25 كانون الأول 2024 الساعة 10:04

قضايا فلسطينية أمام محكمة العدل الدولية الجزء الرابع: حرب الإبادة الجماعية

2024-09-07 عدد القراءات : 931
أسامة خليفة / باحث في المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف»

 

 

تعتبر إحالة إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية، بتهمة انتهاك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها ضد الفلسطينيين في قطاع غزة خطوة مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية وفي تاريخ دولة الاحتلال، ففي يوم الجمعة «29» كانون الأول/ ديسمبر 2023، رفعت دولة جنوب أفريقيا دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، على خلفية توافر النية لدى إسرائيل لاقتراف هذه الأعمال، وانعقاد عزمها المبيت على ارتكاب الجريمة النكراء.

 

 

تعتمد الدعوى على تصريحات وتعليقات علنية من مسؤولين وجنود إسرائيليين، وأعضاء في الكنيست، وصحفيين، ومنهم النائب عن حزب الليكود نسيم فاتوري، ووزير التراث عميحاي إلياهو، ويسرائيل كاتس وزير الطاقة والبنية التحتية الإسرائيلي السابق، الذي جرى تعيينه وزيراً للخارجية بعد ذلك.

 

 

أرفقت جنوب أفريقيا الدعوى بالعديد من الأدلة والحقائق، وخصصت الدعوى فصلاً كاملاً تحت عنوان «التعبير عن نية الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني من قبل مسؤولي الدولة الإسرائيلية»، جاء في مقدمة الالتماس أن الأدلة على النية المحددة لمسؤولي الدولة الإسرائيلية لارتكاب أعمال الإبادة الجماعية والاستمرار فيها أو الفشل في منعها، كانت كبيرة وعلنية منذ تشرين أول/ أكتوبر 2023، تصريحات النوايا هذه اقترنت بمستوى خارج عن كل الأعراف الإنسانية من القتل والتشريد والتدمير والحصار الذي طال الغذاء والماء والدواء، وما ذلك إلا دليل على التغول في الإبادة الجماعية والإصرار على التمادي في استمرار تنفيذها، وأكّدت جنوب إفريقيا في طلبها أن أفعال إسرائيل تحمل طابع إبادة، لأنها مصحوبة بالنية المحددة المطلوبة لتدمير فلسطينيي غزة، كجزء من المجموعة القومية والعرقية والاثنية الأوسع، وتشمل الأفعال ـــــــ بحسب جنوب إفريقيا ـــــــ قتل الفلسطينيين في غزة، وإلحاق الأذى الجسدي والنفسي بهم، وفرض ظروف معيشية عليهم، من شأنها أن تؤدي إلى تدميرهم جسدياً، وذلك في انتهاك واضح لاتفاقية منع الإبادة الجماعية.

 

 

يومي الخميس والجمعة «11» و«12» كانون الثاني/ يناير، عُقدت جلستا استماع علنيتان في محكمة العدل الدولية، حول دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بخصوص جريمة الإبادة الجماعية في غزة، قدمت جنوب أفريقيا مرافعتها الشفهية يوم الخميس الموافق «11» كانون الثاني/يناير 2024، طلبت خلالها من المحكمة حماية الفلسطينيين من أي ضرر إضافي جسيم، وغير قابل للإصلاح بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، وضمان امتثال إسرائيل لالتزاماتها بموجب الاتفاقية بعدم الانخراط في الإبادة الجماعية، ومنعها والمعاقبة عليها.

 

 

ثلاث وأربعون دولة عربية وإسلامية عضو في اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لسنة 1948، لم تبادر أي منها للتوجه للمحاكم الدولية، وتبادر جنوب أفريقيا بتقديم طلب إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، لإقامة دعوى ضد إسرائيل، مستندة في رفع الدعوى على معاهدة دولية، تتضمن شرط الاختصاص القضائي، وهي اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، التي صادقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة بالإجماع، إذ أن اختصاص محكمة العدل الدولية ذات صفة إلزامية فيما يتعلق بالمعاهدات الدولية.

