البوح الإسرائيلي بالخسائر الاقتصادية: الصدمة لم تأت بعد
على خلاف ما تفعله في الجانب العسكري، فإن "إسرائيل" لا تخفي رسمياً حجم الخسائر الاقتصادية التي تتكبدها من جراء عدوانها المستمر على قطاع غزة، وتداعياته المباشرة على جبهتَي شمال فلسطين المحتلة والضفة الغربية. وبحسب الأرقام المعلنة إلى الآن، والصادرة عن الحكومة الصهيونية، فإن التقديرات تشير إلى أن تكلفة الحرب على غزة قد تصل قيمتها إلى نحو 53 مليار دولار، موزعة على قطاعات عدة وبنود مختلفة.
البوح الإسرائيلي بتلك الأرقام الكبيرة لا ينطلق من ضوابط الشفافية والإفصاح التي يعتقد البعض أن المؤسسات الإسرائيلية تعمل بها، وإنما هي الرغبة السياسية في حشد الرأي العام الداخلي في الكيان الصهيوني خلف هذه الحرب، التي هي في نظر القادة الصهاينة خيار لا بد منه، وأياً كانت تكلفته.
ولاحقاً تهيئة هذا الرأي لتقبل الخسائر البشرية بين جنوده في الميدان، والتي تؤكد جميع المؤشرات أنها ستكون صادمة ليس فقط للداخل الإسرائيلي، وإنما للعالم. ثم إن كسب تأييد الحكومات الغربية ودعمها سياسياً واقتصادياً يحتاج إلى أرقام كبيرة للبناء عليها. لكن، هل التقديرات الإسرائيلية لحجم هذه الخسائر كانت دقيقة؟ وما هي الخسارة الاقتصادية المتحققة فعلاً؟
مفاجآت المقاومة
تمثل تقديرات الخسائر الاقتصادية إحدى الأدوات الرئيسية التي تستخدمها حكومة نتنياهو في إدارتها لهذه الحرب، ولذلك، ومهما اقتربت هذه التقديرات من الواقع، فإنها تبقى في جانب منها خاضعة لحسابات سياسية متعددة، تارة ذات بعد شخصي محوره سعي نتنياهو للتغلب على خصومه الكثر عبر مطالبته فتح "صنبور" دعم المنشآت والعاطلين من العمل، وتارة أخرى تكون ذات بُعد حكومي هدفه تشتيت انتباه الجمهور الإسرائيلي عن نتائج العدوان الكارثية، والتي يبدو أنها لا تصب في مصلحة ما أرادت حكومة نتنياهو تحقيقه.
لكن حسابات "حقل" الخسائر الاقتصادية لا يبدو أنها ستكون متطابقة مع حساب "بيدر" مفاجآت فصائل المقاومة وقصر نظر قادة الحرب، الأمر الذي يعني ببساطة أن الكيان الصهيوني سيكون بالفعل في مواجهة خسائر مهولة لم يكن يتوقعها أو بالأحرى خطط لها، وذلك للأسباب الآتية:
- إن جل اهتمام حكومة نتنياهو في حربها على قطاع غزة ينطلق من هاجس واحد يتمثل في محاولة تحقيق نصر عسكري يمسح صورة السابع من تشرين الأول/أكتوبر داخلياً وخارجياً، وينقذ نتنياهو من مغادرة منصبه باكراً والخضوع لمحاكمات طويلة بتهم الفساد وسوء الإدارة والمسؤولية عما حدث في السابع من تشرين الأول/أكتوبر. ولذلك، فالحكومة الإسرائيلية لا تعطي حالياً اهتماماً لـ "كرة ثلج" الخسائر الاقتصادية، التي تكبر وتتشعب يومياً.
- التقديرات الرسمية الإسرائيلية المتعلقة بالخسائر الاقتصادية، والمتداولة إعلامياً، صدرت قبل شهر ونيف تقريباً، وفي ضوء مستجدات العدوان الإسرائيلي وما يواجهه من مفاجآت كبيرة من فصائل المقاومة الفلسطينية، والتي وسعت تدريجياً من قائمة الأهداف الصهيونية، فضلاً عن إعلان القوات اليمنية استهداف السفن الإسرائيلية التي تعبر باب المندب، فإن هذه التقديرات ستكون بحاجة إلى إعادة تعديل شاملة وتحديث يومي تبعاً لمستجدات المعركة العسكرية. وبناءً على ذلك، فإن الخسائر ستكون أكثر مما توقعه الكيان وحاول الترويج له.
- فشل "الجيش" الصهيوني في تحقيق أي نصر عسكري، وعجزه عن حسم المعركة باكراً وفق ما كان مخططاً له، من شأنه أن يرفع من الكلفة الاقتصادية للعدوان إلى مستويات غير متوقعة ومرهقة جداً للاقتصاد الصهيوني على المديين المنظور والبعيد. فالمزيد من الشركات تغلق أبوابها، وأعداد طالبي معونة البطالة إلى ازدياد، وتكاليف الإنتاج والاستيراد ترتفع كل يوم، والهجرة تكثر، والاحتياطي إلى تراجع... إلخ.
