25 كانون الأول 2024 الساعة 09:38

أسئلة الحرب المعلّقة/ مناقشات إضافية..

2024-09-17 عدد القراءات : 830

عبد المجيد سويلم

قلنا إنّ أصحاب نظرية "المغامرة" يعتبرون الخسائر والتضحيات الفلسطينية التي نتجت حتى هذه اللحظة من هذه الحرب العدوانية الطويلة تمثّل من وجهة نظرهم كارثة وطنية، ونكبة ثانية للشعب الفلسطيني.

صحيح أنّ غالبية هؤلاء هم من الوطنيين الذين يبدون مثل هذا الرأي بدافع الخوف على القضية الوطنية، وبدافع الحرص على حقوق شعبنا وأهدافه، وصحيح، أيضاً، أنّ هذه الغالبية، أو جزءاً مهمّاً منها، لا يشكّكون في نوايا المقاومة الفلسطينية، ولا تصل بهم الأمور في سياق التعبير عن هذا الرأي إلى اعتبار "الحسابات الخاطئة"، والمغامرة غير المحسوبة، مسألة يمكن أن تصل إلى "التآمر" بوعي، أو بغير وعي على هذه الأهداف وهذه الحقوق، إلّا أنّ قسماً ليس صغيراً منهم يعتبر أنّ ما قامت به حركة "حماس" كان مغامرةً طائشةً، وارتجالاً يضعها في دائرة "الاتهام"، وأنّ "الطوفان" قد جاء إمّا لحسابات ضيّقة، أو لحسابات إقليمية من خارج المصالح الوطنية، بل وعلى حساب هذه المصالح.
لكن اللافت هو أنّ أصحاب نظرية "المغامرة"، والذين لا يجوز وضعهم في "سلّة" واحدة، يلتقون للأسف في بعض الاستنتاجات، إلى الدرجة التي تضيع معها الفواصل والتخوم، وتتداخل الخطوط، وتتشابك المعادلات والحسابات، وتختلّ الموازنات والتقييمات.
لا أظنّ أنّ أصحاب نظرية "المؤامرة"، الذين يُرجعون كلّ مسألة "الطوفان" إلى مؤامرة كونية، وإقليمية لم تكن "حماس" سوى الأداة التنفيذية لهذه "المؤامرة"، يستحقّون منّا في هذا المقام عناء الدحض والتفنيد لأنّها وفق نظرية المؤامرة تكون مجرّد حركة غوغائية وهوجاء، وانفعالية المنهج والتفكير، وليس لديها ما تخسره أو تخشى عليه، وهي تكون في هذه الحالة قد قبلت ما أُمليَ عليها وغامرت بكلّ شيءٍ لتحقيق أهداف ليست أهدافها، وليست أهداف الشعب الفلسطيني.
كلّ الحقائق حول "حماس" تنفي هذه التصوّرات، لأنّها تنتمي إلى "الإخوان المسلمين"، وهي الأهمّ والأعرق في كامل التشكيلات الحزبية في الوطن العربي والإقليم، وهي امتداد لها وجزء خاص ومميز من "الإخوان" رغم تمايزها المتتابع عن الحركة الأمّ.
ثم إن "حماس" ليست مجرّد فصيل سياسي إسلاموي، وإنّما تحولت في سياق عملية كفاحية وطنية إلى ثاني أكبر قوة سياسية في فلسطين، ولم تعد مجرّد الفصيل الثاني من زاوية الوزن العددي في قياس قوة الأحزاب والقوى والفصائل، وإنّما من زاوية الوزن النوعي قبل كلّ قياس.
وكما أن بعض تفرُّعات "الإخوان" بقيت محافظة ومهادنة، وأحياناً متخاذلة، كما هو حال "جماعة منصور عبّاس "الجناح السياسي للفرع الجنوبي من الحركة الإسلامية" في "الداخل"، وكما كان عليه موقف "الإخوان" في العراق الذين ارتضوا الخطّة الأميركية التي رسمها الحاكم الأميركي لتهشيم المجتمع العراقي وقضيته، وكما قبلت الجماعة الدخول في لعبة تحطيم الدولة الوطنية في سورية وبلدان أخرى، وحاولت التحالف مع "الغرب" ومنظمات الإرهاب فقد كانت تفرُّعات أخرى لـ"الإخوان" تسير على النقيض من هذا النهج، وتتخذ من هذه السياسات والمواقف ما يعترض ويتعارض ويتناقض مع هذه التوجّهات.
