الكذب والسياسة: فلتعلن الحقيقة في غزة وليتحرّر العالم
ليس مستغرباً أن تكذب الولايات المتحدة الأميركية عن سابق إصرار وتصميم. إعلان وزارة خارجيتها أنها لم ترَ أيّ دليل على أنّ "إسرائيل تقتل المدنيين عمداً" في غزة هو كذبة من العيار الثقيل ولن تنطلي بطبيعة الحال على أحد، إلا أنها ليست استثناء في التاريخ الأميركي المليء بالأكاذيب الكبيرة التي تطلق لتمهّد الطريق أمام مخططات حروب ومشاريع تدمير تخلّف الملايين من القتلى.
حبل الكذب الأميركي طويل ومستمرّ، والأهم أنه عبارة عن عملية ممنهجة ومنظّمة. إنه خيار أيديولوجي مبنيّ على أساس فكري. وقد تحدّثت "حنا آرنت" عن هذه الأيديولوجية في مقالة شهيرة لها بعنوان "الحقيقة والسياسة". أشارت الكاتبة إلى أن الأكاذيب اعتبرت على الدوام أدوات ضرورية ومشروعة ليس لحرفة السياسي الداهية والديماغوجي، بل لحرفة من يقدّمون أنفسهم كـ "قادة".
وتتوقّف آرنت عند موقف الفلاسفة الغربيين من الكذب السياسي. هوبز مثلاً يرى أنّ الكذب في وسعه "أن يكون مفيداً في إعداد شروط البحث عن الحقيقة" ويذهب إلى حد اعتبار أنّ الحقيقة التي تستحقّ الترحاب هي "التي لا تتعارض مع أي مصلحة ولا مع أي متعة بشرية". وتضيف المفكّرة الألمانية أن الكثير من فلاسفة الغرب اعتبروا أن "الكذب من الأدوات غير المؤذية ضمن ترسانة الفعل السياسي، وأن السلطة تخوض المعركة داخل حقلها الخاص عندما تزوّر الوقائع وتخفيها" وخلصت إلى أنّ "الكذب أصبح سلاحاً منظّماً اليوم في الفضاء العمومي الغربي".
في الحقيقة هناك الكثير من الوقائع التي تؤكّد كلام آرنت. فللكذب المنظّم في الغرب عموماً وفي الولايات المتحدة الأميركية خصوصاً ماكينة ضمّت الكثير من المنظّرين والمنفّذين والمروّجين. يمكن اعتبار هنري كيسنجر، وزير الخارجية الشهير، الذي رحل منذ فترة قصيرة أبرزهم على الإطلاق. أدّى كيسنجر دوراً كبيراً في تكريس الكذب والخداع في السياسة كما في الإعلام.
أسس الرجل مدرسة إعلامية في الكذب. تلامذتها مجموعة من الصحافيين الذين عملوا على نشر ما يريده من معلومات من دون أيّ تدقيق، وبمجرد استلامهم لمكالمة هاتفية منه شخصياً. روّج هذا الفريق لقرب انهيار الفيتكونغ وانتصار الولايات المتحدة الاميركية في حرب فيتنام. أشهر الأكاذيب في هذا السياق تمّ نشرها في العام 1972.
في نهاية ذلك العام قصفت الولايات المتحدة الأميركية هانوي بالطائرات وهي العملية التي عرفت بعملية قنابل عيد الميلاد. كتب أحد أعضاء نادي كيسنجر الإعلامي جيمس روستوت وبناء على توجيه من "معلّمه" مقالة في نيويورك تايمز يقول فيها إن كيسنجر يعارض العملية وذهب إلى حد الكلام عن أنّ استمرار القصف سيدفع وزير الخارجية الشهير إلى الاستقالة.
المقالة خلّفت صدمة هائلة في البيت الأبيض فكسينجر هو الذي اقترح فكرة قصف هانوي على الرئيس الأميركي نيكسون ونصحه بتنفيذها وأقنعه بها. صدمة مماثلة عاشها العالم عندما تبيّن أنّ الحرب التي خاضتها الولايات المتحدة الأميركية في فيتنام وقتلت خلالها أكثر من مليون ونصف مليون فيتنامي قامت على كذبة.