الخسارة الممتدة زمنياً
الخسارة الاقتصادية الأقسى، والتي سترافق الكيان الصهيوني لسنوات طويلة، تتمثل في خسارة الكيان فرصة تضخيم المؤشرات والمكاسب الاقتصادية الإسرائيلية المتأتية من توسع دائرة التطبيع العربي بمختلف أشكاله وصوره المباشرة وغير المباشرة، وكذلك من المشروعات الإقليمية والدولية الساعية إلى إدراج "إسرائيل" كلاعب اقتصادي أساسي في المنطقة. والخسائر المرتبة على ضياع هذه الفرصة يمكن إيجاز ملامحها بالآتي:
- تأثر قيمة الصادرات الإسرائيلية المتجهة إلى أسواق الدول العربية المطبعة نتيجة الموقف الشعبي الغاضب من الجرائم والمجازر الإسرائيلية المرتكبة بحق الأطفال والنساء في قطاع غزة.
فالموقف الرسمي المتخاذل لبعض الأنظمة العربية لا يعني أن هذا هو موقف الشعب العربي في كل دولة وقطر عربي، لا بل يمكن القول إن مشاعر الغضب والكره للإسرائيليين قد تبدو أكبر في الدول المطبعة. وهذا ينسحب أيضاً على قيمة الاستثمارات المشتركة في ميادين ومجالات شتى.
- تزايد عدد الدول التي تتخذ إجراءات مقاطعة على خلفية استمرار العدوان الإسرائيلي، سواء بتجميد العلاقات السياسية والاقتصادية أو قطع العلاقات أو سحب السفراء، الأمر الذي ستكون له تبعات على التبادل التجاري للكيان مع دول العالم، وتالياً سيكون مضطراً إلى إعادة تغيير خريطته التجارية وما يحتاجه ذلك من وقت وجهد ومال.
- ارتفاع تكاليف الاستيراد والصادرات من حيث ارتفاع بدلات الشحن والتأمين لاضطرار الكيان إلى تحويل تجارته الخارجية بعيداً من البحر الأحمر وباب المندب في ظل استهداف القوات اليمنية للسفن الإسرائيلية أو تلك التي تتجه نحو ميناء أم الرشراش الفلسطيني والمسمى صهيونياً بـ"إيلات". الأمر الذي سوف يرتب أعباء طويلة الأمد على الاقتصاد الصهيوني، ويؤثر في الاستثمارات الأجنبية في الكيان.
- تعثر المشروعات الإقليمية والدولية الساعية منذ سنوات طويلة لتحويل التجارة الشرق المتوسطية من المرافئ السورية واللبنانية والتركية إلى الموانئ الصهيونية، سواء عبر مشروع "الممر العظيم" الذي أطلق منذ أشهر قليلة لربط الهند بأوروبا، أو عبر إخراج الأراضي السورية من تجارة الترانزيت المتجهة من أوروبا وتركيا إلى الخليج، وبالعكس. وهذه مشاريع كان يمكن لها أن تنجح في ضوء الانخراط العربي في مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني.
- الخسائر المترتبة على ضياع فرص اقتصادية كان يمثلها السيناريو الاستمراري للاقتصاد الصهيوني فيما لو لم تقع الحرب. وهذه الفرص كانت متعددة في ضوء عوامل ومتغيرات مساعدة إقليمياً ودولياً.
لكن عملية "طوفان الأقصى" وما تبعها من عدوان إسرائيلي نازي على قطاع غزة أبقيا الاقتصاد الصهيوني ولسنوات قادمة في خانة التأزم والعسكرة وعدم الثقة. وهذا النوع من الخسائر عادة ما يقاس من خلال الخسارة المتحققة في تقديرات الناتج الإجمالي في حالة عدم وقوع الحرب، لكن عملياً أثر هذا النوع من الخسائر على السكان يبقى الأشد وطأة.
- الخسائر التي لا تزال بعيدة عن الرصد، والمتمثلة بقيمة المعدات العسكرية التي تعرضت للتدمير من جانب فصائل المقاومة، ولا شك أنها كبيرة جداً بالنظر إلى المشاهد شبه اليومية التي تبثها فصائل المقاومة حول استهداف العربات والدبابات والجرافات الإسرائيلية، أو لنختصر هذا النوع من الخسائر بالإشارة إلى قيمة الإنفاق العسكري من داخل الموازنة وخارجها.
ليست مجرد رغبة
الفشل في تحقيق نصر عسكري في قطاع غزة لا يزال يغطي على بصر المسؤولين الإسرائيليين، وطريقة تعاطيهم مع تداعيات الإصرار على استمرار العدوان على قطاع غزة.
وهي تداعيات تشمل جميع قطاعات الحياة العامة في مدن الكيان. ولذلك، فإن كل ما يقال عن قيمة الفاتورة الاقتصادية لهذا العدوان يبدو قليلاً مع مرور كل يوم.
وهذا ليس من منطلق "رغبوي" بحكم الموقف من هذا العدوان، بل لأن كل الوقائع والحقائق تؤكد ذلك.
أضف تعليق