23 تشرين الثاني 2024 الساعة 10:17

إلى خالد نزال في غيابه السابع والثلاثين

2023-06-08 عدد القراءات : 464
ما زال لدي ما أقوله عن إدمان الشهيد على الموت بترف ملحوظ، وإتقانه الحضور في حالة الغياب. ولدي ما أقوله عني، أتقنت الرثاء وأدمنت الفقد. كلانا تفانى في أعماله.
نفّذت وعدي الذي قطعته في لحظة بعيدة، ملأت قلمي بحبر فلسطيني غارق في الحنين، أعدت ترتيب أوراق روحك بعد أن تبعثرت حولي في فوضى عارمة، تمكنت من تحرير دفقة هائلة من المشاعر التي نزّتها ندوب عجزت مراهمي عن مداواتها، بعد أن تمرّسْتُ، كما أظن، في قراءة فصول الفقد يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام، استطعت فيها أن أقرأ بعمق الوجه الحقيقي للرحيل المُقدَّر.
أنت أَتْقَنت الغِيَاب وَأَنَا احترفت الرثاء، وكل منّا أدمنَ على أداء طقوسه. اصطحبتني الذكريات لتسلمني إلى باب الكلمات، طرقنا باب الذاكرة معاً، وهي التي سلمتنا بيدها إلى الحنين المختبئ خلف الباب.
انتشلت جميع الحروف من ساحات الفوضى، تلك الحروف التي تثور تارة وتهدأ أخرى، حروف مغلفة بورق من الحنين والشوق والثورة والغياب والهواجس والأماني، نفضت عنها الغياب لأنظمها على صفحات من البوْح، العادي والاستثنائي، قبل أن أنثرها في كل مكان متحاشية غلق الباب خلفها.
كتبت جميع الصفحات بقلمي المشحون بالشوق، بعد أن رأيت نفسي بصورة أوضح، وشعرت بمدى أثر الرحيل على شخصيتي، وعرفت تأثيره على مكوناتي بشكل أدق، تعلمت خلال السنين أن الغياب قد جعل محبتي لك تكبر بينما محبتي لنفسي تصغر. علّمني الموت كيف أستجمع أنفاسي لأقول ما أريد، وكيف أفسّر وأَصِفَ لون وطعم ورائحة الفقد والحنين، وأن أقاوم تلك الأصوات المنبعثة من دواخلي بأن لا شيء يبقى حين ذهبت لكي يستحق أن يُكتب!
رحيلك أطلق روحي وحرر قلمي، وأسبغ على حروفي بعض صفات القداسة، فأصبح للكلمات قلب وروح وأطراف ممتدة وأجنحة تُحلق، كأنها كائن خيالي وافتراضي جميل ينام على مقربة من قلبي، فيستطيع قلب الأجواء والمناخ والهواء والماء.
في كتابي الذي عاهدتك عليه وعاهدت أبناءنا، لا توجد نقطة أخيرة في نهاية أي سطر من سطوره، ربما يفيد ذلك أن الحكاية لن تُطوى، وأن هناك حكايات أخرى ثمينة وجميلة وحميمة تحلِّق. لكن في الحقيقة ثمة سبب أكثر وجاهة: فحكايات الفقد كتجارب تعتبر ملكاً فردياً لمن عايشها: قصص تتناسل وتتمدد وتتشعب كما شاءت وشاء لها القدر ربما حتى نهاية الطريق أو الحياة. وهي كملكية شخصية يوجد لها بعد جماعي كتجربة جماعية أيضاً: قد تنشئ كماً هائلاً من الأسئلة المفتوحة، لذلك لطالما استثنيت النقاط التي تأتي في نهايات السطور، حتى لا تتحول النهاية إلى فراق ووداع للقضية التي يرمز شهداؤها لبقائها حية.
لن يكون الكتاب نهاية الرثاء والفقد والغياب كما خُيِّل لي، حيث لا يمكنني إنهاء الحنين ووضع حد قاطع له. سيبقى يغويني ويشحن قلمي بطاقة مباغتة في ذكراك ما حييت، ليسافر بي إلى الوعد والعهد، ليبقى يفتش في ما تبقى مني عن شيء منك ولك، أو يبحث عن صفة أو عن مشاعر لم أختبرها أو لم يتم تسجيلها، وسيبقى أولاً وأخيراً قلمي الذي أطلقه غيابك يقف عائقاً أمام كل محاولاتي الفاشلة في النسيان، ما لم أكتبه ولن يكون كتابي في ظني نهاية مطاف الإدمان.
بعد كل هذا، ما زلت أحن إلى وجودك، وأفتّش بين البقايا عن شيء منك، ما زلت أسافر إلى عهدك ووعدك الجميل، وما زال الحنين يقف عائقاً بيني وبين النسيان، وأجمل ما في الحنين أنه لا يطير بي إلا إليك. الغياب أحياناً يكون جمرة يتقد بها الحب، وأحياناً يكون فرصة لأن يهدأ الجمر المشتعل قبل أن ينطفئ ويترمد، ليصبح مع الزمن مجرد ذكرى لحب كان مهيئاً ومقدراً له أن يستمر ويتخلد.
كم تكون الأيام ناقصة حين يغيب فيها شخص أحببت وجوده في كل لحظة.■

أضف تعليق