25 كانون الأول 2024 الساعة 22:36

مُنتهى القوة.. مُنتهى الضعف!

2024-08-12 عدد القراءات : 678
محمد هلسة

الطغيان ظاهرة بشرية أشار إليها القرآن الكريم بقول الله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}، فعندما لا يُسيّر الإنسان دِينٌ أو عقلٌ أو قانون، فإنه ينساق لشهوة القوة، ويطغى إن رأى أن نفسه استغنت بالجاه أو بالقوة، وكذا حال الأنظمة الحاكمة والدول، وفق ما يقول الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد": "إن الحكومة المُستبدة تملك بنفوذها إبطال قوة قيود القانون بما تهوى".  

والطغيان هو التعاظم والكِبر ومجاوزة الحد الذي يسببه الاستغناء بالقوة بأنواعها، فتطغى الدولة وتتكبر وتستعلي. والإفراط في القوة والاستغناء مُهلك للقيم والأخلاق، ويجيز لصاحبه أن يفعل كل موبقة من دون وخز ضمير أو رادع، وهو بالضبط ما فعلته وتفعله "إسرائيل" منذ احتلالها فلسطين، بسبب وقوعها تحت وهم القوة المتفوقة المُحققة لها شعوراً بالعتو والطغيان، فمن طُغيان العصابات إلى طغيان "الدولة". 

وسبب طغيان "إسرائيل" واستعلائها لا ينبع فقط من استبطان الشعور بالقوة المُفرطة، بل ثمة أسباب أخرى تدفعها إلى إشاحة الوجه والإعراض، منها سكوت العالم على استبدادها وخضوعهم اللامتناهي لسلطتها، وربما يفسر هذا موقفها الحاد القاسي تجاه كل من ينتقدها أو يعارض سرديتها، حتى لو كان من أشد حلفائها، لأنها ببساطة لم تعتد منذ نشأتها أن تسمع نقداً أو تتعرّض لمساءلة. 

ولأن الفلسطيني في غزة، كما أي عربي حر، على قلة إمكاناته يُعلن رفضه الخضوع لطغيان "إسرائيل" وغطرستها ورفضه حياة الذل والهوان والاستعباد، ويناطح كفه مخرزها، ويقاوم بيديه العُزّل سيفها الحديدي، فيثلمه ويكسر شوكة قوتها المُدعاة وغطرستها، تصبّ "إسرائيل" حمم نارها عليه، فتحرق أطفاله أحياء وتمزق أشلاءهم؛ ففي عالمٍ يُقاس فيه الحق بسلطة القوة لا بقوة الحقيقة، يصبح رفض الطغيان رحلة محفوفة بالقتل والمجازر.

ولأن طغيان "إسرائيل" لا ينبع فقط من فائض قوتها وسكوت العالم عليها، بل يساهم فائض ضعف خصومها العرب، "الرسميون" منهم على وجه الخصوص، في خلق سياق إقليمي ودولي يتقبّل هذه الجرائم والمجازر والانتهاكات الإسرائيلية الصارخة التي لا تقيم وزناً لأحد، سواء في العالم العربي أو الإسلامي أو الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة ومؤسساتها وشرائعها، فقد استقر لدى قادة "إسرائيل"، وفي مقدمتهم رئيس وزرائها نتنياهو، أنه جرى تحييد العرب في هذا الصراع، فالمجازر التي ظلت "إسرائيل" ترتكبها على امتداد عشرة أشهر من هذه الحرب التدميرية تُقدم دليلاً عملياً لا لبس فيه على تحييد الدول العربية من التعاطي مع المجازر الإسرائيلية التي قتلت وأصابت حتى اللحظة قرابة مئة ألف فلسطيني أو يزيد، ودمرت كل سبل الحياة في القطاع.

وسياسة التحييد للعرب انتهت بهم إلى التخلي التام عن فلسطين، فلا استجابة لنداء مُستغيث مذبوح ولا طعام لجائع؛ إنه التخلي في أبشع صوره. هذا المزاج العربي المُتخلي بالتطبيع أو بالعجر أو بالخوف أو ما يمكن تسميته بـ"اللامبالاة المُقعِدة" هو ما خلق اللحظة المواتية لـ"إسرائيل" لإبادة الشعب الفلسطيني في غزة من دون أن ينبس العرب ببنت شفة حتى لو على سبيل الشجب الذي يحفظ ماء الوجه!

