ماذا بعد تفويت السلطة الفلسطينية؟! (1)
وصل «إتفاق أوسلو» لمراحله الأخيرة، وحققت من خلاله إسرائيل القسم الأكبر من مشروعها التصفوي للقضية الفلسطينية. فقد نجحت في جر القيادة الرسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية، من مربع كونها قيادة لحركة التحرر الفلسطينية، في إطار مشروع وطني أقره المجلس الوطني في 10/11/1988، إلى مربع سلطة فلسطينية، محاصرة بسلسلة من القيود والإستحقاقات والإلتزامات، فرضت عليها، مسؤولياتها، ومصالحها السلطوية أن تبتعد شيئاً فشيئاً عن إلتزامات المشروع الوطني، لمراعاة مصالحها السلطوية، بما في ذلك الإنخراط في رحلة تيه سياسي في مفاوضات عبثية، وفرت الوقت والغطاء الضروريين لدولة الاحتلال، لبناء تراكمات شبه يومية، سياسية وقانونية وميدانية، وصولاً إلى تولي وزير المال، الوزير المقيم في وزارة الدفاع، ورئيس كتلة الصهيونية الدينية، ملف الاستيطان، في حكومة فاشية أعلنت منذ الأيام الأولى لتوليها السلطة، نهاية العام 2022، أن برنامجها يقوم على ضم الضفة الغربية، استكمال تهويد القدس، وفرض التقاسم الزماني والمكاني على الأقصى المبارك (بانتظار تطورات قد تطال، جذرياً، واقعه الحالي ووضعه القانوني)، رفعت في السياق، شعاراً لحكومتها: أرض (فلسطين) هي ملك للشعب اليهودي حصراً.
وترجم سموتريتش، وزير المال، وزير الاستيطان، هذا الشعار، بخطوات ثلاثية الأضلاع: سلطة فلسطينية للحكم الإداري الذاتي، تابعة لدولة الاحتلال، وملحقة بها سياسياً وأمنياً واقتصادياً؛ خطة تهجير كبرى لسكان الضفة، عبر إجراءات من شأنها أن تشجع الفلسطيني على الرحيل عن أرضه؛ خطة أمنية لمعارضي هذه الخطة، تخيرهم بين السجن والموت.
وعلى هدى هذه الخطة بأضلعها الثلاثة، باشر سموتريتش تنفيذ مشروعه، فأعلن ضم المنطقة «ب» إلى المنطقة «ج» (82% من مساحة الضفة)، باعتبارها منطقة واحدة، تخضع للقانون الإسرائيلي، بعد أن نزع ولاية السلطة الفلسطينية عن المنطقة «ب»، تطبيق القانون الإسرائيلي على المستوطنات، بحيث يكون حكمها أمام القانون الإسرائيلي، كحكم مدينة تل أبيب (أي الضم)، ونزع سلطات الجيش عنها لصالح سلطات الشرطة، كباقي مدن إسرائيل؛ فرض الحكم العسكري على المنطقة «أ»، المنطقة التي تدير شؤونها السلطة الفلسطينية، ونزع صلاحيات عدد من الوزارات، بما في ذلك حقها في منح رخص البناء، وحصرها بالإدارة المدنية لدولة الاحتلال، وإزاحة وزارة الشؤون المدنية جانباً، لصالح العلاقة المباشرة بين أصحاب المصالح من الفلسطينيين في الضفة مع الإدارة المدنية (السجلات المدنية + رخص البناء + رخص الاستيراد والتصدير، وغيرها من المعاملات التجارية والمالية ...)، فرض الحصار المالي على السلطة ومصادرة مبالغ ضخمة من أموال المقاصة التابعة للسلطة، تحت ذرائع مختلفة، تعويضات مالية للعائلات الإسرائيلية المتضررة من الأعمال العسكرية الفلسطينية، أو حجز ما قيمته حصة القطاع من موازنة السلطة، وكذلك الأمر مع المبلغ المخصص لعوائل الشهداء والأسرى، وفرض حجوزات ضخمة على أموال السلطة بدواعي عدة، وهي كلها مبالغ تصل في مجموعها إلى أكثر من مليار دولار، تستقطع من موازنة لا تتجاوز في مجملها 4,5 مليار دولار أو ما يساوي ربع الموازنة، دون احتساب نسبة العجز المالي المتراكم سنوياً، وهو الأمر الذي حال دون أن تسدد السلطة رواتب الموظفين (إلا بنسب قليلة)، وكذلك دون أن تسدد ديونها المحلية إلى المصارف الفلسطينية، وهو ما أدى فيما أدى إليه، إلى إغراق الضفة في أزمة اقتصادية، ومعيشية، مع ركود اقتصادي خطير، خاصة وأن رواتب الموظفين، كما هو معروف، هي المحرك الرئيس للسوق في الضفة الغربية، ومن نتائج ذلك أن أرصدة المصارف المحلية، تراكمت، في ظل حالة الركود، ما ألحق بالقطاع المصرفي المحلي، خسائر فادحة، ستفرض عليه أن يعيد النظر بعدد الموظفين والمحاسبين، ما يضيف إلى اليد العاطلة عن العمل، آلافاً تضاف إلى حوالي 250 ألف عامل فقدوا أعمالهم في إسرائيل منذ 7 أكتوبر الماضي.
