رسالة إلى غيورا آيلاند... انتهى زمن حروب "إسرائيل" الحاسمة
في إطار استخلاص العبر الإسرائيلية من عملية طوفان الأقصى، كتب غيورا آيلاند، اللواء احتياط ورئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي الأسبق وأهم الاستراتيجيين الإسرائيليين، مقالاً بعنوان "المشكلات العميقة في الجيش ظهرت، وهي تحتاج إلى عقيدة أمنية جديدة"، يناقش فيه الأخطاء التي وقعت بها فرقة غزة في "الجيش" الإسرائيلي في عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر الماضي، مركزاً على الخلل الدفاعي، إذ يعترف آيلاند بأن "الجيش" الإسرائيلي ليس جيداً في الاستراتيجية الدفاعية، ولكن الأهم فيما يطرحه أنه يعتبر أن الخطأ المركزي لدى "الجيش"، وخلفه المستوى السياسي، هو انتهاجهم سياسة "الاحتواء" لكل من حزب الله في لبنان والمقاومة في قطاع غزة.
كانت السياسة السائدة لديهم أنه ما دام الحديث عن بناء القدرات العسكرية للمقاومة، وليس استخدامها ضد "إسرائيل"، فإنه يمكن احتواؤها من دون الضرورة للذهاب إلى الحرب مع تلك القوى، الأمر الذي اعتبر آيلاند أنه سمح للمقاومة ببناء قوتها العسكرية الكبيرة التي تحولت إلى تهديد استراتيجي لقوة هجومية فعلية ضد "إسرائيل"، كما حدث في عملية طوفان الأقصى.
من جهة أخرى، بات على "إسرائيل" أن تخوض حرباً طويلة لمحاولة تدمير تلك الإمكانات العسكرية. لذلك، يدعو آيلاند إلى إضافة مرتكز خامس إلى العقيدة العسكرية الإسرائيلية بما يتعلق بالقوى المقاومة اللادولانية، وهو عدم السماح لها بزيادة قوتها العسكرية.
يأتي مقال غيورا آيلاند ضمن سلسلة من المقالات البحثية بالتعاون مع مركز "MIND Israe" الذي أسسه حديثاً الجنرال ورئيس الاستخبارات الأسبق عاموس يدلين، في إطار تقديم الحلول التي تغير واقع الأمن "القومي" الإسرائيلي، وتساعد المؤسسة الأمنية والعسكرية والمستوى السياسي الإسرائيلي في اتخاذ قرارات استراتيجية صحيحة للحفاظ على الأمن القومي الإسرائيلي.
ومن الجدير بالذكر أنه لا يمكن إغفال أن غيورا آيلاند قفز عن حقائق عديدة عن طبيعة البيئة الاستراتيجية العسكرية والأمنية الإسرائيلية قبل السابع من أكتوبر في ظل تنظيره المتأثر بتوجهه السياسي الذي ظهر جلياً بعد حرب غزة، وخصوصاً أن اسمه بدأ يتداول في كواليس السياسة كشخصية أوضحت نفسها بشكل كامل أنها ذات توجهات يمينية، وبات من الممكن أن تكون ضمن خيارات معسكر اليمين في الانتخابات القادمة.
يعتبر غيورا آيلاند في مقاله الاستراتيجي الذي يحاول به تقديم رؤية جديدة لبناء العقيدة العسكرية الإسرائيلية وإعادة بناء "الجيش" الإسرائيلي بما يوافقها، أن تلك السياسة الإسرائيلية عبارة عن قرار خاطئ للساسة الإسرائيليين، من دون أن يوضح الدوافع الفعلية التي دفعتهم إلى اتخاذ سياسة الاحتواء ضد قوى المقاومة في لبنان وغزة.
