"أنين القصب.. وثيقة روائية في حب فلسطين
من يقرأ رواية "أنين القصب" لحسن حميد ستفاجئه من دون شك تلك البراعة في تحويل السِّيَر الذاتية للأشخاص والأماكن إلى سَرد متقن، وسيتعجَّب من زخم الوصف لدرجة لا يمكن التصديق معها أن الراوي لم يُعاين الأمكنة من كثب، ولم يعش مع شخصيات روايته لسنوات طويلة أو حتى لم يُصادِقها. وفوق ذلك، سيقف القارئ طويلاً أمام استهلال الراوي بأنه "فقط جعل من تلك السِّيَر الذاتية كتاباً، لا فضل له فيه سوى أنه دفعه إلى الضوء، ليكون شهادة لأولئك الذين دافعوا عن مكانهم، وحياتهم، وتاريخهم... دفاع الغابات وقد جفَّت الأنهار، وزالت الظلال، وغابت الطيور، وانطفأت الحياة". لكن تلك الـ"فقط" أنتجت ما يشبه وثيقة روائية عن حياة الفلسطينيين وعواطفهم الجياشة، واستطراد أحلامهم، وعمق مآسيهم، ونهنهات أرواحهم، ومقدار ارتباطهم بأرضهم الذي يقارب شيئاً من الميثيولوجيا المعاصرة تستحق أن تُروى.
يتكئ الروائي حميد على متتاليات حكائية متوالدة من بعضها، تتشابك لتنسج ذاكرة فلسطينية نقية، لا تبنى على التهويل أو التفخيم أو التضخيم، بقدر ما تنقل موروثاً حكائياً بغية جعله كما أبطاله عصيّاً على النسيان، وقابلاً لمقاومة الزمن، خاصةً من خلال عنايته بجعل الخيال حليفاً لصدقية السرد، ما يحيلنا إلى تسجيلية عالية تركِّز على التوأمة بين العُشَّاق الفلسطينيين وعُشَّاق فلسطين، وتُظهر جمالية الحياة على تلك الأرض المُقدَّسة، ليس بمعالمها الدينية، وإنما ببساطة إنسانها وعفويته وفرادته وتماهيه مع خصوبة المواسم وبداهة الطبيعة الغَنَّاء، لذا ترى الرواية تغرف من العواطف الصادقة وتؤسطرها، لتكون هي مربط الفرس في الحديث عن الشخصية الفلسطينية وحيويتها وقدرتها على مغالبة الزمن وتحدِّي الظلم والقهر والموت، خاصةً في مواجهة الصهيوني الذي وصفه الدكتور فيصل دراج في مقدمته للرواية بأن له دلالة مزدوجة ضمن "أنين القصب"، الأولى باعتباره نقيضاً لثلاثية الفلسطيني القائمة على العشق والمقدس والموت، بحيث يأتي إعلاناً عن الكراهية والدنس والقتل، أما الدلالة الثانية فهي أن رواية حميد تشير إليه باعتباره عدواً للحكاية الفلسطينية، يؤرقها ويهاجمها ويجبرها على الرحيل".
تبدأ الرواية بوصف مُبهِر لسوق الخالصة الذي يزوره "غطاس" وكيل الدير الجديد أول مرة بغية الحصول على الزيت من رجل اسمه "القاسمي" وعلى الجوز والزبيب من امرأة اسمها "فرحة"، لنتماهى مع "غطاس" في دهشته وتيهه ضمن دكاكين السوق وزواريبه وساحاته وأشجاره وناسه، خاصةً مع متابعته طقوس الحنّاء، وغسل جزّات الصوف، ووشوم الصبايا باعتبارها "رصداً ضد الميلان والعطب والغياب"، ورَقّ العجين وخَبْزِ مناقيش الزعتر والقريش والسبانخ لتصبح ما يسمى "خبز المزار"، وساحة صراع الديكة، وخصاء العجول، وتلقيح البقر، ليكون سوق الخالصة أشبه بمكان للخرافة والسحر، كما وصفه غطاس الذي جاء إلى الدير المُطل على قرية "الشماصنة" بديلاً من الوكيل "حنا" الذي فرَّ من هناك مخافة أن يقع في الغواية بعد اكتشافه أن الرهبان ما هن إلا راهبات.
غطاس لم يعرف عن نَسَبِه شيئاً، سوى أنه ابن الدير وتربى على أن ينادي جميع الراهبات بـ"أمي"، لكن وراء ترك أمه الحقيقية "ربيحة" تراجيديا مؤلمة، فبعد زيارة إلى بيت خالتها في قرية "العفيلة" لتساعدها في مرضها، وأثناء عودة أهلها إلى قريتهم "المرج" انزلقت بهم العربة إلى وادي الموت ولقوا مصرعهم جميعاً، لتبقى ربيحة عند خالتها وتتعرف هناك إلى "رشيدة" فتصبح صديقتها المقربة، وأيضاً إلى "دعموش" الذي فُتِنَ بها حد الجنون، وفي ليلة وداعها له قبل ذهابه إلى المناجم للعمل، صارا غيمةً واحدة فأنجبت بعد حين "غطاس"، وبعد ليالٍ من الوحشة والألم والقهر، سافرت إلى "دعموش" وأخبرته بابنهما ومعاناتها المديدة لفراقهما بعد وفاة أهلها، ليقرر أن يعود إليها بعد الانتهاء من ارتباطاته، لكن الموت منعه من ذلك، ولشدة حزن ربيحة تدخل في غيبوبة الألم التي استمرت طويلاً، رغم عناية رشيدة بها، وتنتهي تلك الغيبوبة بالغياب الأبدي.
