"غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" في النيجر ومالي.. رحلة ابن بطوطة في مجاهل الصحراء الكبرى
غزة(الاتجاه الديمقراطي)
رغم أنه زار معظم أنحاء المعمورة المعروفة في زمنه خلال رحلته إلى الحج التي استمرت 27 عاما، فإن رحلة ابن بطوطة الأفريقية في الصحراء الكبرى تعد واحدة من أخطر وأصعب الرحلات التي سجلها الرحّالة العربي الأشهر في التاريخ وكاد أن يفقد خلالها حياته مرات عدة، لكنه عاد إلى المغرب بعدها ليدوّن كتابه، ويصف الممالك الإسلامية في غرب أفريقيا والحياة الثقافية المزدهرة بها في العصور الوسطى.
ففي منتصف القرن الرابع عشر الميلادي (منتصف القرن الثامن الهجري)، تجهز ابن بطوطة للرحلة الشاقة بعد أن كان قد طاف بأنحاء المعمورة بما في ذلك شمال أفريقيا ومصر والشام والعراق وفارس والصومال والشرق الأقصى والصين والهند، واكتسب خلال رحلاته خبرات أفادته كثيرا في رحلته الأصعب.
سافر ابن بطوطة من مراكش إلى سلا، ثم إلى مدينة "مكناسة العجيبة الخضرة النضرة ذات البساتين والجنات.. ثم وصلنا إلى حضرة فاس حرسها الله تعالى" ومنها إلى مدينة سجلماسة "وهي من أحسن المدن وبها التمر الكثير الطيب وتشبهها البصرة في كثرة التمر لكن تمر سجلماسة أطيب ونصف إيرار منه لا نظير له في البلاد"، وهناك اشترى جمال الرحلة وتجهّز جيدا، وقام بتسمين الجمال لمدة 4 أشهر قبل أن ينطلق مع قافلة من الجمال مواجها مجموعة من التحديات، أولها كان الأمان في الصحراء المليئة بقطّاع الطرق واللصوص والقتلة.
ولحسن حظ ابن بطوطة، صادفت رحلته تحول قبائل صحراوية من لصوص إلى حماة القوافل بمقابل متفق عليه، وكانت قبيلة المسوفة من قبائل صنهاجة (واحدة من أكبر القبائل الأمازيغية) هي حماة القافلة، وكان حراسها وقادة القافلة وأدلتها من هذه القبيلة التي كان ابن بطوطة ومرافقوه في القافلة مجبرين على الوثوق بهم بدلا من الوقوع في أيديهم.
اكتشاف الصحراء بدءا بالنيجر
وصلت القافلة بعد 25 يوما إلى "تغازي"، وهي قرية في مارادي بالنيجر الحالية، ولاحظ أن مساجدها ومنازلها مبنية من ألواح الملح الصخري ومسقوفة بجلد الإبل وليس هناك أشجار لأن التربة رملية، لكن مناجم الملح التي تم حفرها جعلت المنطقة مركزا اقتصاديا يتبادل فيه الناس قطع الملح كنقود تستبدل بالذهب والفضة.
لكنه لم يبق فيها إلا 10 أيام لأن مياهها كانت مرة ومالحة، وكان الذباب منتشرا فيها، لكنه ذكر أن الكمأة فيها كثيرة، وفيها أيضا القمل الذي يمنعه الناس بالزئبق، ورحل منها إلى واحة "تاساراهلا" لمدة 3 أيام تحضيرا للرحلة الكبرى عبر الصحراء الشاسعة التي شكلت الطريق التجاري القديم الذي يمر عبر أرض صخرية كانت عرضة للاختفاء تحت جبال الرمال.
وكان في القافلة تاجر تلمساني (من تلمسان الجزائرية) يعرف بالحاج زيان، ومن عادته أن يقبض على الحيات ويعبث بها فأصابته واحدة منها وقطع يده لمنع انتشار السم، ثم وصل إلى مدينة "إيو الأتن" بعد سفر شهرين كاملين من سجلماسة، وهجا ابن بطوطة مشرف تلك المدينة لأنه لم يضيّف القافلة إلا بطعام قليل، لكنه أقام بها 50 يوما، ومدح أهلها الكرماء، وقال إن "ثياب أهلها حسان مصرية، ولنسائها الجمال الفائق وهن أعظم شأنا من الرجال".
