19 تشرين الأول 2024 الساعة 15:36

حرب المشافي.. عقيدة قتل وتهجير

2024-10-19 عدد القراءات : 12
أسامة خليفة/ كاتب فلسطيني

استهداف المشافي وسيارات الإسعاف والمسعفين والطواقم الطبية ورجال الدفاع المدني، سياسة إسرائيلية وحشية ممنهجة، تهدف إلى قتل أو تهجير أكبر عدد ممكن من السكان، ضمن استراتيجية الإبادة الجماعية، التي تتبعها ضد الفلسطينيين واللبنانيين، وهي انتهاك صارخ للقانون الدولي الإنساني، طالما أن المشافي تقوم بوظيفتها الإنسانية، ولا تستخدم لأغراض عسكرية، بل يحاول العاملون فيها إنقاذ المصابين والجرحى وانتشال الشهداء. يحظر ـــــ وفقاً للمادة 13 من الملحق الأول الإضافي لاتفاقية جنيف، ووفقاً للقانون الدولي الإنساني ـــــ مهاجمة العاملين في المجال الطبي، وهم يؤدون وظيفتهم الإنسانية، ولا يشكلون خطراً على أحد.

قامت إسرائيل بشن هجمات بربرية على المشافي الفلسطينية مدعية احتواءها مراكز قيادة، وغرف عمليات، ومخازن أسلحة للمقاومين، وقد استبق جيش الاحتلال استهدافه المشافي بقطع الكهرباء عنها، ومنع وصول الإمدادات الطبية إليها، ومنع تزويدها بالوقود، هادفاً إلى تدمير نظام الرعاية الصحية في قطاع غزة، وهي انتهاكات يتطلب من المجتمع الدولي التحقيق فيها كجرائم حرب، وقد ارتكبت هذه الجرائم أمام عدسات التصوير وعلى مرأى من كل العالم،  كما حدث في ليلة 17 تشرين الأول/ أكتوبر حيث استهدفت قوات الاحتلال مشفى المعمداني، مما أدى إلى استشهاد 500 فلسطيني، غالبيتهم من النساء والأطفال ممن لجأوا إلى المشفى، وفي اعتبارهم أنها ملجأ أمن.

إزاء سياسة إسرائيل ضد القطاع الصحي نجد أربعة مواقف متباينة، الأول: مسؤولون وسياسيون افتقدوا إنسانيتهم وبرروا للجيش الإسرائيلي قتل المدنيين، وهذا موقف مشارك في الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وسبق أن رفعت نيكاراغوا دعوى ضد ألمانيا إلى محكمة العدل الدولية، بعد أن فرضت المحكمة سلسلة إجراءات ملزمة، ومنها معاقبة كل من يطلق تصريحات قد تحرّض أو تشجّع على ارتكاب جرائم الإبادة. والصورة الآن أصبحت أكثر وضوحاً في دور ألمانيا في حرب الإبادة، يؤكدها تصريح وزيرة خارجية ألمانية نالينا بيربوك التي قالت خلال كلمتها بمناسبة مرور عام على أحداث السابع من تشرين الأول / أكتوبر إن «أمن إسرائيل جزء أساسي من وجود ألمانيا الحالية، وحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها هو مسؤوليتنا أيضًا». وقالت: «الدفاع عن النفس لا يعني مهاجمة الإرهابيين فحسب، بل تدميرهم». وأضافت أنه عندما يختبئ «إرهابيو حماس» خلف الناس، وخلف المدارس، سنجد أنفسنا في مناطق معقدة للغاية، لكن هذا لا يعني أن نتفاداها.

والموقف الثاني: الصمت الدولي، والصمت جريمة بحق الإنسانية، حيث الصمت يعني التواطؤ، ويعطي شرعية للمزاعم الإسرائيلية، مما يسمح لها بالاستمرار في قصف المدارس والمشافي واستهداف القطاع الصحي.

الموقف الثالث: العجز الأممي، موقف يطالب بحماية المستشفيات والمدنيين، داخل المراكز الطبية أو خارجها لا سيما في مناطق النزوح، قال وكيل الأمين العام الأممي للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث، إن المستشفيات بغزة يجب أن تكون أماكن آمنة، وليست ساحة حرب، وأن إطلاق النار على المرضى والمدنيين، الذين يحاولون الفرار، أمر غير مقبول ويجب أن ينتهي. لكن الأمم المتحدة لم تستجب لدعوة منظمة "اليونيسف"، ولمنظمة الصحة العالمية، إلى "تحرك دولي عاجل لإنهاء الهجمات الإسرائيلية ضد المشافي في قطاع غزة. ولم تقم بإجراءات عملية لنزع الذرائع الإسرائيلية بأن المشافي مقرات للمقاتلين، إنه موقف مريب من المنظمات الدولية التي لم تقم بتفتيش المشافي وسمحت لجيش الاحتلال بتزوير الوقائع.

الإسرائيليون يعلمون أن ما يفعلونه يخالف المواثيق والأعراف الدولية، لكن بفضل الولايات المتحدة ودعمها  يتمتعون بحصانة دولية من الملاحقة والعقاب، وإلى الآن تمتنع محكمة الجنايات الدولية عن إصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو رغم قرار محكمة العدل الدولية باعتبار الحرب على غزة حرب إبادة جماعية.

