24 تشرين الثاني 2024 الساعة 19:22

في الذكرى الـ «76» لنكبة فلسطين التطهير العرقي

2024-05-14 عدد القراءات : 713
اسامة خليفة

تأتي الذكرى الـ«76» للنكبة الفلسطينية في ظل تواصل العدوان على قطاع غزة والضفة الغربية، وتصاعد حرب الإبادة الجماعية، مما يجعل الحديث عن التطهير العرقي موضوع قديم جديد له بداياته الموغلة في الزمن العبري الدموي، نجحت مواقع التواصل الاجتماعي في نقل صورته الحالية إلى كل أنحاء العالم متفوقة على وسائل الإعلام التي كانت بائسة في تغطية ماضي سنوات النكبة المريرة، لكن تفاعلات وآثار العدوان الإسرائيلي الهمجي أثرت في التعاطف مع القضية الفلسطينية، وغيّرت الوعي العالمي، وفي الانحياز الملحوظ والواسع للسردية الفلسطينية، مما فجّر التظاهرات والاحتجاجات في مختلف الدول، ولا سيما في شوارع وساحات الولايات المتحدة وجامعاتها.

التطهير العرقي جزء جوهري من استراتيجية الحركة الصهيونية، تقوم على «الاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من أرض فلسطين بأقل عدد ممكن من السكان الفلسطينيين». بل إن الصهاينة الحاليين ينتقدون جيل التأسيس، أنهم لم ينجزوا التطهير بالقتل أو بالترحيل حتى آخر فلسطيني، ويخطئونهم الخطأ التاريخي الاستراتيجي الكبير بترك جزء منهم يقيمون ويتكاثرون، ليصبحوا أقلية لها وزنها في الأراضي المحتلة عام 48، بنحو مليونين من العرب المتمسكين بهويتهم الفلسطينية، وقد سنحت في ذلك الحين للعصابات الصهيونية المسلحة فرصة مواتية بالإبادة والترحيل الشامل في ظروف التعتيم الإعلامي، وإمكانية إخفاء المجازر وإنكار ارتكابها.

 التطهير العرقي كان وما يزال خطة صهيونية ممنهجة وسياسة إسرائيلية استراتيجية، لازمت المشروع الصهيوني منذ انبعاثه، وكان في الصلب من العقيدة الصهيونية، وكان طرد الفلسطينيين الهدف المشترك الذي التقت عنده الحركة الصهيونية بمختلف فصائلها، وإن اختلفت بالتكتيكات وترتيب الأولويات، كتب بن غوريون في مذكراته: «في كل هجوم يجب إيقاع ضربة حاسمة تؤدي إلى هدم البيوت وطرد السكان». كثير من الدلائل والوقائع تثبت أن نزوح الفلسطينيين عام النكبة لم يكن طوعياً كما يدعي الاسرائيليون، ولم يكن خروجهم من ديارهم نتيجة أوامر إخلاء صدرت عن القادة العرب، بل تهجيراً قسرياً وطرداً تحت التهديد بالقتل والاغتصاب.

بدأ المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، وفي حساباته تنفيذ التطهير العرقي للفلسطينيين استناداً إلى إنكار وجود شعب فلسطين، ويعتبر زئيف جابوتنسكي مصدر الفكر اليميني المتطرف وصاحب نظرية الجدار الحديدي التي تدعو لضرورة طرد الفلسطينيين بالقوة، وعندما وفرت لهم بريطانيا هذه القوة، تحولت إيديولوجيا التطهير العرقي إلى خطط عملية أُعدت من جانب لجان صهيونية مختلفة، هذه اللجان أعملت الفكر في محاولة لمعرفة كيف يمكن تنفيذ التطهير العرقي بصورة عملية إذا سنحت الفرصة التاريخية للحركة الصهيونية للقيام بذلك.

 

 

 

كانت أولى عمليات التطهير العرقي في فلسطين، وبالتواطؤ مع حكومة الانتداب، وأول تنفيذ عبر تهجير الفلسطينيين وتجريدهم من ممتلكاتهم، قد بدأ منذ ثلاثينيات القرن الماضي في مرج ابن عامر حيث استخدم القادة الصهاينة مفهوم «العمل العبري» لطرد الفلاحين العرب الفلسطينيين من أراضيهم التي ولدوا وعملوا عليها، وكذا آباءهم وأجدادهم من قبلهم، مسرحية قضائية محزنة جداً، بدأت حبكتها بافتقار الفلاحين إلى كوشان الملكية العثماني للأرض والبيت.