أما عن غياب سلطة القانون والمحاسبة والمساءلة الدوليين فحدّث ولا حرج، إذ تستمر "إسرائيل" في التعامل مع القانون الدولي بازدراء وتحقير، بل وتصف المنابر الدولية التي تجرؤ على انتقادها أو التلويح بمساءلتها، بالإرهابية أو اللاسامية، وهي تعلم يقيناً أن سحر الهز بهذه العصا سبق أن أثبت قدرته على إسكات كل صوت منتقد، بل وملاحتقه والتضييق عليه وخنقه. 

ومع تسليمنا بأنَّ "إسرائيل" استهانت بالعرب والمسلمين، ولم تعد تقيم لهم وزناً، كيف نفسّر تحديها للمجتمع الدولي واستهانتها بمؤسساته! ولماذا يشيح العالم بوجهه وبصره وسمعه عن رؤية الجريمة الإسرائيلية مكتملة الأركان! الإجابة ببساطة تتجلّى في الحماية الأميركية المُطلقة المزدرية للعالم ومؤسساته؛ إنه الدعم الأميركي اللامتناهي في موازاة الغياب العربي اللامتناهي.

ورغم أنَّ المنظومة الدولية تعجّ بقوانين تمنع الطغيان كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة بوصفه المثل الأعلى المشترك الذي ينبغي أن تبلغه كل الشعوب وكل الأمم، والذي حدد حقوق الإنسان وحرياته الأساسية التي ينبغي أن يتمتع بها جميع الناس في كل أنحاء العالم بلا تمييز؛ كحق الحياة وحق الحرية والمساواة والكرامة لجميع الناس وعدم الخضوع للتعذيب والمعاملة القاسية أو الحاطة بالكرامة.. ومع ذلك حينما نُبصر ونسمع ما يجرى حولنا من مجازر إسرائيلية يومية، نتساءل: أين شرعة حقوق الإنسان من الدماء التي تسيل منذ سنين تحت سمع وبصر القانون الدولي ورعاته وحماته! ومن يوقف هذا الطغيان؟

تدرك "إسرائيل" الدولة الاستعمارية الغاصبة أن شرعيتها مَحل نزاع، وهي تعيش قلق وجودياً حقيقياً، ويُدركُ قادتُها، بشكلٍ بديهي، أنها ستستمر "كدولة" لفترة طويلة فقط إذا كان بالإمكان الدفاع عنها بالمعنى المادي فقط، فلا شرعية تاريخية ولا شرعية دينية تتكئ عليها وهي نفسها تدرك أنها خزعبلات وأساطير لا قيمة لها.

ولمجابهة التهديد لهيمنتها الوجودية في المنطقة، تَبني "إسرائيل" منظورها الحصري للبقاء على شرعية "القدرة على الغلبة" لكل القوى والأنظمة في المنطقة، أي أن تكون قوة "إسرائيل" مُعادِلة لقوة كل من هم في المنطقة أو تفوقها، لأنها تؤمن أنه يمكن للكيانات السياسية المشكُوك في حقها في الوجود أن تكون قادرة على الاستمرار والاستدامة من خلال استخدام القوة المادية فقط. 

لذلك، فإن مسألة استخدام القوة التدميرية المفرطة بالقتل بالنسبة إلى "إسرائيل" ليست مُجرد مسألة نقاشٍ فكري نظري، بل الأمر متعلقٌ بشكلٍ مباشر في فُرصها في البقاء، لأنه سيكون من المستحيل حمايتها إذا اعتقد العرب وخصومها أنهم قادرون على هزيمتها.

لذلك، يتباهى نتنياهو بقوة "إسرائيل" ويدها الطويلة القادرة على أن تضرب حيث شاءت ومن شاءت ليشيع الطمأنية في مجتمعه عبر دم الفلسطينيين المستباح أصلاً على مدى سبعة عقود، أكثرها دموية هي سنوات حكمه، لكن يبدو أن سنوات نتنياهو ستُعجّلُ اختبار قوة "إسرائيل" التي تروّج أن "لا قاهر لها" في المنطقة، فلم يعد خطاب القوة الإسرائيلي، على تماسكه وعلو نبرته، يخيف أحداً، فقد فاجأت "إسرائيل" محيطها والعالم أجمع بصُراخها وهي تستنجد بالولايات المتحدة والدول المتحالفة معها في الإقليم وخارجه لحمايتها من رد قادم من إيران وحزب الله وبقية القوى المتحالفة معهما.

والواضح أنَّ السّلوك العدواني الإسرائيلي يهدد بجر المنطقة كلها إلى مغامرة وجودية شديدة الخطورة، فَيَدُ التاريخ في الحروب تمحو دولاً وتُنشئ أخرى، وليست "إسرائيل" استثناءً في التاريخ، فذروة القوة المفرطة هي ذروة الهزيمة المفرطة وفق ما تخبرنا سنن التاريخ ونواميسه.

أضف تعليق