26 كانون الأول 2024 الساعة 23:00

الموت بالنزوح المتكرر في غزة..

2024-07-06 عدد القراءات : 411
سما حسن :
 
 
 

وكأنه قد كتب عليهم عدم الاستقرار، فلم يكن النزوح إلى رفح هو النزوح قبل الأخير ولم يكن النزوح منها هو النزوح الأخير، أما بالنسبة لأهل شمال غزة ومدينتها وأحيائها القديمة فالنزوح اصبح مكتوبا عليهم ومقررا عليهم وأمام قلة حيلتهم هم لا يعرفون أن ما يحدث لهم يندرج تحت مسمى «الخطة الثالثة» أو «المرحلة (ج) من الحرب» التي تشمل العمليات المركزة وفي الوقت نفسه فهي تشمل الترحيل والنزوح للناس لدرجة انهاكهم، وهم بالفعل ومن الأساس منهكون.

 

 

فمع اجتياح رفح البري، قرر الآلاف من النازحين العودة إلى بيوتهم في شرق خان يونس شاملة العديد من القرى الصغيرة، وأحياء أخرى تبقى فيها بعض البيوت التي لم تقصف مع الكثير من البيوت التي قصفت بشكل جزئي، فآثر أصحابها أن يعودوا لها والعيش بين الأنقاض لأنها في المقام الأول والأخير بيوتهم وهي خير لهم من وجهة نظرهم من العيش في الخيام أو السكن في بيوت الآخرين كضيوف مثلا يتحولون إلى ضيوف ثقال بسبب سوء الظروف وطول المدة.
مع عودة الآلاف من سكان شرق خان يونس، حاولوا تحسين ظروف بيوتهم وقام الشباب والرجال بتنظيف الشوارع ما استطاعوا وأزاحوا الأنقاض لفتح الطرق وتسهيل حركة الناس والعربات مع قلة السيارات بالطبع لعدم توفر الوقود، وحاولوا إصلاح ما استطاعوا من البيوت من الداخل واغلقوا المداخل كيفما اتفق خاصة أن الجو حار وليسوا بحاجة للأبواب والنوافذ إلا لبعض الخصوصية فأغلقوها بقطع القماش وبعض النايلون وقطع الكرتون.
وحاولوا أيضا استغلال مساحات صغيرة من الأرض حول بيوتهم فزرعوها ببعض الأعشاب وبعض الخضار التي تنبت سريعا مثل الملوخية والجرجير والنعنع وغيرها ومما قد يصلح للاستخدام اليومي كطعام مع شحه وارتفاع أسعاره.
ورغم ذلك، فقد ظل الخطر قائما وفي الأساس فلم يعلن جيش العدو عن مناطق شرق خان يونس كمناطق يمكن العودة إليها ولكن السكان عادوا بقرارات فردية وكانت النتيجة انهم اضطروا للنزوح من الجديد وعلى وجه السرعة حاملين اقل المتاع وسيرا على أقدامهم لعدم توفر المال لديهم للتنقل على عربات تجرها الحمير والأحصنة، أما السيارات والشاحنات فعلى قلتها تعتبر ترفا وحلما بعيد المنال بالنسبة للفقراء والمعوزين والعائلات التي تحولت إلى خانة الفقر بسبب الحرب وبعد أن فقدوا مصدر رزقهم وقد كانوا قبلها من المستورين أو حتى من ميسوري الحال.
ليس هناك اشد عذابا من النزوح المفاجئ الذي يضطرك لترك أغلبية متاعك ويدفعك للخروج في حلكة الليل وفي ظروف قاهرة ولا يدع لك الوقت لكي تحمل كل ما تريده لكي لا تضطر لشراء بديل عنه هذا لو توفر، بل إن النزوح المفاجئ لا يعطيك فرصة لكي تفكر بمرحلتك القادمة أو محطتك القادمة فتهيم على وجهك مع عائلتك على غير هدى وبلا هدف سوى أن تمشي بعيدا عن المنطقة التي طلب منك إخلاؤها.
ليس هناك عذابا اشد من هذه الحالة التي وصل إليها الغزيون في هذه الحرب فالنزوح الداخلي مؤلم ومرهق ومتعب ومستنزف للطاقات وللمال وفي الوقت نفسه فهو مذل بكل صوره ونواحيه، ولذلك فكثيرا ما نسمع عبر وسائل الإعلام عن عائلات تم قصف بيوتها وهم بداخلها لأنهم بكل وضوح آثروا البقاء فيها على النزوح أو أنهم لا يملكون المال والوسيلة لنزوح جديد فظلوا في بيوتهم وهم يعرفون أنهم يعرضون أنفسهم إلى تهلكة محققة.
لقد خلقت البيوت للسكينة والراحة ولكن الغزي حرم من ذلك بحرمانه من بيته واصبح النزوح والخيمة التي يحملها فوق ظهره هو أقسى ما قد يحتمله بشري على وجه الأرض، فقد انقرض هذا الوصف بالترحال منذ زمن وحتى في أقصى بقاع الأرض وفي اكثرها فقرا وفي اكثرها توحشا وقسوة للطبيعة، هناك بيوت واستقرار وثبات وما يحدث للغزي منذ اكثر من تسعة اشهر هو قمة المعاناة وقمة الألم مع فقدان الأمان وفقدان البيت بكل ما يحمله وبكل ما يعنيه من جدران وسقف وباب ومفتاح.
النزوح الذي يعيشه الناس أدى لتفكك الروابط الاجتماعية وفقدان النسيج الأسري والعائلي ولم يعد أحد يفكر بصلة احد فكل عائلة صغيرة تفكر بمصيرها وبمحطتها القادمة، وفقدت الأيام بسبب ذلك معناها وأهميتها ولم تعد حياتهم سوى محطات انتظار لنزوح قادم اشد مرارة وقسوة من سابقه ولكنهم مجبرون عليه ولا خيارات غيره. 


 

أضف تعليق