وهنا، افتقد آيلاند الموضوعية البحثية، كما العديد من المفكرين الإسرائيليين الذين ما زالوا في حالة الصدمة من حدوث عملية طوفان الأقصى ونجاحها، فلم يتطرق إلى مناقشة المتغيرات التي طرأت على البيئة الأمنية الاستراتيجية الإسرائيلية خلال العقود الثلاثة الماضية، والتي دفعت "إسرائيل" إلى انتهاج سياسات الاحتواء، كما وصفها آيلاند تجاه المقاومة في غزة أو في لبنان مع اختلاف الظرف الموضوعي لطبيعة الجبهتين.
وظيفة العقيدة العسكرية الإسرائيلية منذ قيام "إسرائيل" هي قيادة التفكير الاستراتيجي والعملياتي بكل ما له علاقة بتنظيم وهيكلة "الجيش" وقواعد الدفاع عن "إسرائيل"، بحيث تشكل الأساس الثابت الذي تبنى عليه سياسات الأمن لكل الحكومات الإسرائيلية.
تم تأسيس تلك العقيدة منذ قيام "إسرائيل" على 3 مرتكزات رئيسة: "الإنذار المبكر، والردع، والحسم"، وهدفها المركزي هو خلق حالة ردع متراكمة لدى العرب على المدى القصير يمنعهم من التفكير في مهاجمتها. وعلى المدى البعيد التخلي عن فكرة زوال "إسرائيل" وتدميرها. بمعنى آخر، إنَّ منع الحرب أو على الأقل تأجيلها قدر الإمكان هو قمة أهداف العقيدة العسكرية الإسرائيلية.
اعتبرت حرب 1967 لحظة الذروة في نجاح العقيدة العسكرية الإسرائيلية بمواجهة التهديد الوجودي وتخطي مرحلة الخوف على وجود "إسرائيل" التي أدرك الجميع نقطة تفوقها العسكري على الجيوش العربية، الأمر الذي تعزز مع توقيع اتفاقية كامب للسلام مع مصر، ومن ثم احتلال العراق، وزلزال الربيع العربي، والأزمة السورية.
كل ذلك أدى دوراً في تغيير البيئة الأمنية الإسرائيلية الاستراتيجية في اتجاه تناقص التهديد الوجودي على "إسرائيل" من قبل الجيوش العربية، ليبدأ الحديث العسكري الإسرائيلي عن تهديدات عسكرية جادة مع انسحاب التهديد الوجودي. والجدير بالذكر أن ضعف الدول العربية قابله تصاعد قوة المقاومة الفلسطينية واللبنانية.
وهنا، يمكن القول إنه حدث تغير دراماتيكي في محيط "إسرائيل" الأمني. وإذا أضيف إلى ذلك سيطرة قوى المقاومة على مناطق جغرافية مع امتلاكها أذرعاً عسكرية تقاتل بطريقة تختلف عن طرق الجيوش الكلاسيكية، مع امتلاكها أسلحة جيوشٍ، وخصوصاً السلاح الصاروخي الذي انتشر في السنوات الأخيرة، مع امتلاك تلك القوة القدرة على إنتاجه وتطوير جودته بالجهود الذاتية، كل ذلك أجبر "الجيش" الإسرائيلي على تغيير هياكل بناء قوته العسكرية التقليدية والتفكير في استراتيجيات جديدة شاملة في مواجهة التحدي العسكري الجديد من قبل قوى المقاومة.
لم تقتصر التغيرات في البيئة الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية على البعد الخارجي، بل حدثت تغيرات داخل المجتمع الإسرائيلي الذي ازدادت حساسيته من خسائر الحرب وارتفاع حالة الفردانية العالية بين مستوطنيه وتعمق الشروخ الاجتماعية والاقتصادية بينهم، الذي أحدث في نهاية المطاف نوعاً من زعزعة ما يسمى "بالحصانة القومية الصهيونية"، التي يمكن من خلالها قياس قوة الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
في ظل التغيرات الجديدة في البيئة الاستراتيجية، أوجدت "إسرائيل" ما يطلق عليه "إدارة العنف منخفض الوتيرة"، كحل للموازنة بين أهدافها والأخطار التي تواجهها، بمعنى آخر قبول "إسرائيل" مستوى معيناً من الصراع مع قوى المقاومة، من دون أن يكون ذلك سبباً لذهابها إلى حرب مفتوحة معها، الأمر الذي أدى إلى وجود علاقة جدلية بين إرادة الحرب على طريقة الحسم والإخضاع في سبيل تقليل الثمن الذي سيدفعه "الجيش" الإسرائيلي، وإرادة تقصير زمن الحرب بهدف تقليل الثمن الذي تدفعه الجبهة الداخلية الإسرائيلية، إضافة إلى أن الهجوم الحاسم بات غير مضمون تحقيقه، مع التأكيد على الكلفة العالية البشرية والاقتصادية التي يصعب على المستوى السياسي الإسرائيلي تحملها لتحقيق إخضاع وحسم المقاومة.
