"جذور".. غناء وحكايات فلسطينية في قلب القاهرة
في مركز "حيفا" الثقافي بحي الزمالك بوسط القاهرة، يجلس الشاب محمود العطار ممسكاً بآلة العود، غير مكتفٍ بالعزف على أوتار الجسم الخشبي المنتفخ بالكثير من الألحان العربية، بل يسعى إلى خلق تواصل بينه وبين الجمهور عبر حكي القصص المتعلقة بكل أغنية، سواء ارتبطت بموقف عاطفي لأحد صناعها، من شاعر أو ملحّن، أو قصة تؤرخ لأعمال فدائية ارتبطت بقضايا الأمة وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
لا يجلس العطار وحيداً، بل يلازمه صديقه المطرب المصري أحمد الرفاعي، ليكونا معاً مشروعاً لنشر التراث الغنائي العربي أطلقا عليه اسم "جذور"، الذي يوضح هوية المشروع الموسيقي نفسه.
في مقابلة مع "الميادين الثقافية"، يقول محمود العطار، أحد مؤسسي "جذور"، إن المشروع "يهدف إلى إحياء الموسيقى التراثية من مختلف الثقافات العربية، وخصوصاً الأغنيات التي قد تكون غير مشهورة بين قطاعات كبيرة من جمهور الموسيقى عن طريق جلسات طرب تفاعلية، حيث يتشارك الفنانون الغناء وقصص الأغاني وفنانيها، مع الجمهور.
كيف بدأ "جذور"؟
كانت الصداقة التي ربطت محمود العطار وأحمد الرفاعي هي المحرك لمشروعهما الغنائي، ولا سيما أنهما كانا يجتمعان دائماً، ويغنيان معاً أغانيهما المفضلة، فيشتركان في ذائقة موسيقية واحدة تقريباً، وكذلك في حبهما للموسيقى التراثية، وخاصة الشامية والمصرية، وقد وجدا أنهما حين يقومان بالعزف والغناء فإن الناس يحبون ما يقدمانه ويتفاعلون معه.
ويضيف العطار: "من هنا، خطرت لنا فكرة أن نُطلق هذا المشروع ونقوم بالشيء الذي نحبه ونجيده بشكل احترافي، وقد اهتمت صديقتنا هبة صادق بكل الأمور اللوجستية والإدارية ليتسنى لنا التركيز على الموسيقى بشكل أفضل، وهكذا تم تكوين المشروع".
أما عن اختيار المكان الذي يحتضن الحفلات، فإن ثمة هوية يعسكها مشروع "جذور"، وهي الهوية الفلسطينية التي تتجلى في كل عناصر الحفل، بدءاً من الكوفية الفلسطينية التي تزين أكتاف الشابين، مروراً بالأغاني التي تقدم، قبل أن يستقر مؤسسا مشروع "جذور" على اختيار غاليري "حيفا"، الذي يقصده الجمهور لسماع أغنيات تحمل مضموناً مختلفاً عن الموجود.
ويؤكد العطار أن حفلات "جذور" وإن انطلقت من غاليري "حيفا" باعتباره المكان الذي يحتضن معظم جلسات المشروع الموسيقية والبروڤات والسهرات الارتجالية، فإنها لم تقتصر على هذا المكان فحسب، "بل أقمنا حفلات في المركز الثقافي النمساوي وأيضاً في جامعة القاهرة، ونخطط الفترة القادمة لإقامة عدد من الحفلات في أماكن مختلفة داخل القاهرة وخارجها".
و"حيفا" هو مركز ثقافي وغاليري يعتمد في ديكوره على التراث الفلسطيني والرموز والأعلام الفلسطينية. إذ تزين جدرانه أيقونة ناجي العلي الشهيرة ،"حنظلة"، وصور لمحمود درويش ومريد البرغوثي، فضلاً عن بعض الفنانين الذين تخطت شهرتهم العالم العربي، ومن بينهم فيروز وأم كلثوم.