وبعد مسيرة 10 أيام من "إيو الأتن" وصلت القافلة لقرية زاغري، وهي قرية كبيرة يسكنها تجار السودان، ومنها بمحاذاة النهر إلى كارسخو وكابرة ثم زاغة (ولكابرة وزاغة سلطانان يؤديان الطاعة لملك مالي) وأهل زاغة قدماء في الإسلام لهم ديانة وطلب للعلم، ومنها طريق طويل عبر الصحراء إلى بلاد السودان.
ولاتة الموريتانية المزدهرة
وبالطبع كانت هناك مشكلة المياه الدائمة، فالعطش الشديد سمة الرحلات الصحراوية، وكانت القافلة ترسل أحيانا بعض الحراس لجلب المياه من الواحات القريبة إذا تسنى نقل كمية كبيرة في حاويات المياه المصنوعة من جلد الماعز، وكانت القافلة قد أرسلت كشافا ليجلب لها الماء في الطريق من واحة تاساراهلا إلى ولاتة، وهي مدينة تاريخية موريتانية قرب حدود موريتانيا ومالي الحالية.
وهناك أيضا البراغيث الموجودة في كل مكان، ويلجأ ركاب القافلة لارتداء حبال منقوعة في الزئبق حول الرقبة لطردها، كما أن هناك أحيانا جثثا متعفنة حول الآبار والخيام الصحراوية تجلب الذباب، وبالطبع توجد الأفاعي التي تقتل كثيرين.
وعرفت ولاتة بوصفها مركزا تجاريا للقوافل المتجهة لشمال أفريقيا ووصفها ابن بطوطة بالغنى والرخاء في عهده، وفي القرون التالية وخاصة في القرن 16، أصبحت مركزا ثقافيا صحراويا كبيرا بعد أن هاجر إليها علماء تمبكتو المضطربة آنذاك، وكذلك شخصيات ثقافية من فاس وتلمسان ومراكش وحتى أندلسيين أمدّوا المدينة بإشعاع ثقافي متنوع وجعلوها منارة علمية للفقه المالكي في الصحراء الجدباء.
عبر النهر إلى مالي
ومن ولاتة رحل ابن بطوطة جنوبا بمحاذاة نهر النيجر (سماه العرب نيل السودان أو نهر الأنهر)، حتى وصل لعاصمة مالي التي كانت إمبراطورية قوية ومزدهرة، وهناك التقى مانسا (السلطان) سليمان شقيق مانسا موسى أو الملك الذهبي الذي بلغت الإمبراطورية في عهده أوج قوتها من ساحل المحيط الأطلنطي غربا إلى نهر النيجر شرقا، ومن بين ذلك مناجم الذهب في غينيا التي جعلت الإمبراطورية شديدة الثراء.
أسس هذه السلطنة شعب "الماندنجوه" -ومعناها "المتكلمون" بلغة الماندي- وكانت إحدى الحضارات الأفريقية المزدهرة بين القرنين 13 و16، واعتنق ملوك كانجابا الذين أسسوها الإسلام وانتصروا على ملوك كانياجا المنافسين لهم، لتتسع حدود دولتهم وتضم عديدا من مدن السودان الكبير (تسمية تاريخية تطلق على جنوب منطقة الساحل الأفريقي وتشمل أجزاء من السنغال ومالي وبوركينا فاسو والنيجر ونيجيريا وتشاد والسودان وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى وأثيوبيا)، وسيطرت مملكة مالي على مصادر الثروة، وأهمها الذهب والملح والنحاس، وتصبح ملتقى القوافل التجارية عبر الصحراء الأفريقية بين شرق وغرب وشمال القارة.
