25 كانون الأول 2024 الساعة 09:37

المَعالِم الأوَّلية لمرحلة ما بعد نصر الله..

2024-09-30 عدد القراءات : 583
عبد المجيد سويلم:
 
 
 

ما الحقائق التي نتجت على المدى المباشر، والحقائق التي ستنتج في سياق الصراع بكل أشكاله عن اغتيال أمين عام «حزب الله» اللبناني حسن نصر الله؟

 

غياب قائد على هذه الدرجة من المكانة والدور والتأثير، والذي ذهب بالكثير من المهتمّين والمتابعين، من المختصّين، ومن أبسط الناس، في العالمَين العربي والإسلامي إلى مقارنته، ومقارنة غيابه بغياب الزعيم جمال عبد الناصر.
هذه المقارنة ليست جزافية، ولا مشاعرية، ذلك أنّ نصر الله على مدى زاد على الأربعين عاماً كان منخرطاً في تجربة بناء وتطوّر الحزب منذ تأسيسه، وقد شارك بفعالية خاصة في هذه التجربة، وتقلّد مناصبه عن كفاءة نادرة وعن نبوغ مبكّر، وبوتائر عالية ومتسارعة من النضج ومن امتلاك ناصية القيادة الفذّة حتى أصبح أمين عام الحزب، بُعَيدَ اغتيال عباس الموسوي أمين عام الحزب في شباط 1992.
عُرف عن نصر الله إيمانه الرّاسخ، ويقينه الفكري والثقافي، وحساسيته الشديدة تجاه بيئة المقاومة، وحرصه الشديد على مُعايشتها وتلمُّس آلامها وآمالها حتى تحوّلت هذه البيئة إلى حصنه وعرينه، وإلى موضع فخره واعتزازه ورعايته واحتضانه.
كما عُرف عن نصر الله «ضعفه» الإنساني أمام قيم الشهادة والافتداء، وأمام العائلات الثكلى، وأمام مظاهر اليُتم وضنك عيش الناس الذين كانوا أوّل من ضحُّوا وأكثر من قدّموا وتقدّموا.
كان، أيضاً، شخصية نادرة في التاريخ الحديث للعرب فهو وطني غيور، وقومي إلى أبعد الحدود، ولم يكن يوماً يرى في الانتماء إلى الطائفة الشيعية سوى قيم الكربلائية العميقة الإيمان برفض الذل والهوان، والثورة على الطغاة، وعلى الانحياز المطلق للمظلومين.
لم يرَ في هذا الانتماء أيديولوجية مغلقة، ولا مصفوفات مُعلّبة، أو حاجزاً يحجب عن ناظرَيه قيم الانفتاح والتنوُّر، وقيم الحقيقة ومناهج العلم والتفكير.
وأما الشجاعة والثبات والإقدام، وحسن التفكير والتدبير، والتروّي قبل الحسم، والحسم الصاعق بعد إعمال التأمُّل ودراسة المعطيات، واعتماد الممكنات من بين أرجح التقديرات فحدّث ولا حَرَج.
من هنا انطلق نحو حقائق المرحلة الجديدة.
وُجّهت للحزب في الأيّام القليلة الماضية، وقبلها الأسابيع القليلة الماضية من الضربات ما كان يمكن في ظروف مماثلة بدولٍ كبرى أن يؤدي إلى السقوط والانهيار والشلل.
ومع اغتيال قائده الذي كان على هذا المستوى من الهَيبة والقدرة والسمعة تصبح مهمّة ترميم أوضاعه، وإعادة النهوض والاستنهاض والعضّ على الجِراح ولملمة الصفوف في ظروف حرب مستعرة، وفي ظلّ هجمة تبدو فيها قرارات أعدائه حاسمة وقاصمة وساحقة وماحقة.. مهمة صعبة وعلى أعلى درجات الدقّة والتعقيد.
ويكفي أن نشير هنا إلى أن تورّط الولايات المتحدة في هذه الهجمات العدوانية كلّها هو بمثابة حقيقة واقعة، وأنّ خطة تصفية قدرات الحزب، أو النيل من قدراته، وإضعافها على أقلّ تقدير باتت ثابتة ومؤكّدة، ليس بالمعنى الاستخباري فقط - فهذه مسألة محسومة سلفاً - وإنّما بالمعنى الكامل للمشاركة العمليّاتية المباشرة، الأمر الذي يعني أنّ الحزب إنّما يواجه حلفاً دولياً متكاملاً ليست دولة الاحتلال سوى الأداة التنفيذية فيه.
من هنا، وعلى أساس ذلك، ولأسباب أخرى كبيرة ومهمة، خصوصاً كمية المعطيات المعلوماتية التي يمتلكها «الغرب»، وتمتلكها دولة الاحتلال، فإنّ برامج الذكاء الاصطناعي التي وصلت فيه الولايات المتحدة، وفي الدولة العبرية أصبحت توفّر لهما الكثير من المنافذ والنوافذ للوصول إلى قيادات الحزب الميدانية، وإلى القيادات العسكرية والأمنية، وذلك لأنه في نهاية المطاف هو حزب علني في المجال السياسي، وهو شبه سرّي، وليس سرّياً كاملاً في مجال النشاط العسكري والأمني رغم عدم وجود مظاهر علنية لهذا النشاط، لكن فترة مشاركة الحزب النشطة في الحرب السورية على منظمات الإرهاب اضطرَّته إلى كشف مقدّراته البشرية، أو بعضها على الأقلّ، لكنها لم تؤثّر بصورة خاصّة على مقدّراته التسليحية على ما يبدو.
