على طريق القدس: نجاح محور وسقوط آخر..
منذ ما يقارب عقدين من الزمن انقسمت الساحة العربية والإسلامية إلى ما عرف حينها بالمحاور، في إشارة إلى اتفاق عدد من الدول حول مبادئ وأهداف مشتركة ومحدّدة، وانقسمت الأمة الإسلامية إلى محورين أساسين التفّت حولهما الدول والجماعات المؤثّرة. دون هذه الدول واحد عرف بمحور المقاومة وواجه تحديات كبيرة ومفصلية، محور عرف بمحور الاعتدال ضمّ دولاً كبيرة وغنية، سنحاول في هذا المقال معرفة كيف تعامل المحوران مع أهم الاختبارات التي واجهتهما منذ سنوات وهي الحرب المدمّرة على غزة وعملية طوفان الأقصى.
محور "الاعتدال" وقد ضمّ في صفوفه عدداً من الدول العربية والإسلامية التي تربطها علاقات استراتيجية مع أميركا، وأخرى تربطها علاقات تطبيع أو علاقات ناشئة مع "إسرائيل"، رفع هذا المحور شعارات تدعو إلى حلّ الصراع بالطرق السلمية وعبر مسار السلام والتسوية، وعمل البعض على خلق بيئة للتعايش مع "إسرائيل" وخلق عدو جديد في المنطقة اسمه إيران، أقنعتهم واشنطن ودول الغرب بضرورة التسلّح وشراء صفقات بالمليارات لمواجهة "العدو" المفترض والبديل لـ "إسرائيل" أي إيران.
ولا أحد ينكر القوة المادية والإعلامية لهذا المحور الذي واجه معضلة إقناع شعوبه بهذه النظرية وجعل "إسرائيل" في نظر الشعوب كياناً طبيعياً وإيران كياناً "غير طبيعي وضاراً بالمنطقة". ومن هنا بدأ العمل على غسل أدمغة الشعوب ومحاولة التأثير عليها، وقد كان ما عرف بـ "الربيع العربي" بوابة لهذا المشروع. لا يمكن الإنكار أنّ نجاحاً نسبياً حقّقته هذه الماكينة، وثمّة شواهد كبيرة وكثيرة على ذلك لسنا بصدد ذكرها الآن.
ولكن عملية طوفان الأقصى شكّلت منعرجاً خطيراً في المنطقة هزّت هذا المحور وبدّدت كلّ محاولات جعل "إسرائيل" جزءاً طبيعياً في المنطقة، وإيران عدواً لها على الرغم من الحديث عن مسار تطبيع إسرائيلي سعودي، فإنني أرى أن هذا المسار إن نجح سيشكّل هزّة للنظام الملكي في السعودية.
محور الاعتدال عجز على مدار ثمانية أشهر عن أن يتخذ قراراً مؤثّراً على مجريات الحرب، سواء أكان قراراً دبلوماسياً أو أمنياً أو حتى إنسانياً، فقد عجزت هذه الدول حتى عن أن تدخل كيس طحين إلى غزة لتبدّد شبح المجاعة الذي ضرب بطون 700 ألف مواطن في شمال غزة، ولم يستطع وزير عربيّ أو برلماني دخول غزة من حدودها العربية (معبر رفح).
هذا العجز الذي بدّد كلّ قوّة محور الاعتدال جعل من القرارات في قمم العرب والقمة الإسلامية وقرارات الجامعة العربية أضعف من أن يعلّق عليها الإسرائيلي بالرفض أو القبول، فأفل نجم هذا المحور وأخذ الحكّام يبدّدون خجل شعوبهم منهم ببعض الفتات الذي يرسل إلى غزة من مساعدات تفتّشها "إسرائيل" قبل دخولها، أو تلقيها طائراتهم على غزة بعد تصريح من "إسرائيل" في شكل استعراضي.
في مقابل هذا المحور كان ما عرف بمحور المقاومة الذي تشكّل له إيران عضلة لكلّ تحرّكاته، وشكّلت له عملية طوفان الأقصى محطة اختبار كبيرة وخطيرة، ظن الكثيرون أن هذه العملية ستبدّد جمعه. فعلى الرغم من أن قادة إيران والأمين العام لحزب الله أعلنوا مراراً فخرهم بهذه العملية وما تقدّمه المقاومة من بطولات، إلا أنهم لم يتردّدوا بالإعلان أنهم ليسوا جزءاً من التخطيط لهذا العمل وهو عمل فلسطيني خالص.