 

 

أثارت هذه الخطوة إسرائيل كما الولايات المتحدة، وهي المرة الأولى التي تقف فيها إسرائيل مباشرة كدولة مخالفة للقانون الدولي، والدولي الإنساني، أمام أعلى مؤسسة قضائية في العالم، هي واحدة من أهم مؤسسات الأمم المتحدة. بعد ان تجرأت للمرة الأولى دولة كجنوب أفريقيا على اختراق خطوط الحماية التي تفرضها الولايات المتحدة حول إسرائيل، لمنع مساءلتها أمام القانون بما في ذلك توفير الغطاء لجرائمها، ولحروب التدمير ضد الشعب الفلسطيني، باللجوء لاستخدام حق النقض في مجلس الأمن لإجهاض أي مشروع قرار ترى فيه الولايات المتحدة إدانة لسياسات تل أبيب العدوانية.

 

 

وكانت جنوب إفريقيا قد طلبت من المحكمة، إصدار أمر عاجل يعلن أن إسرائيل، في عدوانها على غزة، تنتهك التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948، كما طالبت جنوب إفريقيا المحكمة أن تأمر إسرائيل بوقف عدوانها.

 

 

وكانت جنوب أفريقيا قد دعت الأمم المتحدة في وقت سابق إلى نشر قوة سريعة لحماية المدنيين في غزة، وسط تكثيف العدوان الإسرائيلي على القطاع، الذي أدى لسقوط 8300 شهيد فلسطيني منذ 7 تشرين أول / أكتوبر 2023 حتى «30» تشرين أول/ أكتوبر2023، معظمهم من النساء والأطفال، وأكدت أن أعداد القتلى من غير المقاتلين، خاصة أعداد الأطفال الذين قتلوا، تتطلب من العالم أن يظهر أنه جاد بخصوص المساءلة العالمية.

 

 

امتثال إسرائيل أمام المحكمة لم يكن احتراماً للقانون الدولي، بل اضطرت للمثول للرد على الدعوى التي قدمتها جنوب إفريقيا لمقاضاتها بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية في قطاع غزة، وقدمت إسرائيل مرافعتها الشفهية يوم الجمعة الموافق «12» كانون الثاني/يناير 2024، في مقر المحكمة في لاهاي. وتسعى إسرائيل كدولة احتلال متهمَة بجرائم الإبادة والحرب إلى إثبات عكس ما نُسب اليها أمام محكمة العدل الدولية، لكنها تعجز عن ذلك أمام الحقائق والقرائن الموجودة على أرض الميدان، وغير قادرة على نفي أو طمس حقيقة ارتكابها هذه التهمة الموجهة إليها.

 

 

مارست إسرائيل حملة إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة قبل حادثة السابع من أكتوبر من خلال فرض حصار على القطاع، واستمرار فرض الحصار لسنوات طويلة تسبب بتدهور الأوضاع المعيشية للجماعة العرقية عمداً مما يعتبر عملية إبادة جماعية وفقاً للتعريف القانوني.

 

 

انتظرت إسرائيل هزيمة قانونية في محكمة العدل الدولية، وهي قلقة من هذه المحاكمة المبنية على حجج قوية وموضوعية، وإسرائيل قد وقعت اتفاقية منع جرائم الإبادة الجماعية عام 1948، وأصبحت تخضع لولاية محكمة العدل الدولية، وأحكامها ملزمة في القانون الدولي، لكن لا تملك السلطة لإجبار إسرائيل على تنفيذ الأحكام، وفي حال عدم التنفيذ سيؤثر ذلك على الرأي العام الذي بدأ يتغير في رفض السردية الإسرائيلية، وسيحرج أوروبا والولايات المتحدة، وسيكذب ادعائهما أنهما القوة الرئيسية في العالم لمنع الإبادة الجماعية، قامت إسرائيل بنفي جميع الاتهامات التي وجهتها جنوب أفريقيا لها، وادعت أن لإسرائيل حق الدفاع عن النفس، وحق الرد على ما قامت به حماس من أعمال و«جرائم» ضد الإسرائيليين، خلال عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين أول/ أكتوبر، ولو سلمنا جدلاً بأن لإسرائيل هذا الحق، فإنه لا يبرر ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وفي حالة الدفاع عن النفس، لا يجوز انتهاك قواعد القانون الدولي، ولا يجوز استهداف المدنيين، وأي جرم غير مبرر تحت ذريعة الدفاع عن النفس.