مدن مالي الغنية
ورغم ازدهار سلطنة مالي ومجلس السلطان العامر بالأمراء والفقهاء والقاضي والخطيب كما وصف ابن بطوطة، فقد أحزنه عطاء و"ضيافة السلطان التافهة" إذ أهداه 3 أقراص من الخبز ولحما بقريا ولبنا في قماش.
لكن السلطنة تعرضت لمظاهر الضعف بعد السلطان الذهبي مانسا موسى، وقتل الوباء الكثير من الناس، واشتكى ابن بطوطة من تجاهل السلطان له وعدم الإحسان إليه لمدة شهرين حتى دخل رمضان، فعزم على زيارته، وقال له "إني سافرت لبلاد الدنيا ولقيت ملوكها، ولي ببلادك 4 أشهر، ولم تضيفني، ولا أعطيتني شيئا. فماذا أقول عنك عند السلاطين؟ فقال: إني لم أرك ولا علمت بك، فقام القاضي وابن الفقيه فردا عليه، وقالا: إنه قد سلم عليك، وبعثت إليه الطعام، فأمر لي عند ذلك بدار أنزل بها، ونفقة تجري علي، ثم فرق على القاضي والخطيب والفقهاء مالا، ليلة 27 من رمضان، وأعطاني معهم 33 مثقالا وثلثا، وأحسن إلي عند سفري بـ100 مثقال ذهبا".
وقال ابن بطوطة "اتفق في أيام إقامتي بمالي أن السلطان غضب على زوجته الكبرى بنت عمه المدعوة بقاسا (الملكة) وهي شريكته في الملك على عادة تلك البلاد، ويذكر اسمها على المنبر مع اسمه، وسجنها وولى في مكانها زوجته الأخرى بنجو، ولم تكن من بنات الملوك، فأكثر الناس الكلام في ذلك وأنكروا فعله"، ثم أطلق السلطان سراح زوجته الكبرى وأشهد الناس عليها رغم أنها أقرت بتآمرها مع ابن عم السلطان لخلع زوجها عن ملكه.
واستحسن ابن بطوطة من أهل تلك البلاد قلة الظلم فيهم، ووصف الأمن والعدل في مملكة مالي، معتبرا أن سلطانهم لا يتسامح في الظلم، وقال "لا يخاف المسافر فيها ولا المقيم من سارق ولا غاصب، ومنها عدم تعرضهم لمال من يموت ببلادهم ولو كان القناطير المقنطرة، ومنها مواظبتهم للصلوات والتزامهم لها في الجماعات، وحفظ القرآن العظيم".
لكنه أنكر عليهم ما وصفه من أن بعض النساء وخاصة الإماء والجواري كن يتجولن عاريات في الشوارع، وأنكر على بعضهم كذلك أكل الجيف والكلاب والحمير، وبعد أن غادر العاصمة اتجه مع تاجر مالي إلى تمبكتو التي لم تكن اكتسبت شهرتها الواسعة حتى ذلك الحين.
ورحل بعدها إلى غاو شمال شرق مالي الحالية التي كانت مركزا اقتصاديا مهما كذلك، وانطلق بعدها مع قافلة متجهة إلى واحة تاكيدا، لكن سلطان المغرب أبو عنان فارس المريني أرسل يستدعيه فعاد من رحلاته عام 1354.
وأوصاه السلطان بعد عودته أن يدوّن رحلاته، فأملى كتابه على محمد بن جزي الكلبي بمدينة فاس وسماه "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، وفيه وصف أسفاره ورحلاته ودوّن ما شاهده.
وتكاد رحلة الصحراء الأفريقية أن تكون خاتمة رحلات ابن بطوطة الكبرى، فبعد السفر لما يقرب من 120 ألف كيلومتر قطعها بين قارات وبلدان العالم، غامر باستكشاف مجاهل الصحراء الأفريقية وتأثر بها وهو يدوّن رحلاته بأكملها بعد عودته إلى المغرب أخيرا، ليتحقق ما قاله عن نفسه في مخطوطته الشهيرة "بلغت بحمد الله مرادي في الدنيا وهو السيّاحة في الأرض، وبلغت من ذلك ما لم يبلغه غيري فيما أعلمه".