برأيي إن هذا الإعلان ليس تهرّباً ولكنّه تقدير لجهد وعقل المقاومة الفلسطينية التي أبدعت، وعلى الرغم من ذلك النفي لم تتأخّر مكوّنات هذا المحور بالانخراط في المواجهة من دون تردّد، فلم يمضِ يوم واحد على المواجهة في السابع من أكتوبر حتى أعلن حزب الله تنفيذ أوّل هجوم صاروخي له على مزارع شبعا، وفتح حزب الله حدوده أمام حركتي الجهاد الإسلامي وحماس لتنفيذ عمليات استشهادية ضد أهداف عسكرية على حدود فلسطين المحتلة الشمالية مع لبنان وإطلاق رشقات صاروخية، إضافة إلى تحمّل حزب الله العبء الأكبر للمواجهة على الحدود الشمالية.
واستمرّ هذا العمل العسكري المتصاعد الإسنادي لجبهة غزة حتى يومنا هذا إسنادياً، بمعنى أن حزب الله يخوض هذه المعركة ليس وفق استراتيجيته العسكرية وما خطّط له، ولكنه فعل طارئ إسناداً لغزة ومقاومتها، أي أنّ حزب الله بلغة أخرى يتحمّل أعباء هذه المواجهة من أجل غزة والتزاماً بوحدة الساحات لمحور المقاومة.
وحدة الساحات التي أعلنتها حركة الجهاد الإسلامية اسماً لمعركتها مع "إسرائيل" في العام 2022 بعد اغتيال "إسرائيل" لعدد من قادتها، ومنذ هذا الإعلان اعتبر الكثير أن قوى المحور قد تنخرط في أي معركة مقبلة بشكل موحّد ضدّ "إسرائيل".
لم تقتصر هذه المواجهة الإسنادية لغزة على جبهة لبنان، فقد انخرطت جماعة أنصار الله اليمنية بقوة وبلا تردّد في هذه المواجهة وشكّلت جبهة ضغط اقتصادية على دول الغرب و"إسرائيل" وأميركا عبر استهداف سفن شحن من وإلى "إسرائيل"، إضافة إلى مشاركة الجماعة المباشرة بقصف أهداف عسكرية إسرائيلية في فلسطين المحتلة، وكذا جبهة العراق وما فعلته قوات الحشد الشعبي من قصف أهداف أميركية في الأردن وإسرائيلية بفلسطين وكذا جبهة سوريا.
كلّ هذا الانخراط لإسناد المقاومة في غزة شكّل علامة فارقة في قوة وتماسك محور المقاومة، رغم ما يمكن أن يكلّف ذلك من أثمان، ورغم محاولات واشنطن ردع هذا التكاتف والإسناد بإرسال مدمّراتها العسكرية إلى الشرق الأوسط، وإلى شواطئ قريبة من "إسرائيل" لردع هذا الإسناد والتحذير المباشر من المشاركة في هذه الحرب عبر كلّ أقطاب الإدارة الأميركية إلا أن هذا لم ينجح في ردع المحور.
إن معركة طوفان الأقصى شكّلت نقطة فارقة في وعي وعقول أبناء الأمة الإسلامية، فقد أيقن الجميع أن قوة هذا المحور ما هي إلا لإسناد قضايا الأمة وفلسطين في مقدّمتها، وما محاولات تدمير وتهشيم وتشويه هذا التحالف إلا لأجل أن لا يكون ناصراً لفلسطين ولقضايا الأمة أمام "إسرائيل"، وقد مرّت عشرية سوداء استهدفت قوى ودول هذا المحور، وإن نتائج فشل استراتيجية تفتيه وتدميره يجيب عليها انخراط قوى المحور في المواجهة البطولية على حدود فلسطين المحتلة في معركة طوفان الأقصى.
وعليه فإنّ رموز الأمة ومثقّفيها ومنظّريها الذي انبروا بأقلامهم بالتنظير لخلق العدو البديل وجعل "إسرائيل" كياناً طبيعياً في المنطقة عليهم أن يعيدوا النظر بكتابتهم بما يخدم مصالح الأمة من منظور نتائج عملية طوفان الأقصى.
أضف تعليق