 

 

نجاح جنوب أفريقيا في هذه الدعوى تشكل إدانة لإسرائيل، وتفتح الباب أمام العديد من الدعاوى القضائية التي ستقام من قبل أعضاء في الأمم المتحدة الذين يعارضون الإبادة الجماعية. ويواجه تحرك جنوب إفريقيا تحديات قد تمنع من تحقيق أهدافه، من أبرزها غياب آلية فعلية لتنفيذ الأحكام، وأيضاً اتخاذ بعض الدول الكبرى على رأسها الولايات المتحدة مواقف مساندة لإسرائيل، وسيؤدي تحويل قرار المحكمة إلى مجلس الأمن إلى استخدام حق النقض من قبل الولايات المتحدة.

 

 

سعت جنوب أفريقيا إلى تأسيس اختصاص المحكمة على اتفاقية الأمم المتحدة للإبادة الجماعية لعام 1948، لإصدار تدابير مؤقتة لحماية حقوق الفلسطينيين، إلى أن تصدر حكماً نهائياً، في موضوع الحرب على غزة أشارت المحكمة إلى التدابير المؤقتة. وألزمت الدول الأطراف في النزاع باتخاذ التدابير المؤقتة أو الاحترازية.

 

 

في 24/1/2024، أصدرت محكمة العدل الدولية سلسلة «قرارات احترازية»، تدعو إسرائيل لالتزامها، لضمان عدم انتهاكها لاتفاقية الإبادة الجماعية، بانتظار صدور الحكم النهائي في القضية، وطلبت المحكمة من إسرائيل، أن تقدم لها خلال شهر من تاريخه تقريراً، تعرض فيه مدى تقيّدها بالإجراءات اللازمة في خطوة شكلت انتصاراً سياسياً ومعنوياً لشعبنا الفلسطيني، ولكل الأطراف الدولية التي تسانده وتدعم صموده.

 

 

نَصَّت «القرارات الاحترازية» آنفة الذكر على ما يلي:

 

 

1- اتخاذ إسرائيل الإجراءات لمنع جميع الأفعال، بما فيها القتل والتسبب بضرر بدني، وبالظروف التي تؤثر على الحياة والدمار المادي.

 

 

2- اتخاذ إجراءات لضمان توفير الاحتياجات الإنسانية الملحة للفلسطينيين في غزة.

 

 

3- اتخاذ إجراءات فورية، للتأكد من منع تدمير الأدلة حول ارتكاب إبادة جماعية.

 

 

4- تقدم إسرائيل تقريراً للمحكمة حول كل التدابير خلال شهر واحد من تاريخ إصدار القرار.  (1)

 

 

أثارت هذه القرارات جدلاً سياسياً وفقهياً قانونياً، حول مدى إلزاميتها لإسرائيل، وكيفية تطبيقها، ودوماً على خلفية سياسية، تعكس حقيقة الموقف من قرارات الشرعية الدولية. وفي هذا الإطار أكدت أغلبية أعضاء مجلس الأمن، إلزامية قرارات المحكمة الدولية لإسرائيل ما عدا الولايات المتحدة، وتهربت فرنسا وبريطانيا من تحديد موقف واضح، وإن كانتا قد أكدتا في السياق على ضرورة توفير حل دائم للقضية الفلسطينية من خلال «حل الدولتين».

 

 

وقد رأى محللون في الموضوعات السياسية، في إحالة إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية، سابقة ستكون لها مثيلاتها، منها على سبيل المثال، شكوى نيكاراغوا ضد ألمانيا، المتهمة بالاشتراك بحرب الإبادة الجماعية من خلال تزويد إسرائيل بالسلاح والذخائر، ما أرغم ألمانيا، للوقوف أمام قوس العدالة الدولية والدفاع عن نفسها، ألحق بها وصمة عار، وكشف زيف ادعاءاتها هي الأخرى، بالالتزام بالقانون الدولي واحترام حقوق الإنسان.