كشفت وثائق صدرت عن وكالة الأمن القومي الداخلي الأميركي في العام 2005 أن الحادثة المعروفة بحادثة خليج تونكن، والتي حصلت بموجبها إدارة الرئيس جونسون على تفويض من الكونغرس في 7 آب/أغسطس 1964 باستعمال القوة في فيتنام، كانت حادثة ملفّقة وأنه لم تكن هناك أيّ سفن بحرية فيتنامية شمالية أثناء الحادث.
قبل كيسنجر وفيتنام زخر السجل الأميركي بالكذب في أكثر من ملف وعلى أكثر من مستوى.
شكّل إنشاء وكالة الاستخبارات الأميركية في العام 1947 مؤشراً هاماً على تغيير كبير في النماذج التقليدية للسياسة الأميركية. فقد أدخل إلى الوكالة مفاهيم "الكذب الضروري" و"الإنكار المطلوب" وتمّ تحويل هذه المفاهيم إلى استراتيجيات معتمدة من قبل طبقة من السياسيين والعسكريين المستعدين للابتزاز وإساءة استخدام السلطة.
جورج كونان الذي يعتبر أحد آباء وكالة المخابرات المركزية ومهندس مشروع مارشال ومدير مجموعة تخطيط سياسة وزارة الخارجية في تلك المرحلة، قدّم في حديث أمام كلية الحرب في العام 1947 مفهوم "الكذب الضروري" كمكوّن أساسي من مكوّنات الدبلوماسية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية. وهو اعتبر بشكل واضح ومن دون أيّ مواربة أنّ محاربة الاتحاد السوفياتي لا يمكن أن تحصل بالصدق إنما بالاستخدام "الوقح والذكي للكذب".
بالفعل تحوّلت هذه الفلسفة السياسية إلى أنشطة نفسية وإعلامية لدعم السياسة الأميركية المضادة للاتحاد السوفياتي. تطوّرت البرامج والمحاولات وتراكمت وصولاً إلى ثمانينيات القرن الماضي عندما قامت الصحافة الأميركية بأكبر عملية تضليل في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.
ففي الوقت الذي كانت تتجمّع فيه كل مؤشرات انهيار الاتحاد السوفياتي كانت الصحافة الأميركية تكذب وتنشر معلومات عن تصاعد قوة السوفيات وتعاظم تهديدهم لواشنطن من أجل تبرير الإنفاق على التسلّح.
لم يتوقّف حبل الكذب الأميركي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وجد العالم نفسه مرة جديدة أمام نسخة جديدة من الفيلم الأميركي الطويل. قامت حكومة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن بحملة إعلامية معلوماتية منظّمة لتضليل الرأي العام الأميركي والمبالغة في التهديدات التي تشكّلها أسلحة الدمار الشامل العراقية التي ادّعى الأميركيون أن العراق يمتلكها.
وقد صدرت تقارير عديدة تؤكّد كذب الإدارة الأميركية وقيامها بعملية تضليل منظمة بشأن هذا الأمر. أظهرت هذه التقارير أن الإدارة الأميركية كانت توقن أن لا أساس للقول بأنّ العراق يشكّل خطراً بأسلحته الكيميائية أو النووية على السلام، وكانت تعلم علم اليقين أنه ليس لديه برنامج نووي على الإطلاق ومع ذلك أعلن ديك تشيني أن العراق استأنف برنامجه النووي.
اللافت هو أنّ أداء الإعلام الأميركي لم يتغيّر واستمرّ في التواطؤ بهدف الترويج للكذب، وساهم بقوة شديدة في خلق رأي عام أميركي مؤيّد لشنّ الحرب على العراق.
هذا الجانب تناوله بالتفصيل كتاب صدر في بريطانيا بعد غزو العراق بسنوات قليلة عنوانه "أخبرني الأكاذيب". يتناول الكتاب آليات عمليات الدعاية أو البروبغندا المنظّمة، وإدارة كلّ من أميركا وبريطانيا للمعلومات بطريقة إدارة الحرب العسكرية نفسها كي تقنع الرأي العام بأهدافهما.
تكشف فصول الكتاب كيف استطاعت حكومتا بريطانيا والولايات المتحدة التلاعب بالإعلام الذي يتوهّم أنه حرّ ونزيه، وكيف تحوّلت وسائل إعلامية تعتبر نفسها عريقة إلى أداة طيّعة في أيدي مخططهما العسكري الجهنمي غير المسبوق منذ الحرب العالمية الثانية والذي يستهدف العراق، وكيف اختفت المسافة بين إدارة المعركة العسكرية والمعركة الإعلامية.
