وجهان أساسيان للحرب على فلسطين
في عددها الصادر في 24 حزيران/يونيو 2024 نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية مقالاً افتتاحياً هاماً بعنوان: "وثائق إسرائيلية تُري جهوداً إسرائيلية موسّعة لصياغة السردية في الولايات المتحدة حول غزة". من خلال هذا المقال شعرتُ أن الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين في غزة والقطاع لم تكن مقتصرة على الجغرافيا الفلسطينية، ولم تكن محصورة بحرب عسكرية وحشية للإبادة والتطهير العرقي على بشاعتها، وعلى الجرائم غير المسبوقة التي ترتكبها عصابات كيان "الأبارتيد" الصهيوني، ولكنها كانت أيضاً مدروسة وممنهجة لتسلب الفلسطينيين حتى حق التعاطف معهم أو الشعور الإنساني اتجاه معاناتهم أو التوصل إلى فهم حقيقي لما يجري على أرضهم على مدى أكثر من سبعة عقود.
لم تكن حكومة "الأبارتيد" العنصرية تدير عمليات القصف الإجرامي على البشر والحجر في غزة فقط، ولكنها كانت تدير معركة لمنع غبار الفوسفور المنضد من أن يصل إلى أنوف الباحثين عن الرائحة الحقيقية لما يجري في فلسطين. شعرت وأنا أقرأ المقال أنّ لدى الإجرام الصهيوني عالميْن متوازييْن وكأنهما منفصلان تماماً: عالم القتل والإبادة والتجويع وسحق أي عنصر يمكن أن يساعد على الحياة والعيش، وعالم التضليل الذي رُصدت له الميزانيات الضخمة ووُجدت له الأذرع وصِيغَت له القوانين والاستراتيجيات التي تضمن للمجرمين استمرارهم في الإجرام من دون أي عقاب، وذلك عبر السيطرة على الإعلام وشراء ذمم السياسيين والإعلاميين والمشاهير.
كنت قد تحدثت أكثر من مرة عن الخلل في توازن القوى بين بضعة مقاومين محاصرين، براً وبحراً وجواً، وبين آلة عسكرية شيطانية تمتلك آخر ما توصل إليه الغرب المتصهين من أدوات قتل وتدمير، ولكن وبعد قراءة هذا المقال شعرت أن الخلل أكبر من ذلك بكثير ولا يقتصر فقط على الناحية العسكرية ولكنه يمتد أيضاً إلى السرديات النفسية والإعلامية والتحكم بالرأي العام ومواجهة أي تحرك أو تعاطف إنساني يمكن أن يدين المجرم الصهيوني أو ينصر الضحية الفلسطينية من أطفال ومدنيين عزل.
يقول المقال إنّه في تشرين الثاني/نوفمبر، بعد بضعة أسابيع من الحرب على غزة، تمّت دعوة أميشي شيكلي، وزير الشتات في حكومة الكيان الصهيوني، لتدارس ما يمكن فعله لإيقاف التظاهرات المناهضة للحرب من قبل الشباب الأميركي، خصوصاً في الجامعات المهمة. ومنذ ذلك الوقت، بدأت منظمات وجمعيات صهيونية، بعضها قديم متجدد وبعضها مستحدث، بالقيام بأنشطة تستهدف إبعاد الرأي العام والشعور العام بشكل أساسي في الولايات المتحدة وأوروبا عن التعاطف مع ضحايا الإبادة في غزة.
وبدأت هذه المنظمات بإصدار أبحاث وأخبار، والتدخل (ابتزاز وشراء ذمم) مع أعضاء الكونغرس والإعلاميين ورؤساء الجامعات بذريعة أن هذه الاحتجاجات على الجرائم الإسرائيلية المريعة ضد حقوق الإنسان الفلسطيني هي فقط نتاج "معاداة السامية"، ولا علاقة لها بما يجري.
وبدأوا أيضاً بمحاولة تضمين القانون فقرات تعيد تعريف "معاداة السامية" لتشمل أي نقد "لدولة إسرائيل" ومن ناحية أخرى، القيام بنشاطات تظهر الدعم لكل ما تقوم به "إسرائيل"، مستدرجين منظمات وقيادات طلاب وأساتذة وحركات منها "مجلس تمكين السود في الولايات المتحدة" الذي أصدر سياسيوه الديمقراطيون بياناً يعبّرون فيه عن تضامنهم مع "إسرائيل"، أي مع حرب الإبادة، كما تمكّنت إحدى هذه المنظمات من تأسيس شراكة رسمية مع "تيك توك" و"ميتا" للتدخل في المنصات الاجتماعية وفي تحرير المحتوى. ومن ضمن أعمالهم الدعوة إلى "ميتا" لحذف الشعار الرائج: "من البحر إلى النهر فلسطين ستكون حرة".