رغم أنه زار معظم أنحاء المعمورة المعروفة في زمنه خلال رحلته إلى الحج التي استمرت 27 عاما، فإن رحلة ابن بطوطة الأفريقية في الصحراء الكبرى تعد واحدة من أخطر وأصعب الرحلات التي سجلها الرحّالة العربي الأشهر في التاريخ وكاد أن يفقد خلالها حياته مرات عدة، لكنه عاد إلى المغرب بعدها ليدوّن كتابه، ويصف الممالك الإسلامية في غرب أفريقيا والحياة الثقافية المزدهرة بها في العصور الوسطى.
ففي منتصف القرن الرابع عشر الميلادي (منتصف القرن الثامن الهجري)، تجهز ابن بطوطة للرحلة الشاقة بعد أن كان قد طاف بأنحاء المعمورة بما في ذلك شمال أفريقيا ومصر والشام والعراق وفارس والصومال والشرق الأقصى والصين والهند، واكتسب خلال رحلاته خبرات أفادته كثيرا في رحلته الأصعب.
سافر ابن بطوطة من مراكش إلى سلا، ثم إلى مدينة "مكناسة العجيبة الخضرة النضرة ذات البساتين والجنات.. ثم وصلنا إلى حضرة فاس حرسها الله تعالى" ومنها إلى مدينة سجلماسة "وهي من أحسن المدن وبها التمر الكثير الطيب وتشبهها البصرة في كثرة التمر لكن تمر سجلماسة أطيب ونصف إيرار منه لا نظير له في البلاد"، وهناك اشترى جمال الرحلة وتجهّز جيدا، وقام بتسمين الجمال لمدة 4 أشهر قبل أن ينطلق مع قافلة من الجمال مواجها مجموعة من التحديات، أولها كان الأمان في الصحراء المليئة بقطّاع الطرق واللصوص والقتلة.
ولحسن حظ ابن بطوطة، صادفت رحلته تحول قبائل صحراوية من لصوص إلى حماة القوافل بمقابل متفق عليه، وكانت قبيلة المسوفة من قبائل صنهاجة (واحدة من أكبر القبائل الأمازيغية) هي حماة القافلة، وكان حراسها وقادة القافلة وأدلتها من هذه القبيلة التي كان ابن بطوطة ومرافقوه في القافلة مجبرين على الوثوق بهم بدلا من الوقوع في أيديهم.
اكتشاف الصحراء بدءا بالنيجر
وصلت القافلة بعد 25 يوما إلى "تغازي"، وهي قرية في مارادي بالنيجر الحالية، ولاحظ أن مساجدها ومنازلها مبنية من ألواح الملح الصخري ومسقوفة بجلد الإبل وليس هناك أشجار لأن التربة رملية، لكن مناجم الملح التي تم حفرها جعلت المنطقة مركزا اقتصاديا يتبادل فيه الناس قطع الملح كنقود تستبدل بالذهب والفضة.
لكنه لم يبق فيها إلا 10 أيام لأن مياهها كانت مرة ومالحة، وكان الذباب منتشرا فيها، لكنه ذكر أن الكمأة فيها كثيرة، وفيها أيضا القمل الذي يمنعه الناس بالزئبق، ورحل منها إلى واحة "تاساراهلا" لمدة 3 أيام تحضيرا للرحلة الكبرى عبر الصحراء الشاسعة التي شكلت الطريق التجاري القديم الذي يمر عبر أرض صخرية كانت عرضة للاختفاء تحت جبال الرمال.
وكان في القافلة تاجر تلمساني (من تلمسان الجزائرية) يعرف بالحاج زيان، ومن عادته أن يقبض على الحيات ويعبث بها فأصابته واحدة منها وقطع يده لمنع انتشار السم، ثم وصل إلى مدينة "إيو الأتن" بعد سفر شهرين كاملين من سجلماسة، وهجا ابن بطوطة مشرف تلك المدينة لأنه لم يضيّف القافلة إلا بطعام قليل، لكنه أقام بها 50 يوما، ومدح أهلها الكرماء، وقال إن "ثياب أهلها حسان مصرية، ولنسائها الجمال الفائق وهن أعظم شأنا من الرجال".