حكاية أخرى عن الراهب عطايا وتجارب الدير وتردُّده بين الحياة العادية والرهبنة، بين انجذابه للراهبة هيلانة ووعودها له، ثم خيبته بعد أن عثرت على حبيبها السابق "رباح"، ليعود مخذولاً إلى رهبنته، وليصبح من أشرس المدافعين عن الحب، ونصيراً للعُشَّاق المحزونين، وخاصةً في ما يتعلق بقصة شتيوي ودندي الجنونية التي باتت حديث كل من في الشماصنة ناساً ورهباناً، بتفاصيلها اللامعقولة، فهو يلاحقها كظلها، ودفعه الوله العذري أن يُراقبها أينما ذهبت، وأن ينام على سطح بيت أبيها "سمعان" القاسي، ويتحمل عقابات مديدة منه ضرباً وإهانة بلغت أقصاها عندما ربطه برفقة بغل الفلاحة أمام مرأى جميع من في القرية. ومع ذلك، لم تنقص محبته، ولا إصراره ووفاؤه، لدرجة أنه اشتغل مدة عام كامل في بنت جبيل اللبنانية من أجل أن يوفر مالاً لشراء أساور فضة وعد بها معشوقته دندي، وبعد كثير من الصد والرد مع سمعان الذي ظل رافضاً لعلاقتهما، وإثر تدخل الراهب عطايا والشيخ المصباحي ومحاولة إقناعه بأنه بذلك يظلم ابنته وشتيوي معاً، لَانَ أخيراً، لكنه وضع شرطاً إعجازياً لزواجهما، وهو أن يقدم العاشق مهراً بمقدار خابية كبيرة مملوءة ذهباً، ليتغرَّب شتيوي مرة أخرى ويعمل في كثير من الأعمال في لبنان ويتعرض للسرقة، ومنه ينتقل إلى أميركا برفقة فتيحة وكل ذلك بغية تأمين مهر عروسه، لكن طول الزمن وقسوة سمعان الذي أراد الزواج بعد وفاة أم دندي، جعله يُزوِّج ابنته من أخ زوجته الجديدة "ذيب الأيوب" الذي بات يضربها بشكل شبه يومي، ويشوّه جسدها بحديد ملتهب لتتطلق منه بعد أن أنجبت منه ابنتها زانة.
يعود شتيوي بعد زمن طويل محمّلاً بالذهب وهو ما زال على وعده ومحبته، ليجد والديه قد وافتهما المنية، ويعرف بما حل بحبيبته، ليتزوج بها بعدما اعترف سمعان بذنبه تجاه العاشقين وظلمه لهما، ويرفض أخذ المهر الذي اشترى به شتيوي أراضي شاسعة جعل منها جنات وارفة، وأنجبت له دندي أربعة أولاد، لكن دروب الحزن لم تتركهم لفرحهم، إذ باتت عصابات اليهود والإنكليز تنغص معيشتهم، وتعيث فساداً في كل ما تطاله أيديها، تفجيرات في سوق الخالصة، وتدمير المنازل والطواحين والمَعَاصر، وحرق المواسم والبيوت، وسعي دائم لتهجير الفلسطينيين، الذين بات كثيرٌ منهم ثواراً في الدفاع عن حقوقهم وأراضيهم وإنسانيتهم، وفي مجابهة الادعاءات اليهودية بأن كتابهم المقدس يقول بضرورة خروج أهل فلسطين من أرضهم التي ستصير لليهود الذين هم ورثتها، وخصّهم الله بها، ومن أن عودة السيد المسيح رهينة اجتماعهم كيهود في أرضنا، وأن سيطرتهم على العالم رهينة تحقق علامات منها احتلالهم القدس.
شتيوي رفض مغادرة الشماصنة بدايةً لكنه اضطر، ومع ذلك بقي في قرية نعران في الجولان، والمطلة على جسر بنات يعقوب وعلى بيته وأرضه، في حين أرسل زوجته وأولاده وأحفاده إلى سوريا ليستقروا في ببيلا، يقول الروائي الفلسطيني حسن حميد: "حاولوا أن يدفعوه إلى الخروج من القرية فرفض. قال لهم شارحاً إنه في بيته، ومع حيواناته ولا يريد الخروج. فأفهموه أنه سيموت هنا جوعاً، وبرداً، وغربةً.. ستأكله الوحوش في الليل، فهو وحيد في القرية، فيجيبهم أن هذا ليس مهماً، المهم أن يموت فوق الأرض التي عاش فيها، فوق الأرض التي عرفته وعرفها، وأنه لن يصدق خرافة الخروج والرجوع مرة أخرى. إذ بات مقتنعاً وقد بلغ خريف العمر، أن من حقه أن يصدق قلبه، أن يتبعه، أن يظل فوق أرضه، وأن يموت عليها، وأن يدفن فيها.
في ذلك الوقت، انضم كعدي إلى صفوف الثوار وبات يزور والده ويحاول إقناعه بمرافقته إلى سوريا، لكن من دون جدوى، وفعلاً لم يخرج شتيوي من أرضه إلا بعد أن قتله اليهود، وبعد بحث طويل من كعدي عثر على جثته قرب النهر، فلملم عظامه وحملها إلى ببيلا ودفنها بالقرب من رفاة والدته ليجتمع العاشقان مرة أخرى، على أمل أن يحقق الأحفاد وصية جدهم بأن يُدفن في الشماصنة، يقول حميد في ختام الرواية: منذ ذلك الحين، وأولاد كعدي يحسّون بأن أجراساً تطوِّق أعناقهم، تقرع في آذانهم دوماً، تقول لهم: متى سيكسرون بلاطات القبر، ليعودوا بالعظام إلى الشماصنة.
أضف تعليق