أقصد أنّ عملية إعادة بناء قدرات الحزب يلزمها الكثير من الجهود الخاصّة، ومن الوقت المطلوب في ظروف استمرار الهجمات، وفي ظروف الضغط المعنوي عليه لسرعة الردّ، وبأقصى حدّ ممكن على دولة الاحتلال، وضرب كلّ ما يمكن ضربه، وتدمير كلّ ما يمكن تدميره لإعادة التوازن الردعي من جديد، ولإعادة الاستقرار النفسي والمعنوي لعشرات الملايين من اللبنانيين والفلسطينيين والعرب والمسلمين وأحرار العالم.
وهذه هي الحقيقة الأولى والمَعْلَم الأوّل.
والحقيقة الثانية، أو المَعْلَم الثاني، هي أنّ وسائل إعلام نشطة للغاية في مجال «التواصل الاجتماعي»، وفي بعض المنصّات والفضائيات العربية والمحلية والدولية قد روّجت لإحداث بلبلة كبيرة في صفوف الحزب بأن الأمر في نجاح أعدائه في توجيهه هذه السلسلة من الضربات الموجعة والمرعبة حقاً ما كان لها أن تؤمّن مثل هذا النجاح لولا أنّ صفوفه، وربما القيادة «مخترقة»، وهو الأمر الذي يهدف بالأساس إلى تعقيد مسألة إعادة البناء، ولمّ الصفوف.
كلّ الوسائل تشير إلى أنّ 80 أو 90% من المعلومات التي استندت إليها الضربات العدوانية الإسرائيلية تعود لمقدّراتها التقنية في التتبُّع على مدار سنوات طويلة، وعلى ملاحقة كل من يحيط بالقيادات من بيئتها، ومن خارج بيئتها، بدءاً من البصمة الصوتية، ومروراً بالحركة والتنقُّل، وانتهاءً بأدقّ تفاصيل الحياة اليومية لآلاف الناس المحيطين بها.
ها لا يُلغي طبعاً وجود اختراقات، ولا يلغي وجود شبكات متكاملة تعمل على الأرض، ولا يقلّل من شأن أجهزة الاستشعار التي يمكن أن توجد في الأوساط الخاصة بهذه القيادات.. لكن محاولة تصوير كل النجاحات المعادية للحزب بأنّها حصيلة للاختراقات بالمعاني التي يتم ترويجها هي جزء أساسي من الهجمات التي يواجهها الحزب.
المَعْلَم الثالث، هو أنّ هذه الحرب على الشعبين والمقاومتين، وعلى الدول الأخرى من «المحور» وشعوبها هي بالفعل الحرب الوجودية، وليست أقلّ من ذلك، وهي حرب على وجودية دولة الاحتلال من وجهة نظر الحاكمين فيها، والقائمين عليها كلّهم، وهي وجودية بكلّ معاني الإجرام والتوحُّش والتصفية والاستئصال.
وهي حرب وجودية بالفعل بالنسبة لـ»الغرب» من زاوية الأخطار التي يمكن أن تتهدّد دوره ومكانته في منطقة الإقليم.
ولأنّ هذا الدور، وهذه المكانة في هذا الإقليم بالذات أصبحت هي مقياس قدرة «الغرب» على إعادة رسم الخارطة الدولية، بسبب ما يتمتع به الإقليم من مزايا إستراتيجية خاصة، خصوصاً بعد هزيمته في أوكرانيا، وبعد الفشل في تحويل تايوان إلى أوكرانيا جديدة، وبعد أن تجاوزت كل من روسيا والصين كل هذه العقبات، وتخطّت كل الصعاب.. بسبب ذلك كلّه أصبح «الشرق الأوسط الأميركي الغربي الجديد» هو بمثابة معركة وجودية.
وجودية دولة الاحتلال في هذه الحرب تصل إلى حدود البقاء من عدمه، ووجودية «الغرب» تصل إلى حدود المعقل الأخير.
«حزب الله» يقع لأسباب كثيرة في مركز الأهمية الخاصة في إطار هذه الحرب، ويحتلّ دور المدير التنفيذي لـ»المحور»، وهو المنسّق الأوّل في كلّ عمليّاته وخططه وإستراتيجياته، وهذا الأمر بالذات يحوّل معركته إلى معركة وجودية مقابلة.
المَعْلَم الرابع، وتأسيساً على كلّ ما سبق، فإنّ الحزب يواجه أخطر مرحلة في تاريخه، هو لن يستطيع الصمود والانتصار في هذه الحرب المدمّرة، إلّا إذا تمّ دعمه وإسناده بصورة فاعلة بأساليب جديدة، قوية ووسائل مبتكرة، وفاعلة وحاسمة، وهو الممرّ الإجباري لانتصار المقاومة الفلسطينية في القطاع.
قيادة الحزب الجديدة تعمل في ظروف لم يسبق أن عملت في مثلها من قبل، والعيون كلّ العيون على هذه القيادة، و»محور المقاومة» يجب أن يقدّم كلّ ما يستطيع الآن لانتصار الحزب في معركة النهوض والصمود والقدرة على المواجهة.
إذا تحقّق للحزب مثل هذا الدعم والإسناد، فليس هناك من قوّة على وجه الأرض قادرة على هزيمته

أضف تعليق