28 كانون الأول 2024 الساعة 06:50

"فلاسفة في ضيافة الشعر".. التبريزي والرومي وهيغل وهايدغر وجها لوجه

2023-06-06 عدد القراءات : 293
مراكش(الاتجاه الديمقراطي)

يقف الشاعر والمتصوف جلال الدين الرومي ومعلمه وملهمه شمس الدين التبريزي وجها لوجه، كأنهما يُبعثان من جديد من خلوة الموت، يفاجآن بزمان غير زمانهما، يرقصان رقصة التجلي، يناجيان بعضهما في حوار متخيل أداه ممثلان في فيلم:
جلال الدين: يحتاج الكون إلى المزيد من الحب والعشق يا شمس، الخلوة أصبحت أوسع وأوحش كعشٍ بارد، لم تعد القلوب كما كانت بيوتا من بيوت الله، لم تعد ناصيتي محرابا ولا أصابعي سبحة لقلقي.
شمس الدين: افترقنا يا جلال الدين، وها نحن من جديد كإبرة وخيط نرقع قبح هذا العالم.
كان ذلك مقطعا حواريا تُنطِق فيه الشاعرة المغربية نعيمة فنو، الرومي والتبريزي في إحدى فقرات ديوانها "فلاسفة في ضيافة الشعر" الصادر حديثا، كما تقيم في فقرات أخرى بين فيلسوفين عملاقين أو أكثر "حوارات صبت في قالب شعري درامي، لتأسيس وجود جديد"، وفق تعبيرها.
تشرح الشاعرة للجزيرة نت أن الديوان هو محاولة للنبش في الأصل الذي سترته حجب النسيان، حينما كانت الفلسفة والشعر رتقا قبل فتقهما، وهو محاولة لترتيب الشعر على نصاب جديد لخلخلة القلق الوجودي، في انعطافة مفارقة نحو الفلسفة والمسرح، كأرضية لمجموعة من التقاطعات للخروج بالشعر من النمطية والمتداول.

موت الفن
يجد الشاعر والممثل الشاب إسماعيل أيت إيدر -الذي أدى دور التبريزي في فيلم تجريبي قصير- هذا الحوار ممتعا جدا، حيث هذا التجاور والاشتباك بين الفكر والجملة الشعرية العميقة التي ليست غايتها المرور والعبور السريع، وإنما هي مدعاة للتأمل والتدبر من خلال استحضار موضوعة التصوف من منظور حداثي وراهني مسائل للإشكالات التي تعترض سبيل الإنسان المعاصر.
ويضيف أيت إيدر للجزيرة نت أن تجاور وتحاور الفنون يعطي النص الشعري ملمحا خاصا، ويضفي عليه بعدا جماليا أخاذا. هذا النص الذي اشتغلت عليه الشاعرة نعيمة فنو من منطلق شعري بالأساس للتعبير عن الفكرة الفلسفية عبر العمل الدرامي.
نجد أيضا في الديوان، هيغل وهايدغر يبعثان -افتراضيا- في جنتهما بمكتبة الأديب الأرجنتيني بورخيس، ويناقشان عبارة "موت الفن" ثم ينتقلان إلى متحف الفنان السريالي البلجيكي "ريني ماغريت"، يقرآن شعريا لوحة "عطلة هيغل" ومجموعة من اللوحات العالمية.
وفي الديوان، ميشيل فوكو وفرويد حاولا الانتحار، وزار الأول الثاني في عيادته فنومه مغناطيسا قبل أن يجرّه إلى الحديث عن المفاهيم الوجودية.
وجمع بين المتصوف الأندلسي ابن عربي والشاعر الإيطالي دانتي أليغري عشق النظام والتصوف وألم فراق الأحبة، أليغري يرتقي عبر سماوات الكوميديا الإلهية وابن عربي يرتقي مقامات دائرة المتصوف.
أما الفيلسوفة من أصل ألماني حنا أرندت، فصورت لحظة اغتيال هيباتيا من طرف الكنيسة وهي تحتضر بين يديها لتخفف عنها الألم عبر استحضار الرسائل بينها وبين أستاذها الألماني مارتن هايدغر.

نبش في الأصل
هي حوارات يبدو من خلالها أن الشاعرة تريد وصال الفلاسفة في حضرة الشعر.
وتبرز فنو أن الشعر لغة الشعوب الأولى، منطق الملاحم والترانيم، والديوان هو محاولة لترميم هذا المسار الذي فصلته الحداثة، وعودة وجدانية عرفانية نحو الأصل، حينما كان الشعر يسمي الأشياء مؤسسا لوجودها، جاذبا إياها من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل، من الغياب إلى الحضور، كمحاولة لاستئناف البدء الأول.
فيما يقول الناقد عبد اللطيف سندباد -للجزيرة نت- "أن تتنفس الفلسفة شعرا هي أن تفكر وتشعر على نحو أعمق، وأن ينجز شعراء ما يمتعهم من عميق الشعور فكرا فلسفيا"، وهو ما يراه خليقا بروح الإبداع.

ويضيف "هؤلاء الشعراء يشكلون الندرة في إبداعهم للغة شعرية تبوح بما يفكر فيه العقل الفلسفي"، مشيدا بالتجربة الشعرية المبدعة التي تقيم حوارات بين الفلاسفة بلغة الشعر التخييلية.
ويردف الناقد المغربي "الانشغال الشعري في إقامة هذه العلاقة لا يقلل من قيمة الأفكار الفلسفية التي يعرضها الشاعر عن الشعر، لأن الشعر في تعامله مع هذه المحاورات الشعرية يتلمس إمكانية جديدة ومبدعة لبسط الأفكار الفلسفية على نحو شعري".

ضوء الحقيقة
لكن كيف تصبح الفلسفة التي تسعى إلى تحكيم العقل صارمة، في ضيافة الشعر في خطواته الرامية لاستمالة القلب، ليسيرا سويا نحو تلمس ضياء حقيقة الذات والوجود؟
تقول فنو إن الشعر في علاقته الجدلية بالفلسفة، يسكن داخل اللغة الشعرية متجاوزا بذلك ثنائيات الذات والموضوع، الوجود والموجود، القلب والعقل.
وتضيف "الشعر عندما تتلبّسه الفلسفة يصبح الوسيط الأساس لإظهار الأشياء والموجودات، يؤسسان معا لجيولوجيا تحفر عميقا في الكينونة الإنسانية، ويضمنان للإنسان مكانا حميميا داخل اللغة كلما طغت التقنية وتصلبت مفاصل العلم".
فيما يلاحظ سندباد أنه إذا كان الشعر يرغب دائما في أن يكون ممتعا ومؤنسا بذاته، فللفلسفة الحق في الاحتكام إلى العقل والتبيين من ذاتها، "ولكلتا الحالتين مدلول واحد، هو أن المتلقي هو الحكم، وكل التوسلات الأدبية والفلسفية لن تجدي في كون ما يتلقاه المتلقي الحاذق يجب أن يكون ممتعا شعوريا ومفيدا فكريا على أعمق نحو ممكن في إدارة التناقضات، وبذلك كان خليقا بالمتلقي أن يرى هذا التناغم بين الفلسفة والشعر رمز الواحد المتعدد الأضداد، حيث كل واحد منهما يكمل الآخر تلقائيا".
ويختم "في الفلسفة شيء من الشعر وفي هذا الأخير شيء من الفلسفة، كل في ضيافة الآخر، وقائم بذاته في دائرة واحدة لا يمكن للشاعر أو الفيلسوف أن يخرج منها".


أضف تعليق