رسالة مفتوحة إلى الإخوة في حركة فتح... الآن وهنا
كنتم أول الرصاص، فانتزعتم جدارة الريادة والقيادة.
وكنتم أول الحجارة، فبنيتم مجداً على مجد.
قدمتم قوافل الشهداء، قادة وكوادر ومناضلين، الذين أناروا طريق الحرية والاستقلال وتقرير المصير، ورسموا معالم مشواره الصعب والأليم والمكلف.
لن ينسى لكم شعبكم، أبد الدهر، أنكم من أيقظ هويته الوطنية، واستعادها بعد شتات وتغييب. لن ينسى لكم كفاحكم لصون قراره المستقل. لن ينسى لكم إصراركم على انتزاع حقه في أن يكون له "ممثل شرعي وحيد"، بخلاف حال شعوب أخرى، كانت عرضة للتبديد والتشتيت والتهجير والتقسيم والتقاسم.
نستحضر ذلك كله، لا في معرض الوقوف على أطلال "مجد تليد"... فنحن نؤمن بأن مكتسبات شعب فلسطين، التي كان لكم ولإخوانكم من فصائل العمل الوطني الفلسطيني، شرف تسطيرها بالدم والعرَق والتضحيات، باقية ومتجذرة في الأرض وفي العقول والقلوب والضمائر... ولا في معرض التهوين من دوركم الراهن، والأهم مما قد يكون عليه هذا الدور، حين تستيقظ فتح، وتخرج من ركودها "البريجنيفي"، وتتخلص من ذيول أوسلو وقيود سلطته وأعبائها، والتي تدفعون اليوم، أثماناً باهظة لها.
ودعونا نتحدث بصراحة، والقليل منها ينفع ولا يضر، ولاسيما إن صدرت عمّن يشاطركم وإخوانكم في العمل الوطني، المرجعية الوطنية – الديمقراطية – المدنية – اليسارية، ويرى في استنهاض فتح واسترداد مكانتها ودورها، مصلحة وطنية عامة، بل ضرورة حيوية ضاغطة، لشعب لم يبخل على مقاومته، من قبلُ ومن بعدُ، بعشرات ألوف الشهداء، ومئات ألوف الجرحى والأسرى والمصابين.
أما بعد
أولاً، لا يختلف اثنان في أن فتح اليوم، ليست فتح الأمس، بعد أن تعرضت كبرى فصائل العمل الوطني الفلسطيني لأوسع عمليات التجريف والتجويف، وخصوصاً في العقدين الفائتين، ولا سيما بعد الانتفاضة الثانية، وهندسات طوني بلير وكيت دايتون، وانخراط السلطة في مشاريع وهمية بدعوى "بناء الدولة تحت جلد الاحتلال"، ومندرجات التنسيق الأمني، وأن مواقف كادرها وقيادتها ومواقعها تراوح بين أعلى درجات البطولة والشهادة عند بعض "خطوط التماس"، وأبشع أشكال الاتساق والتساوق مع المشاريع المشبوهة، والرامية إلى تحويل السلطة إلى "وكيل أمني" لـ"إسرائيل"، بل يراد لها أن تصبح "ذراعاً أيديولوجيةً" له، ومنطقة عازلة بين الشعب والاحتلال. ولديكم ولدينا ركام هائل من المعلومات والتصريحات في هذا الصدد، مرت، وتمر، من دون مقاومة فتحاوية تذكر.
ثانياً، على رغم الزلزال الذي استحدثته كتائب القسام في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، فإن الانقسام، في عقليته، وديناميته ومعادلاته، ما زال يهيمن على تفكير تيار فتحاوي عريض، تغيب عنه، حقيقة، مفادها أن ما يجري في غزة وعند حوافها هو المعركة "الفاصلة"، بل "أم المعارك"، وأن فلسطين، شعباً وقضية وحقوقاً، هي التي يجري استهدافها، وأن السلطة، على رغم سكينتها وسكونها، ليست خارج دائرة الاستهداف هذه، وأن "المعادلة الصفرية"، التي حكمت العلاقة بين طرفي الانقسام، والتي كانت مدمِّرة من قبل، هي اليوم أشد تدميراً، وربما تتحول إلى "ثقب أسود كبير" يبتلع هذا الفصل المجيد من مقاومة شعب فلسطين، ويهدد بالزوال والتبديد الفرصةَ التاريخية النادرة في استحداث الانقلاب في معادلات المواجهة مع الاحتلال والاستيطان والعنصرية.