كان التهجير القسري للاجئين الفلسطينيين 1948 ذروة أكثر من نصف قرن من الجهود الصهيونية، والخطط السرية، والقوة الوحشية. واجه المشروع الصهيوني منذ البداية، حقيقة أن فلسطين فيها شعب أصيل يقطنها، وقد كانت أحد الحلول الصهيونية المقترحة هو «الترانسفير» وهو مصطلح مضلل لما ترنو إليه الصهيونية من تهجير قسري للفلسطينيين، والاستيلاء على أرضهم، ومسح اسم فلسطين من الوجود، وصدروا للعالم أن «الترانسفير» هو النقل المنظم للمواطنين الفلسطينيين إلى الأراضي العربية المجاورة، ضمن حدود وطنهم الأكبر «الوطن العربي».

في أوائل عام 1944، توسع الاستيطان، وازداد أعداد المستوطنين، وتشكلت مجموعات الدفاع الذاتي التي سميت بـ «هاشومير» من مسلحين مدربين لحماية المستوطنات اليهودية، ما سمح  بوضع خطة للتطهير العرقي، تكون جاهزة للتنفيذ في حال اكتمل انعقاد الشروط اللازمة لذلك، وهو ما توفر لهم بفضل قرار تقسيم فلسطين في 29 تشرين الثاني 1947إلى دولة يهودية وأخرى عربية، فتم بلورة خطة وضعها قادة الحركة الصهيونية لتكون جاهزة للتنفيذ، وما يزال التطهير العرقي يتواصل حتى اليوم من خلال تضييق الخناق على فلسطينيي القدس والحصار الاقتصادي على سكان الضفة وغزة، والتي برزت بوضوح كامل بعد 7 أكتوبر 2023 مترافقة مع حرب الإبادة الجماعية.

منذ عام 1945 صممت العصابات الصهيونية أربع خطط عسكرية أدى تنفيذها في نهاية الأمر إلى إنشاء إسرائيل والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وتهجير سكانها.

في فبراير 1945 وضعت «خطة أليف»، «أ»: لاستكمال الهدف السياسي لمسودة وثيقة إعلان قيام دولة إسرائيل التي جرى تحضيرها لتقرأ من قبل بن غوريون في 14 أيار 1948، وقد تم تخطيطها لقمع المقاومة العربية الفلسطينية ضد الاستيلاء الصهيوني على أجزاء من فلسطين.

في سبتمبر 1945، تم وضع خطة بت «الخطة ب»، وقد صممت لتحل محل خطة أليف «أ» في سياق التطورات الجديدة، مثل القاء بريطانيا قضية فلسطين في جعبة الأمم المتحدة، وازدياد معارضة الدول العربية فكرة تقسيم فلسطين.

في شهر مايو عام 1946 وضعت خطة جيمل «ج» والمعروفة أيضاً باسم «خطة مايو»، وضعت الخطة في أعقاب صدور قرار تقسيم فلسطين عن الأمم المتحدة في تشرين الثاني /نوفمبر 1947، وقد تم تخطيطها لتعزيز قدرات الجماعات الصهيونية المسلحة وتمكينها من القيام بأعمال العنف المسلح، فكان تفجير المنازل عنصراً رئيسياً في معظم هجمات الهاجانا وغيرها من العصابات الصهيونية المسلحة.

في خريف 1947 تبلورت على يد ديفيد بن غوريون و11 قائداً صهيونياً، «الخطة دالت» أو «د» بعد أن تم مراجعتها في كانون الأول/ ديسمبر 1947 إثر صدور قرار تقسيم فلسطين من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد تم وضع صورتها النهائية في 10 آذار/ مارس 1948. وتهدف للقيام بعمليات التطهير العرقي، وتقوم الخطة على تطويق المدن والقرى العربية من ثلاث جهات، وإطلاق النار على المدنيين، وترك الجهة الرابعة مفتوحة، لتمكين السكان من النزوح، وسرقة الممتلكات بشكل منهجي، ثم هدم المنازل بالمتفجرات، أوكلت الخطة لقادة الهجاناة والشتيرن والأراغون والبالماخ للقيام بعمليات التطهير في قرى فلسطين أولاً، ثم الانتقال إلى احتلال المدن الكبرى، تضمنت الخطة ارتكاب مجازر ضد المدنيين في القرى والمدن الفلسطينية لإرهاب السكان ودفعهم للنزوح.