أما على الصعيد الأمني، فلم تتوقف الأعمال الكارثية الإسرائيلية على الضفة الغربية، ضد المدن والمخيمات، فتصاعدت بشكل يومي أرقام الشهداء، والمعتقلين، وأعمال تدمير عشرات المنازل في أنحاء الضفة الغربية، وتهجير سكانها، وتدمير البنية التحتية لأكثر من مدينة ومخيم، وإفقار الحياة اليومية، وحرمانها من المستلزمات اليومية للعيش الآمن، اجتماعياً وصحياً، فضلاً عن إغراق الضفة بمئات الحواجز العسكرية، والسواتر الترابية، ومصادرة الأراضي الواسعة وضمها للمستوطنات، والتخطيط لبناء حوالي 70 بؤرة استيطانية، ومنح «الشرعية الفاشية» القانونية لأكثر من 25 بؤرة استيطانية، وإعلان المساحات الواسعة من الأراضي، أراضي دولة، وسلبها من أصحابها أو من بلدياتها، فضلاً عن تدمير الثروة المائية، ومصادرتها لصالح المستوطنات الزراعية والصناعية، والرعوية، والسطو على الآلات الزراعية، كالشاحنات والجرارات، وعلى الثروة الحيوانية، وبشكل خاص الأغنام، وتدمير مزارع الدواجن، لإخراجها من سوق المنافسة للدواجن الإسرائيلية، ووفر الكنيست الإسرائيلي لكل هذه الإجراءات الغطاء السياسي في قرار واضح، أعلن فيه رفضه الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ورفض قيام أية دولة ثانية إلى جانب إسرائيل، بين البحر والنهر، وهكذا نكون قد بتنا أمام سلطة محاصرة سياسياً وجغرافياً واقتصادياً، عاجزة عن تقديم الخدمات اللازمة لشعبها، تقف متفرجة أمام الأعمال العدائية ضد المدن والمخيمات، أقصى ما يمكن أن ترد به على الخطط والسياسات الإسرائيلية، مجرد بيانات خاوية من أي مضمون سياسي عملي سوى الاستنجاد بالمجتمع الدولي، الذي يقف عاجزاً هو الآخر، أمام حواجز الفيتو الأميركي في مجلس الأمن.
أما في السياسة، فما زالت السلطة تراهن على دور الوزارية السداسية العربية، في إنقاذها من ورطتها (وقد تحولت في عمان، في اللقاء مع وزير الخارجية الأميركي بلينكن، إلى وزارية خماسية، بعدما فصل ممثل السلطة فيها، ومنع من حضور اجتماعها مع بلينكن).
جاءت خطوة الاستبعاد هذه، من عضوية الوزارية السداسية في سياق الضغط الأميركي على السلطة الفلسطينية من أجل ما تسميه الولايات المتحدة «تجديد نفسها»، والعمل على تأهيلها لتكون جاهزة للاندماج في المشروع الأميركي – الإسرائيلي، لمستقبل قطاع غزة والضفة الغربية، والانسياق مع التحضيرات الأميركية لإعادة رسم خارطة المنطقة، بتوسيع التحالف السياسي، والأمني، والعسكري، العربي – الإسرائيلي، من بوابة تعميم «التطبيع» الإسرائيلي – السعودي، وبحيث تكون الأحوال العربية، الإقليمية، وفي القلب منها الحالة الفلسطينية، مؤهلة لإقامة «دولة» فلسطينية، ترسم سقفها وحدود سيادتها، وصلاحيات إدارتها دولة الاحتلال الإسرائيلي، وبحيث لا يتجاوز سقف «الدولة» الفلسطينية المزعومة، الحكم الإداري الذاتي للعمل على بقعة من أرض الضفة الغربية، لا تتجاوز 18% من مساحة الضفة (هي المدن والبلدات ومراكز الكثافة السكانية بشكل خاص)، وفي ظل إدارة مدنية، أكثر طواعية، في قطاع غزة، تكفل للولايات المتحدة وإسرائيل، محو التاريخ النضالي للشعب الفلسطيني، من أذهان الناشئة، ومؤسسات الإعلام والثقافة، عموماً، في قطاع غزة.