صحيح أن "حماس" قد دخلت في لعبة "المحاور" في مراحل معينة، وصحيح أنّها في بعض المراحل راهنت على هذه "المحاور" للسطو على وحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني وشرعية هذا التمثيل، لكن الصحيح، أيضاً، أنها وفي إطار مخاض عسير وصعب تجاوزت الكثير من السياسات التي كان تلقي بظلال ثقيلة على حسم خياراتها الوطنية، والتحوّل إلى فصيل وطني فلسطيني، وهي الآن بكلّ المقاييس منخرطة في أدقّ تفاصيل العمل الوطني، وتخوض حرباً ضروساً تدفع من خلالها تضحيات كبيرة من لحمها الحيّ، ومن مقدّراتها، وكوادرها، وهي اليوم تحظى بـالهيبة الشعبية والتأييد الجماهيري بسبب هذا الانخراط بالذات، وليس بسبب علاقتها بـ"الإخوان"، ولم تكن الجماعات الإسلامية في الضفة والقطاع سوى جماعات هامشية قبل مغادرة العمل الدعوي كعمل رئيس، وأحياناً وحيد وخاص لتنغمس في معمعان العمل الوطني، وكان هذا الانتقال بالذات هو بمثابة "التحاق" نظري وعملي بالمسألة الوطنية.
حاولت أن أُسهب قليلاً لكي يتمّ التأكيد أنّ "الطوفان" قد جاء في ضوء ما تقدّم في سياق إرادة سياسية وطنية في التصدي لمشروع صهيوني "نضج" ووصل إلى حدّ وضع تصفية القضية الوطنية بكافة مكوّناتها، ومن مختلف جوانبها على جدول الأعمال المباشر، استناداً إلى تحوّلات سياسية واجتماعية وثقافية شهدها المجتمع الإسرائيلي، وتمثّلت في وصول "اليمين الجديد" في دولة الاحتلال إلى سدّة الحكم، وصعود وتحكُّم الفاشية في تلابيب هذا الحكم، وإحكام غير مسبوق بمقدّرات هذا الحكم.
"الطوفان" ليس ردّة فعل على حدث أو حادثة، وليس ردّاً على سياسة هنا وأخرى هناك، وليس استجابةً لمتطلّب منطقة فلسطينية بحدّ ذاتها، وليس لتلبية احتياجات لهذا الفصيل أو ذاك، وإنّما جاء في سياق فهم عميق لمدى الأخطار التي كانت وما زالت محدقة بالقضية الوطنية، أرضاً وشعباً وهوية ووجوداً ليس فيه مكان لخطأ التقدير، أو سوء القراءة. البرنامج الصهيوني انتقل على رؤوس الأشهاد من مرحلة المراوحة وإدارة الصراع إلى مرحلة الحسم والتصفية.
وإذا كانت الضفة هي مكان الفعل المباشر في إطار هذا المشروع الصهيوني على مستوى التهويد والاستيطان، والاستيلاء على الأرض والثروات، والتحكُّم الكامل بكلّ ما يمتّ لحياة الفلسطينيين بِصلة، وعلى اعتبار أنّ الضفة بالذات هي موضوع الهجمة الصهيونية وهدفها الأوّل والمباشر، فإنّ القطاع وفق نفس هذا المخطّط، وعلى نفس جدول الأعمال كان يجب أن يبقى منفصلاً عن الجسد الوطني، ومسالماً، ويقبل بمعادلة الأمن التام مقابل الخبز المقنّن، تماماً وكجزءٍ من إستراتيجية تحويل الحقوق والأهداف الوطنية إلى احتياجات تحلّ في مكان تلك الحقوق والأهداف.
وقد شرع الاحتلال بخطّة الحسم، وهي معلنة، وبالوثائق، وموثّقة في مؤتمرات صحافية علنية، وأُقرّت من أجل أن يتمّ ضمان وصولها إلى النتائج "المرجوّة" عشرات القوانين، وجرى التصويت على غالبيها الساحقة بما يشبه الإجماع الصهيوني، و"القطاع الهادئ"، الذي يؤمّن لدولة الاحتلال الاستقرار التام في التهام الضفة هو الشرط الصهيوني الأوّل لكي لا يتمّ تدميره مباشرة، وإنّما "إرجاء" هذا التدمير لمرحلة الشروع في "قناة بن غوريون"، ومرحلة تنفيذ "طريق الهند" الذي يقتضي "إنهاءً" كاملاً لمسألة القطاع، وشطبه من الخارطة الجغرافية، لكي يتمّ وضع أكثر من مليوني فلسطيني تحت طائلة الموت والتهجير والتدمير.