لم نرَ كثيرين ينبرون إلى تقديم معادلة "رابح – رابح". لم نرَ مبادرات من شأنها تعزيز وحدة الصف في الميدان. لم نسمع بشأن اتصال واحد، مجرد اتصال هاتفي، بقيادة حماس... هذه ليست فتح التي نعرفها، وهذا ليس من إرثها... والمؤسف أن كل ذلك كان يجري أمام ناظرينا جميعاً، من دون نسمع صيحة اعتراض أو احتجاج.
ثالثاً، رأينا مواقع قيادية في السلطة، وجميعها محسوبة على حركة فتح، تتحدث بهمس "مسموع" عن استعدادها للانخراط في مشاريع "ما بعد حماس"، في الوقت الذي تحفّظت فيه عواصم عربية، بما فيها تلك التي تقيم "سلاماً" مع إسرائيل، عن الدخول في بحث من هذا النوع، قبل أن تضع الحرب أوزارها، وهو ما استحق "الثناء" على هذه المواقع القيادية الفتحاوية من جانب بلينكن ورسل الموت الأميركيين إلى المنطقة، وأثار الخشية من ترتيبات ستضع المشهد الفلسطيني الداخلي في أتون انقسام، قد يتطور، لا سمح الله، إلى "حرب تصفيات واغتيالات"، ما إن تضع الحرب أوزارها.
رابعاً، إلى جانب الثناء الأميركي على الرسائل الصريحة والمشفرة بشأن الاستعداد للدخول المبكر في بحث مرحلة "ما بعد الحرب"، أو بالأحرى "ما بعد حماس والمقاومة"، ثمة تثمين أمريكي أيضاً: للدور الذي قامت به السلطة لمنع اشتعال جبهة الضفة الغربية، في الوقت الذي كانت أنظار شعب فلسطين ترنو إلى فتح هذه الجبهة.
وبدلاً من من صبّ الجهد كله في إشعال غضب الضفة، رأينا بعضهم يأخذ على حزب الله تقصيره في فتح جبهة الشمال، ويُمطره بوابل من الاتهامات والانتقادات الساخرة والجدية، ولم نرَ غيرة على فتح جبهة الشرق، جبهة الضفة الغربية. ولولا أن الضفة الغربية كانت تمرست في مقاومة الاحتلال، وتحديداً في العامين المنصرمين، وبالضد من إرادة السلطة ورغبتها، لكان الموقف أقرب إلى الفضيحة المدوّية. رأينا عملية إشغال مقصودة في معارك هامسة، تارة ضد إيران ومحورها، وأخرى ضد تركيا وقطر و"جزيرتها"، ودائماً من أجل إبراء الذمة، وتبرير القعود، وتسويغ الترقب والانتظار.
خامساً، لم يحرك زلزال السابع من تشرين الأول/أكتوبر أيّ رغبة لدى السلطة، التي تتولون قيادتها، وأنتم المسؤولون عن خيرها وشرها، في إطلاق مبادرات تاريخية تليق باللحظة التاريخية وترقى إلى مستوياتها. لم نرَ مشاريع وأفكاراً تتبلور، بل حالة انتظار لما يطرحه الآخرون... "إسرائيل" لديها مشروعها، وواشنطن تتحرك بمشاريع وسيناريوهات تتطاير هنا وهناك، بينما "الصمت" صار مشروعاً، مشفوعاً بإبداء الاستعداد لوصل ما انقطع من مسار عملية السلام و"حل الدولتين".
وأشاحت السلطة بوجهها عن النداءات لترميم البيت الفلسطيني الداخلي على عجل، ميدانياً على الأقل، أشاحت بنظرها عن الإقدام، من دون إبطاء، على إحياء فكرة الإطار القيادي الموقت والطارئ، ليتولى الحديث باسم الفلسطينيين، وأصرت على قول "كلمة حق أرادت بها باطلاً": منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد، من أجل إبعاد حماس وإخراجها، علماً بأن السلطة، واستتباعاً، فتح، هما من ألحق أفدح الضرر بالمكانة التمثيلية للمنظمة، أقله من زاوية نظر شعبها، الذي تدّعي منظمة التحرير تمثيله.
ولكم كان حرياً بفتح أن تقود مبادرة إلى جمع الصف، وتشكيل قيادة انتقالية موقتة للمنظمة، من الكل الفلسطيني، لاجتياز هذه المحطة التاريخية، على نحو يعظّم مكاسب شعبها وقضيته الوطنية، في انتظار أن تصمت المدافع، ليصار بعدها، بعدها فقط، إلى إعادة بناء المنظومة السياسية الفلسطينية، ودائماً بالاستناد إلى صناديق الاقتراع. ولْيَفُزْ حينها من يختاره الشعب بحرية وطواعية.