 

 

كما أكدوا أن خوض المعارك ضد الاحتلال، وشركائه، وحلفائه، أمام المحافل الدولية، أمر له أهميته القصوى، بالتناغم مع خوض المعارك في الميدان، فإسرائيل، تقف الآن في مواجهة جبهة عالمية تَحَلَّقت حول دعوى جنوب إفريقيا، تكشف حجم العزلة التي تعانيها دولة الاحتلال، وتفتح الآفاق واسعة، لمزيد من التحرك السياسي والدبلوماسي والقضائي، لمنازلة العدو في محافل أخرى، خاصة وأن صمود شعبنا الأسطوري وتضحياته البالغة، وبطولات مقاومته وإبداعاتها، أعادت تقديمه إلى العالم، شعباً ذا كرامة وطنية، ومفخرة وطنية للحضارة الإنسانية، حضارة الدفاع عن الحياة في مواجهة آلة القتل الجماعي، والإبادة المهدَّفة، ومشاريع إغراق العالم بحروب همجية استعمارية فاشية الطابع والهوية. (2)

 

 

 

 

 

 

 

لم تقف الدعوى المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية، أمام حدود تبني دولة جنوب إفريقيا لها وحدها، فقد أعلنت أكثر من 80 دولة في أنحاء العالم (أوروبا + آسيا + إفريقيا + استراليا + الأميركيتين) تبنيها لدعوى دولة جنوب إفريقيا، الأمر الذي شكل ما يمكن وصفه، بمثابة جبهة عالمية بناء على مبادرة بريتوريا، في مواجهة دولة الاحتلال، خاصة بعدما اتخذت المحكمة الدولية قراراها بقبول شكوى ضد إسرائيل، لانطباق المعايير الدولية عليها، ولتوفر المعطيات التي تؤكد أن إسرائيل قد انتهكت اتفاقية الإبادة الجماعية، ما يعني – في الوقت نفسه – انتهاكاً للقانون الدولي، والدولي الإنساني.(3)

 

 

ومع أن إسرائيل استجابت لقرار تقديم تقرير في غضون شهر إلى المحكمة، إلا أنها أخَلَّت بباقي القرارات، وواصلت سياستها التدميرية الشاملة، مستندة إلى الغطاء السياسي والدعم العسكري غير المحدود من الولايات المتحدة، ما دعا المحكمة لأن تصدر في 28/3/2024 أمراً إلزامياً يدعو إسرائيل إلى اتخاذ كافة الإجراءات الضرورية والفاعلة، لضمان تدفق المساعدات الإنسانية، من دون عوائق إلى قطاع غزة، لتجنب المجاعة، في تدخل مباشر من المحكمة، بعد أن أكدت المؤسسات الدولية وفي مقدمها وكالة الغوث (الأونروا) وباقي المؤسسات الإنسانية، وقوف قطاع غزة على حافة المجاعة.

 

 

 

 

 

 

 

ومن جهة أخرى خلص محللون سياسيون إلى أن شكوى جنوب إفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، قد أكدت أهمية الدور الذي تؤديه المؤسسات الدولية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وأعماله العدوانية، كما أكدت أهمية قرارات الشرعية الدولية في المعركة السياسية التي يخوضها شعبنا إلى جانب مقاومته الميدانية، وأشار هؤلاء المحللون إلى ما ألحقته سياسة الانضباط لقيود أوسلو من أضرار بمصالح شعبنا في هذا الميدان، بسبب تلكؤ الرسمية الفلسطينية من دخول المعترك السياسي في المؤسسات الدولية، إن في محكمة العدل الدولية، أو في المحكمة الجنائية الدولية، أو مجلس حقوق الإنسان، أو في تنسيب دولة فلسطين إلى الوكالات المتخصصة للأمم المتحدة، (كوكالة حقوق الملكية الفكرية، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة التنمية الصناعية الدولية، ومنظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية،..)، أو متابعة الجهود بدأب لتوفير الحماية الدولية لشعبنا في الأراضي المحتلة، دون أن تغيب المسألة الأكبر، أي تنفيذ قرارات المجلسين الوطني والمركزي، والرهان على المقاومة بكل أشكالها، بدلاً من الاعتماد على الوعود الفارغة بـ «حل الدولتين»  والتي لا تعدو كونها – في أفضل الحالات – تطبيقاً بائساً لما تبقى من «اتفاق أوسلو» و«صفقة القرن» (4)

 

 

هوامش:

 

 

1- الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، الكتاب 19« وثائق المؤتمر الوطني العام الثامن ــــــــ 2024»، من سلسلة «الفكر السياسي الفلسطيني المعاصر»، ص48 .

 

 

2- المصدر السابق، ص 21

 

 

3- المصدر السابق، ص 48

4- المصدر السابق، ص 49

أضف تعليق