تضمنت «الخطة دالت» تأمين المواصلات اليهودية بين المستوطنات، وسد جميع الطرق المؤدية إلى الدولة العبرية، والسيطرة على الأراضي المخصصة للدولة العبرية، وحماية المستوطنات التي تقع خارج حدود الدولة، وإخلاء القرى وهدمها، وطرد العرب منها.

هدفت عمليتان للعصابات الصهيونية إلى احتلال وتدمير القرى الفلسطينية على امتداد الطريق الواصل بين يافا والقدس، أطلق على الأولى «عملية نخشون» والثانية «عملية هارئيل»، بعد ذلك بدأت «عملية حامتس» لعزل واحتلال يافا والقرى المحيطة، و«عملية يبوسي» لاحتلال الأحياء السكنية الفلسطينية في القدس الغربية والشرقية خارج حدود البلدة القديمة، بالإضافة إلى القرى الواقعة في القرى الشمالية والشرقية. وغيرها من العمليات التي كانت تتخذ طابعاً انتقامياً شديداً إذا واجهت الهجمات الصهيونية أية مقاومة، وفي حال عدم القدرة على إبداء أية مقاومة بسبب عدم توفر السلاح يتم طرد السكان الفلسطينيين إلى خارج الحدود، وفي مناطق في النقب ذكر الكولونيل البريطاني دو غرير بأن اللاجئين قد طردوا من مناطقهم بواسطة قذائف الهاون ونيران الرشاشات والبنادق.

ربط مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة التطهير العرقي، ما بين رغبة دولة أو نظام في فرض حكم إثني على منطقة مختلطة، وبين أعمال الطرد ووسائل عنف أخرى، ومن أعمال التطهير العرقي: فصل الرجال عن النساء، احتجاز الرجال، نسف البيوت، ومن ثم إسكان مجموعة إثنية أخرى في البيوت المتبقية، وحيث كانت المقاومة عنيفة اقترنت عملية الطرد بمجازر. 

وفقاً للمؤرخ الإسرائيلي بيني موريس، استمر تنفيذ الخطة «د» حوالي ثمانية أسابيع، ابتداءً من أوائل أبريل، ارتكبت إسرائيل خلال تنفيذ الخطة 28 مجزرة كانت أشدها هولًا وقسوة مجزرة دير ياسين.

 يقول بيني موريس: كانت خطة دالت تتضمن بصمات واضحة لسياسة التهجير على المستويين المحلي والوطني وأن بن غوريون كان يريد بوضوح أن يبقى أقل عدد ممكن من العرب في الدولة اليهودية.

في التاسع من أبريل بدأت المرحلة الثانية لطرد الفلسطينيين من القرى المجاورة للقدس، والواقعة خارج حدود الدولة اليهودية حسب قرار التقسيم. هاجمت وحدة من عصابتي الإرجون وشتيرن بالتعاون مع الهاجانا قرية دير ياسين فجراً، وذبح الصهاينة حتى الظهر 250 فلسطيني. وكانت قرية دير ياسين تبعد 2-3 كم عن مكتب مدير البوليس البريطاني في القدس وعندما أخبروه أن هناك مذبحة تدور في دير ياسين، لم يتحرك وقال هذا ليس من شأني.

يقول ثيودور كاتس المؤرخ الإسرائيلي الباحث في المذابح الصهيونية: «حدث مرات عديدة أن الجنود الإسرائيليين، الجنود المختارين، أخذوا عشرة من الشباب إلى وسط القرية وأطلقوا النار عليهم وقتلوهم كي يرى كل الناس ذلك فيهربون، وإذا لم يكن هذا كافياً كانوا يأخذون آخرين لقتلهم أيضاً»

وضع الكولونيل فرمويلن، المسؤول الأعلى لهيئة الأمم المتحدة في غزة، تقريره الخاص عن اللاجئين. واتفق مع الكولونيل دو غرير وفريقه بشأن أسباب النزوح، كتب قائلا: «وفقا لما رآه المراقبون، ونحن بمقدورنا أن نصرح بذلك أيضاً، فإن الأعمال «اليهودية» في هذه المنطقة أجبرت العرب على النزوح من قرى عديدة».