سادسا، باتت المنظمة "متراساً" تتلطى خلفه قيادة فتح والسلطة والمنظمة على حد سواء، لا تفعل شيئاً، وممنوع على الآخرين فعل شيء في المقابل، بحجة عدم تجاوز المؤسسات والصفة التمثيلية.
باتت المنظمة أداة لتهميش "الآخر"، و"الشريك في الوطن"، وإبعاده، بدلاً من أن تكون المظلة الجامعة، ووطن الفلسطينيين جميعاً، إلى أن يتحرر وطنهم. قد يقول قائلكم إن حماس أخذت على عاتقها منفردة قرار الحرب، فلماذا نتحمل أوزاره. وهنا، لا بد من وقفة مع الذات قبل الآخرين: هل كانت قيادة السلطة لتوافق حماس على قرار الحرب؟
هل كانت حماس لتطمئن إلى أن "سرها سيبقى في بئر عميقة"، وأنه لن ينتقل إلى العدو، بعد دقائق وليس ساعات؟ هل أبدت قيادة السلطة والمنظمة الاستعداد يوماً للشراكة في "قرار السياسة والسلام" حتى يُشرككم الآخرون في قرار الحرب والقتال. دعونا من حماس. مَنْ مِنْ فصائل العمل الوطني الفلسطيني يشعر بأنه شريك في قراركم؟ هل ثمة "شراكة" في قيادة السلطة والمنظمة، أم أن القرار متروك لنفر من الأفراد، لا يزيدون عن قبضة اليد الواحدة، يمسكون تلابيب القرارات السياسية والأمنية والمالية وغيرها.
هل تعتقدون أن حماس، بكل ما تمثل، ترتضي لنفسها وحجمها أن تتساوى مع "الفصائل الديكورية"، "كمالة العدد"، والتي توزعت أنصافاً وأرباعاً بين رام الله وغزة ودمشق؟ هل ترتضي حماس، والجهاد، أن يكونا "شاهدَي زور" في مؤسسات السلطة والمنظمة، وهل ترتضي قيادة السلطة والمنظمة، لحماس والجهاد
غير هذا الدور. قليل من الصراحة والصدق مع النفس يساعد على وضع الإصبع على الجرح.
سابعاً، إن لم تغتنم فتح هذه الفرصة التاريخية النادرة، للنهضة والاستنهاض، والعودة إلى مسارها الأصيل، كحركة تحرر وطني، وتنفض عن نفسها غبار السلطة والتنسيق الأمني، وتُعيد إلى كوادرها وقواعدها صورة الحركة الطليعية المقاتلة، فإنها حتماً ستحتل مكانتها في قائمة "الخاسرين" في "طوفان الأقصى"، من دون أن تشفق عليها "سيوف نتنياهو الحديدية".
نافذة الفرص ضيقة للغاية، وساعة الرمل تكاد تُفرغ ما في جوفها، فإما الآن، وهنا، وإمّا مواجهة مصير دزينة من الأحزاب العربية الحاكمة، وبعضها قاد شعبه وبلاده إلى ضفاف الحرية والاستقلال، وملأ الأرض والفضاء ذات زمان ومرحلة. أقول ذلك، والتشاؤم يخيّم على كلماتي، ولا سيما بعد أن جوبهتُ بكثير من التعليقات الأكثر تشاؤماً وتشككاً، من أصدقاء وإخوان، وأنا أحدثهم في الأمر، أختصرها بكلمات المثل الشعبي القائل: "لو بدها تشتي غيّمت".
ثامناً، لكنني، على رغم ذلك، لم أستنفد طاقة الأمل والرجاء، ربما بسبب تفكير رغائبي، يعتمل في صدري وعقلي، وأميل أحياناً إلى "تمديد" نافذة الفرص المتاحة لاستدراك ما يمكن إدراكه. وثمة رهان دفين على نجاح حماس في إتمام صفقة تبادل أسرى شاملة، يتحرر بنتيجتها المناضل القائد مروان البرغوثي، الذي تنعقد عليه الآمال بشأن استنهاض فتح واستردادها، وإنهاء الانقسام ولملمة الصف الفلسطيني.
فهل يصدق هذا الرهان المعلق على شرط، وهل يسجل التاريخ واحدة من مفارقاته الكثيرة، والساخرة أحياناً: إن حماس قدمت أكبر هدية إلى فتح، وأنها هي من فتح لها مسار التعافي بعد أعوام طوال من "الركود البريجنيفي".
أضف تعليق