يؤكد الكتاب أنّ الإعلام الغربي أصبح بالتدريج دعاية وبالأساليب والاستراتيجيات نفسها التي كان الغرب يعيبها في الماضي على نظام ألمانيا النازية، أما التغطية المحايدة للأخبار فقد تحوّلت إلى أداة دعائية تستفيد من دروس النازي الأساسية في ترويج الأكاذيب وفي شنّ حرب نفسية على الجمهور المحلي وعلى الرأي العام العالمي.
ويرصد الكتاب عدداً من الأكاذيب التي تمّ ترويجها بإتقان ثم كشفت لنا المعلومات بعد الحرب عن أنها عارية من الحقيقة. أبرز هذه الأكاذيب ما عُرف بقصة "جيسيكا" الجندية الأميركية البيضاء التي عمل الإعلام الأميركي على تحويلها إلى بطلة قومية من خلال ترويجه لسردية وقوعها في أسر القوات العراقية وتحريرها من قبل رفاقها في الجيش الأميركي، ليتبيّن أنّ هذا كلّه اختلاق وتزوير فاضح.
ويكشف الكتاب أيضاً عن التراث الطويل من التحيّز المتخفّي تحت رداء الحياد المزعوم في مؤسسات الإعلام البريطاني العريقة. وعن تاريخ النشاط التضليلي الذي مورس وخاصة من قبل هيئة الإذاعة البريطانية التي تجنّبت كلّ ما يدمغ المؤسسة الصهيونية خلال تغطية القضية الفلسطينية. وهنا مربط الفرس فيما له علاقة بتغطية عملية طوفان الأقصى والحرب الإسرائيلية التي لا تزال "إسرائيل" تشنّها ضد غزة.
كلّ هذا "التراث" من آليات الكذب المنظّم يوظّف اليوم في فلسطين. يعمل الأميركيون ومعهم الإسرائيليون لإغراق العالم بتسونامي من الكذب والتزوير والتضليل. ونشهد عملية إرهاف لذاكرة الجمهور التاريخية بشكل انتقائي وإخراج الحدث من سياقاته، وإغفال مقصود لكلّ ما تعرّض له الفلسطينيون من قتل وإبادة وتطهير عرقي وأسر وحصار وتدمير، والهدف خلق نوع من القبول أو "فبركة الإذعان" كما يدعوها تشوميسكي.
آخر ما تفتّق به العقل الغربي في عمليته الممنهجة لتكريس الكذب كسلاح فعّال في السياسة هو مفهوم "ما بعد الحقيقة" الذي اختاره قاموس أوكسفورد في العام 2016، ليضيفه إلى المعجم اللغوي الإنكليزي في دلالة على استمرار النزاع بين الحقيقة والسياسة في العالم، وخاصة الغربي منذ أفلاطون وحتى اليوم ووفق موازين قوى تميل لمصلحة الكذب بكل أسف.
هل نشهد تغيّراً ولو نسبياً في هذه الموازين مع طوفان الأقصى؟ الإجابة تحتاج إلى مزيد من الوقت لتتضح مسارات الأمور، مع التسليم بأن المعركة صعبة ومعقّدة.
فالعالم اليوم بمستوياته السياسية والإعلامية والإنسانية أمام تحدّي حسم هذا النزاع بين الحقيقة من جهة، والسياسة والقوة الغربيتين من جهة أخرى، أو على الأقلّ تحديد مساره. غزة اليوم هي المختبر الذي تتفاعل فيه هذه المعركة.
وإذا كانت آرنت في مقالتها "الحقيقة والسياسة" استشهدت بمثل لاتيني بعد تعديله ليقول "لتعلن الحقيقة وليهلك العالم" بدلاً من "لتحلّ العدالة وليهلك العالم" فإنّ ما نستطيع قوله اليوم هو أن مقاومة الصمت والتواطؤ تجاه ما يجري في غزة هو شرط ضروري لتحرير الأرض والإنسان.
لتعلن الحقيقة في غزة وليتحرّر العالم.
أضف تعليق