لذلك، اتجهت "إسرائيل" إلى استنزاف قوى المقاومة من دون حسمها. وهنا، بدأ "الجيش" يتجه نحو العمليات العسكرية بهدف التأثير في العدو، وليس كما السابق عمليات عسكرية بهدف الحسم، وصارت العمليات العسكرية تسعى لإحداث تأثيرات عملية محدودة، بهدف تقييد واحتواء السلوك الاستراتيجي للمقاومة التي باتت فرضية "الجيش" الإسرائيلي أنه غير قادر على هزيمتها.
ساهم كل من انتفاضة الأقصى عام 2000 وحرب تموز 2006 والحروب على غزة قبل السابع من أكتوبر في جعل "الجيش" الإسرائيلي يبحث عن نموذج ردع جديد تحت عنوان "معارك هدفها الردع"، وتكون قصيرة شديدة وذات هجوم محدود، ومتكررة على فترات زمنية، والتي أطلق عليها البعض في "إسرائيل" نظرية "الجولات القتالية"، إضافة إلى زيادة أهمية الدفاع "التحصن" في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، وبات الدفاع مرتبطاً بتشكيل نسخة ردع جديدة، تتغذى بشكل أكبر من السابق من مجموعة أدوات دفاعية سلبية "ملاجئ وتحصينات"، وإيجابية "منظومة القبة الحديدية، ومنظومات السهم للدفاعات الجوية"، لمنع قوى المقاومة من تحقيق ما هو متوقع إنجازه من فعلها العسكري، من خلال تحييد قدراته الهجومية.
بات السعي الإسرائيلي مكثفاً حول كيفية مواجهة التهديدات الأمنية الجديدة من دون الذهاب إلى حرب مفتوحة. وفي الوقت ذاته، تعزيز جاهزيتها للحرب في حال اندلاعها. هنا، ظهرت استراتيجية "المعركة بين الحروب" كإطار استراتيجي للسياسة الإسرائيلية التي تتضافر بها كل الجهود المؤسساتية المرتبطة بصناعة "الأمن القومي" الإسرائيلي.
وبذلك، ابتعدت الاستراتيجية الجديدة عن المقاربة الثنائية المتمثلة في الاستعداد للحرب أو شنها علناً، وصارت تقوم على اتخاذ إجراءات هجومية استباقية تستند إلى معلومات استخبارية دقيقة عالية الجودة وجهود سرية، بمعنى أن المعركة بين الحروب لم تكن يوماً استراتيجية احتواء، لكونها لا تعتمد على الأساليب الدفاعية فحسب، بل تحتوي بداخلها على مركب هجومي أيضاً، لكنه يتبع منهجاً صارماً لإدارة المخاطر لتقليص احتمال نشوب الحرب.
رغم أنّ معركة طوفان الأقصى أثبتت فشل استراتيجية "المعركة بين الحروب"، فإنّ حرب غزة على مدار أكثر من 119 أيام لم تستطع إحداث تغيير إيجابي في البيئة الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية، بل على العكس. لذلك، لا يمكن الاعتقاد بأن العودة إلى الحروب الحاسمة إسرائيلياً هي حل مجدٍ، هذا في حال كانت العودة ممكنة في ظل بيئة إسرائيلية استراتيجية أمنية أكثر تعقيداً من ذي قبل.
أضف تعليق