وبعد مسيرة 10 أيام من "إيو الأتن" وصلت القافلة لقرية زاغري، وهي قرية كبيرة يسكنها تجار السودان، ومنها بمحاذاة النهر إلى كارسخو وكابرة ثم زاغة (ولكابرة وزاغة سلطانان يؤديان الطاعة لملك مالي) وأهل زاغة قدماء في الإسلام لهم ديانة وطلب للعلم، ومنها طريق طويل عبر الصحراء إلى بلاد السودان.
ولاتة الموريتانية المزدهرة
وبالطبع كانت هناك مشكلة المياه الدائمة، فالعطش الشديد سمة الرحلات الصحراوية، وكانت القافلة ترسل أحيانا بعض الحراس لجلب المياه من الواحات القريبة إذا تسنى نقل كمية كبيرة في حاويات المياه المصنوعة من جلد الماعز، وكانت القافلة قد أرسلت كشافا ليجلب لها الماء في الطريق من واحة تاساراهلا إلى ولاتة، وهي مدينة تاريخية موريتانية قرب حدود موريتانيا ومالي الحالية.
وهناك أيضا البراغيث الموجودة في كل مكان، ويلجأ ركاب القافلة لارتداء حبال منقوعة في الزئبق حول الرقبة لطردها، كما أن هناك أحيانا جثثا متعفنة حول الآبار والخيام الصحراوية تجلب الذباب، وبالطبع توجد الأفاعي التي تقتل كثيرين.
وعرفت ولاتة بوصفها مركزا تجاريا للقوافل المتجهة لشمال أفريقيا ووصفها ابن بطوطة بالغنى والرخاء في عهده، وفي القرون التالية وخاصة في القرن 16، أصبحت مركزا ثقافيا صحراويا كبيرا بعد أن هاجر إليها علماء تمبكتو المضطربة آنذاك، وكذلك شخصيات ثقافية من فاس وتلمسان ومراكش وحتى أندلسيين أمدّوا المدينة بإشعاع ثقافي متنوع وجعلوها منارة علمية للفقه المالكي في الصحراء الجدباء.
عبر النهر إلى مالي
ومن ولاتة رحل ابن بطوطة جنوبا بمحاذاة نهر النيجر (سماه العرب نيل السودان أو نهر الأنهر)، حتى وصل لعاصمة مالي التي كانت إمبراطورية قوية ومزدهرة، وهناك التقى مانسا (السلطان) سليمان شقيق مانسا موسى أو الملك الذهبي الذي بلغت الإمبراطورية في عهده أوج قوتها من ساحل المحيط الأطلنطي غربا إلى نهر النيجر شرقا، ومن بين ذلك مناجم الذهب في غينيا التي جعلت الإمبراطورية شديدة الثراء.
أسس هذه السلطنة شعب "الماندنجوه" -ومعناها "المتكلمون" بلغة الماندي- وكانت إحدى الحضارات الأفريقية المزدهرة بين القرنين 13 و16، واعتنق ملوك كانجابا الذين أسسوها الإسلام وانتصروا على ملوك كانياجا المنافسين لهم، لتتسع حدود دولتهم وتضم عديدا من مدن السودان الكبير (تسمية تاريخية تطلق على جنوب منطقة الساحل الأفريقي وتشمل أجزاء من السنغال ومالي وبوركينا فاسو والنيجر ونيجيريا وتشاد والسودان وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى وأثيوبيا)، وسيطرت مملكة مالي على مصادر الثروة، وأهمها الذهب والملح والنحاس، وتصبح ملتقى القوافل التجارية عبر الصحراء الأفريقية بين شرق وغرب وشمال القارة.
مدن مالي الغنية
ورغم ازدهار سلطنة مالي ومجلس السلطان العامر بالأمراء والفقهاء والقاضي والخطيب كما وصف ابن بطوطة، فقد أحزنه عطاء و"ضيافة السلطان التافهة" إذ أهداه 3 أقراص من الخبز ولحما بقريا ولبنا في قماش.