حاصرت قوات الاحتلال مجمع الشفاء الطبي، وفي 15 تشرين الثاني / نوفمبر 2023 اقتحم جيش الاحتلال المجمع ، مدعياً وجود قاعدة لحماس تحت مجمع الشفاء الطبي، وهو ما لم تستطع إسرائيل اثباته، وفي 1 نيسان/ إبريل 2024 وبعد عملية استمرت نحو أسبوعين انسحب الجيش الإسرائيلي من مجمع الشفاء الطبي بعد أن خلف دماراً هائلاً وعشرات الجثث بداخله وفي محيطه، والعالم عاجز عن حماية المدنيين الفلسطينيين. وتكررت أعمال عدوانية مشابهة مع كل مشافي غزة، دون مبالاة برأي عام عالمي صامت صمت القبور، اعتقلت قوات الاحتلال الطواقم الطبية والنازحين، وأخضعتهم للتحقيق والتعذيب، وارتكبت فظائع وجرائم بحق المرضى والفريق الطبي والنازحين،.

الموقف الرابع: المتضامن مع غزة وشعبها الذي يتعرض للإبادة، ويعمل ما بوسعه القيام به لوقف حرب اسرائيل العدوانية، ومنهم الطبيب النرويجي مادس غيلبرت الذي عمل جراحاً يعالج الجرحى في مجمع الشفاء الطبي خلال حروب سابقة على غزة، ثم منعته سلطات الاحتلال من دخول القطاع نهائياً خلال حرب طوفان الأقصى لأسباب أمنية حسب الادعاءات الإسرائيلية. يقول غيلبرت: لقد وثّقت الكثير في غزّة، وقدّمت أدلة إلى لجان مختلفة، وكتبت أوراقاً علمية وكتباً حول الوضع.

لم يقتصر دوره على الجراحة، فقد نشر كتابين يسجل فيهما شهادته الإنسانية الصادقة والمهمة جداً على وحشية الاحتلال، لم يبقَ صامتاً وفضح جرائم جيش الاحتلال، وصرح أن أنظمة الاستعمار هي المسؤولة عن القتل والحروب الوحشية، وأن نضال اللبنانيين والفلسطينيين يشكّل بالنسبة لغيلبرت رمزاً قوياً للمقاومة يتطلّب تضامن العالم.

في الحروب الإسرائيلية أعوام 2006، و2009، و2012، و2014عمل غيلبرت في مستشفى دار الشفاء، وكانت المشافي في القطاع عموماً تعاني من الحصار والتجويع، ومن كارثة إنسانية تستحق معالجة سريعة. عمل في هذه الظروف على إنقاذ ما يمكن إنقاذه لاسيما في العدوان الإسرائيلي الوحشي 2014 خلال عملية الجرف الصامد، حيث وثق غيلبرت من خلال كتابه (ليل غزة) فظائع الحرب الإسرائيلية في قتل المدنيين، وفي القصف والهجمات المتعمدة للمشافي وسيارات الإسعاف، باللحظة والدقيقة والصورة والكلمة. إذ أنتج أفلاماً وثائقية عن الجرائم الاسرائيلية، وقدم تقريراً لمنظمة الأمم المتحدة عن الحروب الإسرائيلية المدمرة على غزة لتدمير البنى التحتية، كمحطات توليد الكهرباء وخزانات المياه والأبنية، وحصارها لمنع دخول مقومات الحياة إلى سكانها.

من هذه الحروب خلص الطبيب النرويجي غيلبرت إلى أن سياسة إسرائيل لا تتغير، هم يحاصرون غزة الآن تماماً كما فعلوا عام 1982 حين حاصروا بيروت، ولم يكتفوا بالقصف والتفجير والاغتيال بل منعوا عنها مقومات الحياة، وهو يستغرب محاولة إسرائيل تبرير قتلها لمدنيين بوجود أسلحة خطيرة تخزنها حركة حماس بين المدنيين، فهذا «ادعاء غبي وكاذب.. الأسلحة ليست في المدارس التي قصفتها آلة الحرب الإسرائيلية، ولا المستشفيات ولا أماكن العبادة، ولا في آلاف المنازل التي هدمت فوق ساكنيها».

يقول غيلبرت عن التضامن: «هو مفهوم بسيط لكنه جوهري. أؤمن بالنضال المنظّم لتحقيق هذا الهدف. ولكن يجب على الجميع أن يلعبوا دورهم، وأن يتخذوا خطوات عملية، بدلاً من الاستسلام للإحباط. عندما نشعر بالعجز، فإنهم يربحون. وأنا أرفع الصوت لأنّه لا بد من مقاومة هيمنتهم على وسائل الإعلام، ومنصّات التواصل الاجتماعي. ونحن نحتاج إلى إيجاد مساحتنا للعمل، سواء كان ذلك من خلال كتابة الشعر أو الرسم أو تنظيم المظاهرات أو حتى مناقشة القضايا في محافلنا المحلية. نحن نعيش في لحظة تاريخية، ويجب على الجميع أن يختاروا موقعهم: أين تقف؟. في حالة القمع، فإنّ الحياد يعني الوقوف مع الظالم. وقد أكّد هذا أيضًا الأسقف الجنوب أفريقي ديزموند توتو. لا يوجد حياد تجاه القمع. في فلسطين ولبنان، لا يمكنك أن تكون محايدًا. عليك أن تختار: إما أن تكون مع الصهاينة والسياسات الاستعمارية الأمريكية أو مع الشعب الفلسطيني واللبناني. وأنا أخترت موقعي مع الفلسطينيّين واللبنانيّين».

والآن الطبيب غيلبرت في مستشفى النجدة الشعبيّة في مدينة النبطية في الجنوب اللبناني يؤكد من جديد: «لا حياد مع نضال الشعبين الفلسطيني واللبناني ضدّ الاستعمار والصهيونية»، يتابع الجرائم الإسرائيليّة، يوثق أحداثها ويعالج ضحاياها، ويدين الصمت العالمي عن هذه الجرائم وينتقد التقاعس الدولي عن حماية المدنيين في لبنان وفلسطين.

أضف تعليق