بيروت في أواخر آب/ أغسطس 1982، بعد 87 يوماً من القتال والحصار، عاش القاطع الغربي من العاصمة اللبنانية، أياماً عصيبة من القمع بمختلف الأشكال والأساليب، طاولت بيئة المقاومة من فلسطينيين ولبنانيين، فمنهم من إختار الإنزواء، أو الإنضواء، أو الإغتراب المؤقت عن البلد، ومنهم من صمد وكافح وثبت؛ أما الياس خوري، فعلى الرغم مما تعرض له من مضايقات، واستدعاءات لتحقيقات هدفها ترهيبه ودفعه إلى التكيف أو الرحيل، فقد بقي صامداً متشبثاً بموقفه، لم يتخلَ عن قلمه ولا عن خطابه السياسي، وبقي أميناً لالتزامه، ووفياً لأفكاره، التي كان يدرك أنه قد يدفع يوماً ما، ثمنهاً غالياً كما دفعه كثيرٌ ممن طالتهم اليد السوداء.

لذلك، عندما إنطلق في مقدمة مسيرة إحياء ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا، إنما كان يحتفي بانتصاره على الوعي الإنعزالي، الذي أراد إغراق بيروت في دهاليزه المظلمة، وأنه استعاد عاصمته بيروت، باعتبارها عاصمة تتيح للشعب الفلسطيني، أن يعبر عن وطنيته وانتمائه؛ ويمارس فيها الشعب اللبناني، حريته في انتمائه إلى قواه الوطنية، والتحامه بالقضية الفلسطينية.

■ لم يكن الياس خوري مجرد روائي يكتب الرواية من أجل إشباع رغبته في الكتابة، بل جعل من روايته رسالة، يتوجه بها إلى من يعتبرهم قراءه وشركاءه في الوعي والإنتماء. كان يكتب من قلب الحدث، وليس من منظار الرؤية عن بعد. كان يعيش الرواية قبل أن يكتبها، كما في رواية «باب الشمس» التي صارت عملاً سينمائياً ناجحاً؛ ورغم عمق إدراكه لجوهر القضية الفلسطينية وتفاصيلها، فإنه عمد إلى التحضير لها ليس عبر المراجع المكتوبة، بل عبر العودة إلى المرجع الحقيقي للقضية، إلى العيش في خيمة القصص في المخيم،  فأجرى في مخيم برج البراجنة، في ضاحية بيروت الجنوبية، عشرات المقابلات، إنتقل فيها من عمق إدراكه للقضية الفلسطينية إلى عمق إدراكه للإنسان الفلسطيني بما ينطوي عليه من مشاعر وأحلام، ويستبطنه من تمنيات، وتطلع إلى الحاضر وإلى المستقبل، وهكذا كانت «باب الشمس» صورة شديدة الواقعية في تصويرها للإنسان الفلسطيني، الجوهر والأساس في قضيته الوطنية.

■ وكذلك لم يكن الياس خوري، مجرد صحفي يبحث لنفسه عن دور، بل كان يعتبر الصحافة ميداناً للنضال اليومي ولعله عبَّر عن هذا النزوع الذي كان يبحث عن منبر من خلال توليه إحدى المهام الرئيسية في «مؤسسة الدراسات الفلسطينية»، في بيروت، ومنها دوره في استدامة صدور مجلة «دراسات فلسطينية» وإغنائها بالملفات ومحاور النقاش، وإعلاء إتجاهها السياسي الوطني والثقافي، وحمايته من أيّة تلونات سياسية، قد تنزلق بين الأسطر.

الياس خوري أيها الصديق الراحل الباقي/ على ضريحك وردة بيضاء■

 

تشرين الأول/ أكتوبر 2024

 

أضف تعليق