ما قصة "يا يما فيه دقة ع بابنا"؟
إلى جانب الغناء والعزف على العود، كانت قصة أغنية "يا يما فيه دقة ع بابنا" ضمن ما يحكيه محمود العطار لجمهور الحفل. إذ يقول إن هذه الأغنية التي انتشرت بصوت "أبو عرب"، مغني الثورة الفلسطينية الكُبرى عام 1936، كانت قصة حقيقية حدثت في سبعينيات القرن الماضي لبطل فلسطيني اشتهر باسم "بلال"، هُجِّر من بلدته في بيت لحم إلى لبنان.
ويضيف، أن بلال بعد رحيله عن بلده بعدة سنوات، تسلل مرة أخرى إلى فلسطين لينفذ مجموعة عمليات ضد الاحتلال، عُرِفت في ما بعد بمجموعة "777". في الليل، شعر بلال بأن عليه أن ينزل إلى قريته في بيت لحم ويرى أمه قبل أن يغادر، وحين دق الباب ردّت عليه أمه سائلة "مين؟"، فأجابها "ابنك بلال"، فلم تصدِّقه! وكان ذلك، بسبب ما أُشيع، في وقت سابق، أن بلال قد استشهد في معارك جنوب لبنان، فأقام أهله عزاء له!
ومع انتباه الجمهور لطريقة حكي العطار وتشوقهم لمعرفة باقي قصة الأغنية التي تؤرخ فنياً لحياة بطل فلسطيني، يستطرد العطار: "اعتقدت الأم أن الاحتلال ينصب لها كميناً ليكشفوا من يتعاون مع الفدائيين، ولم تفتح الباب، فذهب بلال إلى جارته وأخبرها بما حدث، فعادت معه إلى منزله ودقا على الباب مجدداً، وهذه المرة شرحت الجارة لأم بلال الموضوع، وأن من على الباب هو ابنها بالفعل، ففتحت له واحتضنته وقبّلته ثم قبّلت بندقيته. وبعد عودة بلال إلى لبنان، التقى هناك الفنان "أبو عرب"، وحكى له عن هذه القصة فكتبها وغناها".
ربما يعتقد البعض أن تلك الحكايات المتعلقة بالأغنيات المقدمة في الحفل هي من وحي خيال مؤسسي "جذور"، أو ربما غير موثقة بالشكل الكافي، لكن محمود العطار يؤكد أن عمله كباحث موسيقي يساعده كثيراً في ما يقدمه من حكايات، وأنه يعمل على التأكد منها، مضيفاً: "على مدار السنوات العشر الماضية جمعت مكتبة كبيرة جداً من الكتب والأرشيف الخاص بالموسيقى التراثية وعملت على تأليف كتاب عن تلك الحكايات وقد صدر بالفعل منذ 3 سنوات ".
وحول تفاعل الجمهور مع تلك الحكايات يقول: "يتجاوب الناس معها بشكل جيد جداً، خصوصاً الأغاني الفلكلورية التي يعرفونها لكنهم لا يعرفون القصة وراء كتابتها وغنائها؛ مثل قصص أغاني التراث الفلسطيني وحكايات المقاومة إبان النكبة".
وبدأ مشروع "جذور" لغاية فنية ومعرفية هدفها تعريف الجيل الجديد بالأغاني التراثية الفلسطينية وحكاياتها، لكن هذه المسؤولية كبرت وازدادت حملاً بعد عملية "طوفان الأقصى"، وما تلاها من إبادة جماعية بحق الفلسطينيين.
ويختتم العطار حديثه بالقول إن: "هذه الحرب أثرت في جميع الناس وليس "جذور" فقط. جميعنا نشعر بأننا نريد فعل أي شيء من أجل هذا الشعب الصامد، ودورنا كموسيقيين هو أن نغني لهم ونحكي قصصهم البطولية مثلما حدث في الانتفاضتين الأولى والثانية، حيث شكلت الأغاني وسيلة تعبير سريعة الانتشار والوصول إلى الشارع العربي".
أضف تعليق