في كتابه التطهير العرقي في فلسطين ينتقد المؤرخ اليهودي في جامعة إكستر في بريطانيا إيلان بابيه استخدام مصطلح النكبة لتوصيف ما جرى في فلسطين العام 1948 ويرى أنه تعبير مراوغ يتحدث عن الكارثة التي حلت بالفلسطينيين دون توجيه أصبع الاتهام للجهة المسؤولة عن وقوعها، وإلى السبب الذي يقف من وراء ذلك، ويعتقد بابيه أن استخدام هذا المصطلح قد يكون ساهم إلى حد ما في استمرار العالم في إنكار حقيقة أن ما جرى في فلسطين عام 1948 وبعدها، هو تطهير عرقي.

يشير المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه في كتابه «التطهير العرقي في فلسطين»، إلى أنه بعد شهر من صدور قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، شرعت القيادة «اليهودية» في «التطهير العرقي لفلسطين»، ومع اكتمال تنفيذ الخطة دمرت 531 بلدة وقرية فلسطينية، وتم إخلاء نحو أحد عشر حياً سكنياً من سكانه، كما أدى تنفيذ الخطة إلى نزوح 800 ألف فلسطيني، تحولوا إلى لاجئين في وطنهم ولاجئين في البلدان العربية المجاورة.

يقول إيلان بابيه: «نصف الفلسطينيين الذين أصبحوا لاجئين، طردوا من منازلهم بحلول مايو 1948، ومن بين 530 قرية فلسطينية التي دمرت في نكبة 1948 فإن نصف هذه القرى هدمت قبل 15 مايو».

تقرر تطبيق خطة دالت « د» قبل خروج البريطانيين من فلسطين، أي قبل 15 أيار/ مايو 1948، وتقضي بتوسيع الدولة العبرية إلى أبعد من حدود التقسيم التي اقترحت خارطتها الأمم المتحدة، إذ نفذت القوات الصهيونية من 1 نيسان/ أبريل إلى منتصف أيار/ مايو، 13 عملية عسكرية كانت ثمان منها خارج حدود التقسيم، أي في الأمكنة التي خصصت للدولة الفلسطينية الفلسطينية، كان الهدف العام لـ« د» هو الاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من القسم المخصص للدولة الفلسطينية، قبل إنهاء الانتداب البريطاني، وإعلان دولة إسرائيل، لضمان مساعدة بريطانيا في «التطهير العرقي» الإسرائيلي في فلسطين، يشير إيلان بابيه إلى أن البريطانيين ربما كانوا على علم بالخطة «د»، بل وأعلنوا، بعد وقت قصير من بدء تنفيذها، أن قواتهم لن تكون مسؤولة عن القانون والنظام في المناطق التي تتمركز فيها، ولكنها ستحمي نفسها. وهذا يعني أن مساحات شاسعة من فلسطين، ولا سيما مدينتي حيفا ويافا والعديد من القرى الريفية، يمكن الآن الاستيلاء عليها من قبل الإسرائيليين دون خوف من الرد البريطاني. وقد أرسل هذا الضوء الأخضر للمضي قدماً في عملية الاستيلاء على المدن والقرى العربية، وصف إيلان بابيه طرد سكان حيفا الفلسطينيين البالغ عددهم 75000 نسمة بأنها «واحدة من أكثر الفصول المخزية في تاريخ الإمبراطورية البريطانية في الشرق الأوسط». كان البريطانيون بشكل واضح متورطين في التطهير العرقي الإسرائيلي في فلسطين. وقفت القوات البريطانية مكتوفة الأيدي أمام قيام القوات الإسرائيلية بارتكاب المجازر وتدمير القرى العربية وطرد سكانها.

 

راجع:

كتاب «التطهير العرقي في فلسطين» لمؤلفه المؤرخ الاسرائيلي ايلان بابه، ترجمة أحمد خليفة.

كتاب «الترانسفير» لمؤلفه نور الدين مصالحة.

كتاب «التطهير العرقي ضد الشعب الفلسطيني» لمؤلفه اسلام شحدة العالول.

ويكيبيديا ومواقع الكترونية أخرى

أضف تعليق