ومن أجل تحقيق أهدافها الإجرامية استخدمت هذه الشبكات الصهيونية والمنظمات اليهودية كل شيء، وكسرت كل المحرمات. فقد استخدموا آلاف الحسابات الوهمية بمحتويات مؤيدة لـ"إسرائيل" ومعادية للمسلمين على كل وسائل التواصل من منصة "أكس" إلى "فيسبوك" و"تلغرام"، وتقول هذه الوثائق إن كل هذه الأنشطة تلقت تمويلاً ضخماً من حكومة الإبادة الإسرائيلية، وجاءت النتيجة تدخلاً إسرائيلياً واضحاً في السياسات الأميركية حول غزة. إحدى هذه المنظمات اللاأخلاقية ركزت على إدانة أي شخصية مشهورة تنتقد "إسرائيل".
وكان التركيز الاستراتيجي على الحاجة إلى تشجيع البلدان على تبني تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى "الهولوكوست" لمعاداة السامية والذي يساوي بين نقد "إسرائيل" ومعاداة السامية أو حتى معاداة اليهود، الأمر الذي يحدّ من القدرة على نقد جرائم الإبادة التي ترتكبها حكومة "إسرائيل" ويجعل من مفهوم "معاداة السامية" أداة ابتزاز لاستهداف ومعاقبة كل من ينتقد الحكومة الإسرائيلية. وبدأوا فعلاً بتغيير القوانين في ولايات وجامعات وحتى في الكونغرس الأميركي. وتخوّل هذه القوانين الجديدة السلطات الأميركية حجب التمويل عن الجامعات والمؤسسات التي تنتقد "إسرائيل". وفي نهاية هذه الوثائق، اقترح البعض زيادة ميزانية مثل هذه الحملات إلى عشرة أمثالها.
شعرتُ وأنا أقرأ هذه الوثائق أكثر من مرة أن المقاومة في فلسطين والعراق ولبنان واليمن وسوريا تحارب بيد واحدة على الزناد بينما هي مسلوبة اليد الأخرى التي تضع الأفكار والاستراتيجيات والتمويل وتعمل عملاً دؤوباً منهجياً لنصرة أصحاب الحق الذين يُقتلون محاصرين لا حول لهم ولا قوة، بينما لا توجد هيئة بحثية فكرية علمية متخصصة بمواجهة هذا التضليل والأكاذيب وتفنيد الحقائق وإيصال الرؤى إلى كل المهتمين المحتملين في العالم، وشعرت أن هذا نتيجة إهمال على مدى عقود لأهمية الفكر والمفكرين ذوي المرجعية المنتمية بعمق إلى هذه الأرض، والتي أحياناً لا تجد سبيلاً إلا الهجرة لتدور في فلك من يمتلك المؤسسات البحثية ويوفّر لها فرصة تحقيق الذات وتفجير الطاقات.
لقد منّ العرب على العالم بفلسفتهم وفكرهم وكان لابن رشد وابن سينا وابن خلدون فضل في النهضة الأوروبية، فماذا دهانا اليوم حيث يحلم معظم الشباب العربي بالهجرة للعمل في أي مكان في العالم، وحيث أصبحت الـ"ديلي تلغراف" والـ"بي بي سي" والـ"سي أن أن" مصادر للمعلومة حتى عمّا لدينا داخل بيوتنا أو مطاراتنا وحيث يتوجب علينا أن نبرهن لهم أننا لسنا دعاة حرب مع أنهم هم القتلة ونحن الضحية.
والأدهى من ذلك، أننا نجد عدداً من ذوي الشأن ومن الوسائل الإعلامية الناطقة بالعربية يغرّدون مع من يجهز علينا، ولا يفرّق بين أحد منا والآخر أبداً ويتناولون قوله وحملاته المضلّلة علينا بنوع من القدسية والإيمان المطلق وكأنّ قوله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
المعركة اليوم مع الأعداء ليست معركة عسكرية على أرض المعركة فقط، ولكنها معركة نفسية وفكرية وإعلامية فهي معركة وجودية تتطلّب منا إعادة النظر في كل المندرجات والثغرات والممارسات التي أوصلتنا إلى هنا، أوصلتنا إلى أن نكون الضحية وأن نُقتل وأن تتم إبادة أرشيفنا وأهلنا ومؤسساتنا لمحو الذاكرة والهوية. ومع ذلك، لا يوجد وضوح في مرجعيتنا ولا في سبل مستقبلنا التي يجب اتباعها في الوقت الذي يقود به أعداؤنا حملات ممنهجة ومنظمة لإلغاء تاريخنا وحقوقنا وانتمائنا إلى أرضنا من خلال إشغال كل الأدوات والإمكانات واتباع آخر النظم المعرفية للتحكم بالرأي العام وقلب الحقائق رأساً على عقب، بينما يقضي مئات الآلاف من الشهداء والمقاتلين الأشاوس دفاعاً عن أرض الأمة وكرامتها، بعد أن سُلبتا من قوى إسناد معرفية وفكرية هجرت الأوطان وأضعفت القدرة حتى على إعلاء صوت الحق وإيصاله إلى ضمائر الأمم.
أضف تعليق