25 تشرين الثاني 2024 الساعة 10:36

"عبوة العمل الفدائي"... إلى عهد جديد

2023-11-23 عدد القراءات : 477

 تشرّع حرب "طوفان الأقصى" الأبواب مجدداً لإبراز بطولات الفلسطينيين وتضحياتهم، منذ الطلقات الأولى وصولاً إلى تسطيرهم ملحمة لعلّها الأعظم في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي.

في هذه المعركة، وقبلها، رسّخت المقاومة في لغتها رفع سير قادتها ومقاتليها الشهداء الذين قضوا على طريق القدس، ما يجعل أسماءهم حاضرة دوماً في المعارك كلها. للأمر رمزية عالية، بجانب ترسيخ إرث المقاتلين الأوّل وأثرهم المهم في المعركة وما يتبعها.

في حرب العصف المأكول (2014)، وفي يوم من أيام اشتداد المواجهات بين المقاومة و"الجيش" الإسرائيلي، خرج الشهيد باسم الآغا من أحد أنفاق بلدة القرارة شمال شرق خان يونس خلف خطوط العدو. تقدم إلى إحدى الآليات المتوغلة، وبعد بلوغه المسافة صفر، وضع عبوة كانت قيد التجريب على باب الدبابة الخلفي، أحد أبرز نقاط الضعف في الدبابة.

لم تلتصق العبوة. حاول مرةً أخرى، دون أن تلتصق أيضاً. فحملها بيديه ووجّهها على باب الدبابة ليفجر نفسه بها، ويرتقي شهيداً مع تدميره آلية الاحتلال وقتله الجنود داخلها.

بعد هذه العملية، أطلقت المقاومة على الناتج "عبوة العمل الفدائي". بضعةٌ من فقراء هذا الشرق، راكموا التجربة وجرى تطويرها وصولاً إلى اللحظة التي عُرض فيها على الشاشة. في العدوان الجاري، ظهر أحد مقاومي "القسام" وهو يتقدم إلى الدبابة حتى المسافة الصفر، واضعاً العبوة بنسختها الجديدة بين البرج وجسم الدبابة، قبل أن يعاود استهدافها بقذيفة "الياسين 105".

بعدها، وفي كلمته يوم 31 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أعلن أبو عبيدة، المتحدث باسم "كتائب القسام"، دخول عبوات "العمل الفدائي" في الخدمة، مؤكداً أنها استخدمت خلال "طوفان الأقصى" لأول مرة.

العمل من المسافة الصفر له "أسطورته" وهو الشهيد عماد عقل، الذي كان منظّر فكرة الالتحام من مسافة معدومة، ووصف الأسطورة يعود إلى الرئيس الإسرائيلي السابق إسحاق رابين.

نحت الشهيد وكرّس استراتيجيات العمل المقاوم وفق هذه القاعدة. ونفذ أوائل التسعينات عشرات العمليات التي تعتمد معظمها النظرية نفسها، وقتل بها 15 جندياً، إلى أن استشهد في حي الشجاعية شمالي قطاع غزّة عام 1993 بعد اشتباك تلّقى جسده فيه 7 طلقات.

أمّا مسار العبوات، فبدأ منذ زمن بعيد مع الشهيد يحيى عياش الذي أرّخ لمحطة فارقة في تاريخ مقاومة الشعب الفلسطيني.

خلال أوائل التسعينيات، هندس عياش التفجيرات الأهم لـ"كتائب القسام"، وبعدها صار المطلوب رقم واحد لدى كيان الاحتلال.

آنذاك، ومع أزمة شُح الإمكانات المتوفرة، وندرة المواد المتفجرة، ابتكر عياش، ذو الألف وجه وفق وصف الاحتلال، نموذج "الحقائب المتفجرة"، وباتت "مشكلة" منذ أنتجها وعقدةً يصعب حلّها، بل تفوق خطورتها تفجيرات السيارات الملغومة بالنسبة إلى الاحتلال.

فحم وسماد وكبريت ولوازم كهربائية بسيطة... من هذه المواد الأولية انطلق "المهندس" وهو يكوّن خليط الانفجار، مستفيداً من رجاحة عقله، ومخزونه العلمي في كلية الهندسة (قسم كهرباء) بجامعة بيرزيت، لتمكين المقاومة من امتلاك أولى أسلحتها التفجيرية.

سنوات الانتفاضة مع عياش أخرجت المقاومة من "الحجارة" إلى "العبوات"، وتطورت تدريجياً إلى سيارات ملغومة أيضاً وعمليات استشهادية. وسائل هزّت قدرات الأمن الإسرائيلي ووضعته في دوامة لم يختبرها سابقاً.

تجارب أولى وثانية ولا تنتهي... جعلت عياش مطلوباً بأي طريقة ليرتقي عام 1996 بعد ملاحقة طويلة، ومن جهة أخرى شكّل نقلة نوعية أوصلتنا إلى يوم بتنا نرى فيه "عبوة العمل الفدائي" عنواناً للصراع المتقدم اليوم على الجبهات.

هو إرث ثقيل تركه عياش خلفه إلى أن وصل أبناؤه مرحلة صناعة عبوة محلية أسطوانية الشكل توضع على الهدف مباشرةً، وينزع المقاتل الصاعق عنها بعد تثبيتها على الهدف. كل هذا راكمه فقراء المقاومة المحاصرون في غزة، جيلاً تلو جيل؛ مراكمة تفعّلت ونجحت مقابل أعتى قوّة تكنولوجية في المنطقة.

من عياش إلى يوم التوغل البري للاحتلال في قطاع غزة عام 2014، تطورت المقاومة في مجالها الدفاعي، ونشرت عبوات محولةً خطوط التقدم الإسرائيلي أحزمة نارية وكمائن معدة مسبقاً.

وفي المعركة الحالية، أدخلت عبوة العمل الفدائي، ومعها الياسين 105 مفهوم المقاومة في مجتمعنا العربي إلى مدى تاريخي جديد.

أسلحة فعالة، وقدرات بشرية هائلة، وإقدام يواجه قساوة الحرب وخلوها من أي تكافؤ. هم مقاتلون يؤمنون بما أرخه عماد عقل ذات ليلة: "سنقرع أبواب الجنة بجماجم الصهاينة".

أضف تعليق