فهل قلب الطاولة على هذا المشروع الصهيوني المعلن على رؤوس الأشهاد، والذي بدأت فصوله منذ عدة سنوات، والذي يعلن أنّه سيصفّي حقوقنا، وأهدافنا، وتطلُّعاتنا، ووجودنا كلّه هو "مغامرة" غير محسوبة؟ وكيف تكون المغامرة محسوبة إلّا إذا كانت على هذا القدر من فعل الإرادة والتصدّي؟
التضحيات ليست جديدة على شعبنا، لقد خسرنا 78% من أرضنا في النكبة العام 48، وشُرّد أكثر من نصف شعبنا تحت النار، وبالتطهير العرقي المنظّم، وتمّ إلحاق ما تبقّى من شعبنا بالنظام العربي، وتحوّل الجزء الأكبر منه إلى لاجئين في وطنهم، ومشرّدين في شتات الأرض، وخرجنا من تحت الركام، وفي ظروف مستحيلة للدفاع عن شعبنا وحقوقنا، وتوالت التضحيات، ولم تتوقّف يوماً واحداً، هُجّرنا وقمنا كالعنقاء من بين الرماد، وشُرّدنا فخلقنا بالتضحيات إياها هويتنا الجديدة، ولم يعد لأحد من وصاية علينا، وأعدنا القضية ووضعناها في الصفوف الأولى للتحرُّر الوطني على صعيد العالم كلّه، كقضية تحرُّر وطني عادلة يقف خلفها شعب كامل يحمل رايتها ويُدافع عنها بكلّ ما ملكت أياديه.
أليس هذا هو تاريخ شعبنا منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى اليوم؟
ألم يتم إعدام واغتيال وقتل أجيال كاملة من القيادات الفلسطينية؟
ألم تكن السجون الصهيونية والبريطانية والعربية تعجّ بآلاف مؤلّفة من قيادات هذا الشعب منذ العام 1927 وعلى مدار 100 عام من التضحيات؟
في قضايا التحرُّر الوطني تُدفع أثمان باهظة لأنّ المستعمر هو الأقوى، وهو الإجرامي، وهو الهمجي، وهو القاتل، وهو الذي يبطش، والشعوب تردّ بما لديها من إرادة، وبما تمتلكه من مقوّمات.
والتضحيات غالية كبيرة كانت أو صغيرة، والدمار يدمي القلب، وهمجية الاحتلال فاقت كلّ الحدود والتصوّرات ليس بسبب "خطأ الحسابات" أو تشوّشها، أو بسبب عدم القدرة على قراءة الظروف المحيطة، وإنما بسبب طبيعة وأهداف وأطماع المشروع الصهيوني. وإذا كان لا بدّ من دفع الثمن بقدر كبير وهائل من هذه التضحيات، فالمقياس أوّلاً وأخيراً هو فيما إذا أحدثت هذه التضحيات من تغيّرات أدّت، أو ستؤدّي إلى إحباط المشروع الصهيوني لتصفية القضية الوطنية أم لا، والمقياس لا يمكن أن يكون مطلقاً فيما إذا كانت هذه التضحيات كبيرة أو صغيرة، وليس بوسع أحد أن يتحارص على الآخر قبل ذلك، ومن دون ذلك.
هنا فقط يمكن أن نكون أمام نقاش وطني ومسؤول، وهنا فقط تصبح أداة القياس وطنية، وهكذا فقط، وبهذا فقط، نحكم على فعل المغامرة إن كانت محسوبة أو غير محسوبة، وقد نكتشف أنّ المغامرة الأكبر والأخطر على شعبنا ووطننا وقضيتنا، ووجودنا نفسه، هو في الاستكانة أمام المشروع الصهيوني، أو قد نكتشف أنّ "الطوفان" هو المغامرة الإجبارية التي كان لا بدّ منها لكي نبقى على أرضنا ونتابع مسيرتنا، وننتصر على المشروع الصهيوني وندحر احتلاله لأرضنا.
في المقال القادم، سنحاول معالجة هذه المسألة بالذات، مسألة فيما إذا أحدث "الطوفان" ما سيقلب السحر الطوفاني على الساحر الصهيوني أم لا، لكي نحاول إثبات أنّ الاختلاف في الآراء هنا حول "الموقف" من "الطوفان" ليس مجرّد اختلاف سياسي بسيط، وإنّما اختلاف جوهري وجذري حول فهم أبعاد ومتطلّبات التحرُّر الوطني من عدمه، وحول حرب لم تنتهِ بعد.
   

أضف تعليق