ولا شك في أن الشروط العشرة، التي سلمها مستشار مجلس الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان، للوفد الفلسطيني الذي التقاه في رام الله، تفضح حقيقة الرؤية الأميركية، ليس لمستقبل السلطة الفلسطينية فقط، بل وكذلك لمستقبل «حل الدولتين» الذي يتم إفراغه من مضمونه، عبر خطوات الضم الإسرائيلي، وتوسيعه، وعبر الانزياح الأميركي أكثر فأكثر نحو شروط دولة الاحتلال، لقيام «حل دائم يكفل أمن إسرائيل ومصالحها».
كذلك ورد ما يشبه هذه الشروط في رؤية نتنياهو لمستقبل قطاع غزة، بحيث لا تحكم لا حركة فتح، ولا حركة حماس، بل إدارة مدنية، يختار عناصرها الرئيسية الاحتلال بنفسه، ويرسم لها خطط إدارتها المدنية للقطاع، بحيث تبقى المرجعية الأمنية، بيد الاحتلال نفسه.
وهكذا، نجد أنفسنا أمام سلطة تتقلص صلاحياتها، بلا موارد مالية منتظمة، ذات اقتصاد مهترئ، وموازنة مالية يزيد العجز المالي فيها عن 25%، ترفع شعار «سلطة واحدة، قانون واحد، سلاح واحد»، في وجه الحركة الشعبية، والمقاومات المسلحة في أنحاء الضفة الغربية، تواصل أشكال التنسيق الأمني مع قوات الاحتلال، باعتراف القيادة السياسية للسلطة، التي أعلنت أكثر من مرة إلتزامها أمن إسرائيل وإدانتها لأعمال المقاومة المسلحة ضد الاحتلال والمستوطنين، لا ترى في ما يجري في قطاع غزة، سوى عملاً مشبوهاً، ورطت فيه المقاومة (وبشكل خاص حركة حماس) الحالة الفلسطينية في حرب تدميرية، وشجعت لهذا الغرض جوقة من المريدين لشيطنة المقاومة في القطاع، واتهام المقاومة في الضفة، بأنها تجر الضفة إلى وضع تدميري كما هو الحال في قطاع غزة، مبرئة العدو والاحتلال الإسرائيلي من مسؤولياته السياسية والقانونية والأمنية، عن الخراب الذي أصاب مصالح الشعب الفلسطيني منذ أكثر من 30 سنة، تحت سقف أوسلو، مصرة على الانحناء أمام ما يجري، متعامية بل عاجزة عن التعامل الإيجابي مع الحدث، خاصة ما يعيشه الاحتلال الإسرائيلي من حالة استنزاف أمني واقتصادي وسياسي واجتماعي، بحيث بات يشكل حالة غير مستقرة، لا تستطيع العيش لحظة واحدة دون ضمانات، أميركية عميقة، في الميدان السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي، وبحيث بات اعتراف إسرائيل جلياً بأنها لم تعد تستطيع، ليس فقط الدفاع عن نفسها، بل وكذلك العيش بدون الدعم المالي الدائم من الولايات المتحدة بعشرات مليارات الدولارات نقداً.
عربة السلطة الفلسطينية عالقة في رمال الاحتلال ومشاريعه وإجراءاته، عجلاتها لا تدور، ومحركها أغرقته الرمال، وخزان وقودها شبه فارغ، وبدأ هيكلها يصدأ تحت وطأة الحصار المالي والاقتصادي والسياسي والأمني الإسرائيلي، لا أمل في وصول عربة الإنقاذ الأميركية، وهي ما زالت وجهتها عواصم التطبيع العربي – الإسرائيلي.
ماذا يمكن لهذه السلطة أن تقدم سوى الاستجداء و«مطالبة» الولايات المتحدة بالضغط على إسرائيل لتكف عن سياستها (؟) وماذا بإمكانها أن تقدم سوى الرهانات الفاشلة وسوى التهرب من المواجهات، والتلطي خلف شعارات ثبت فشلها، كالحديث المبتذل عن «المقاومة السلمية» (؟).
لكن الأكثر أهمية من هذا، هو التالي:
إذا كان هذا هو المصير الذي آلت إليه أحوال السلطة الفلسطينية، فما هو حال م. ت. ف، وما هو مستقبلها السياسي ؟! ... ■
يتبع
أضف تعليق