لكن السلطنة تعرضت لمظاهر الضعف بعد السلطان الذهبي مانسا موسى، وقتل الوباء الكثير من الناس، واشتكى ابن بطوطة من تجاهل السلطان له وعدم الإحسان إليه لمدة شهرين حتى دخل رمضان، فعزم على زيارته، وقال له "إني سافرت لبلاد الدنيا ولقيت ملوكها، ولي ببلادك 4 أشهر، ولم تضيفني، ولا أعطيتني شيئا. فماذا أقول عنك عند السلاطين؟ فقال: إني لم أرك ولا علمت بك، فقام القاضي وابن الفقيه فردا عليه، وقالا: إنه قد سلم عليك، وبعثت إليه الطعام، فأمر لي عند ذلك بدار أنزل بها، ونفقة تجري علي، ثم فرق على القاضي والخطيب والفقهاء مالا، ليلة 27 من رمضان، وأعطاني معهم 33 مثقالا وثلثا، وأحسن إلي عند سفري بـ100 مثقال ذهبا".
وقال ابن بطوطة "اتفق في أيام إقامتي بمالي أن السلطان غضب على زوجته الكبرى بنت عمه المدعوة بقاسا (الملكة) وهي شريكته في الملك على عادة تلك البلاد، ويذكر اسمها على المنبر مع اسمه، وسجنها وولى في مكانها زوجته الأخرى بنجو، ولم تكن من بنات الملوك، فأكثر الناس الكلام في ذلك وأنكروا فعله"، ثم أطلق السلطان سراح زوجته الكبرى وأشهد الناس عليها رغم أنها أقرت بتآمرها مع ابن عم السلطان لخلع زوجها عن ملكه.
واستحسن ابن بطوطة من أهل تلك البلاد قلة الظلم فيهم، ووصف الأمن والعدل في مملكة مالي، معتبرا أن سلطانهم لا يتسامح في الظلم، وقال "لا يخاف المسافر فيها ولا المقيم من سارق ولا غاصب، ومنها عدم تعرضهم لمال من يموت ببلادهم ولو كان القناطير المقنطرة، ومنها مواظبتهم للصلوات والتزامهم لها في الجماعات، وحفظ القرآن العظيم".
لكنه أنكر عليهم ما وصفه من أن بعض النساء وخاصة الإماء والجواري كن يتجولن عاريات في الشوارع، وأنكر على بعضهم كذلك أكل الجيف والكلاب والحمير، وبعد أن غادر العاصمة اتجه مع تاجر مالي إلى تمبكتو التي لم تكن اكتسبت شهرتها الواسعة حتى ذلك الحين.
ورحل بعدها إلى غاو شمال شرق مالي الحالية التي كانت مركزا اقتصاديا مهما كذلك، وانطلق بعدها مع قافلة متجهة إلى واحة تاكيدا، لكن سلطان المغرب أبو عنان فارس المريني أرسل يستدعيه فعاد من رحلاته عام 1354.
وأوصاه السلطان بعد عودته أن يدوّن رحلاته، فأملى كتابه على محمد بن جزي الكلبي بمدينة فاس وسماه "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، وفيه وصف أسفاره ورحلاته ودوّن ما شاهده.
وتكاد رحلة الصحراء الأفريقية أن تكون خاتمة رحلات ابن بطوطة الكبرى، فبعد السفر لما يقرب من 120 ألف كيلومتر قطعها بين قارات وبلدان العالم، غامر باستكشاف مجاهل الصحراء الأفريقية وتأثر بها وهو يدوّن رحلاته بأكملها بعد عودته إلى المغرب أخيرا، ليتحقق ما قاله عن نفسه في مخطوطته الشهيرة "بلغت بحمد الله مرادي في الدنيا وهو السيّاحة في الأرض، وبلغت من ذلك ما لم يبلغه غيري فيما أعلمه".
أضف تعليق