الذكرى 75 لنكبة فلسطين.. وصراع الرواية التاريخية
في أواخر شهر نيسان الماضي، قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إن «إسرائيل جعلت الصحراء تزدهر»، وقبل ذلك بشهر ومن العاصمة الفرنسية قال رئيس حزب الصهيونية الدينية بتسلئيل سموترتيش: «لا يوجد شيء اسمه الشعب الفلسطيني، فهو اختراع وهمي لم يتجاوز عمره 100 سنة». مثل هذا الكلام نقرأه ونسمعه بشكل يومي في وسائل الإعلام الإسرائيلية والأوروبية والأميركية، وليس هدفه، كما يعتقد البعض، دعم إسرائيل وتثبيت شرعيتها في محيط عربي وشرقي سيبقى رافضاً لها، بل الهدف هو قبول اسرائيل باعتبار وجودها سابق لوجود كل من حولها، كما قال سموتريتش: «جدي الذي كان في القدس من الجيل الثالث عشر هو الفلسطيني الحقيقي». ولعل الهدف الأبعد هو محاولة تقديم تاريخ جديد ليس لفلسطين فقط بل لكل المنطقة، وليس مستبعدًا، وللحالة هذه، في المستقبل أن نسمع بأن يكون لليهود حقوقاً تاريخية في السعودية وتونس وأراضٍ عربية أخرى.
إن الصراع الذي يخوضه الشعب الفلسطيني مع المشروع الصهيوني، وإن كان صراعًا ضد مشروع عنصري ما زال يحظى بدعم القوى الكبرى التي تمده بكل مقومات البقاء، إلا أنه في الأساس صراع «من يمتلك الرواية التاريخية». وقد لا يكون كافياً القول إن فلسطين هي ملك لشعبها، وأن وجود اليهود فوق أرضها كان وجودًا متقطعًا، بينما تواجد العرب كان متواصلاً لآلاف السنوات، والتاريخ يحفل بالصراعات بين شعوب ودول لم تكن الغلبة فيها دائمًا لمن امتلك الأحقية التاريخية أو القانونية، بل أن أمورًا كثيرة ربما تساهم في قلب المشهد، فيصبح الحق باطلًا والباطل حقًا.. وحتى في إطار الانتظام العام لا يكفي وجود القانون حتى يتعزز الأمن والاستقرار في المجتمع، بل أن القانون يحتاج إلى جهاز أو مؤسسة تمتلك حق استخدام القوة من أجل تطبيق هذا القانون..
التاريخ مليء بالشواهد التي تدلل على نجاح بعض الجماعات في جعل التاريخ يسير في مسار مختلف عن مساره الطبيعي، فكم من الروايات قدمت بغير حقيقتها، وكم من النماذج التاريخية تم تزييفها وتزويرها. ورغم أن روايتنا محقة وعادلة وتمتلك كل مقومات انتصارها، لكنها ولأسباب كثيرة غير قادرة على أن تفرض نفسها حقيقة وحيدة، بينما الرواية الصهيونية القائمة على المزاعم الدينية والأساطير والخرافات التاريخية، تجد منطقًا يبررها لدى الدول الاستعمارية التي تسخر كل أدواتها لخدمة تلك الرواية، مدعومة بقوى عسكرية واقتصادية ومالية وتقنيات تكنولوجية مستفيدة من واقع الشرذمة والانقسام الذي تئن مجتمعاتنا تحت وطأته.
إن الرواية التاريخية عادة ما يتم كتابتها استنادا على من العديد العناصر والشواهد والوثائق الأثرية في مختلف صنوف المعرفة والحياة، والتي تأكد وجودها في أرض الواقع، غير أن الأمر بات مقلوبًا لدى الحركة الصهيونية التي صاغت روايتها المبنية على أساس اساطير وخرافات لا تدعمها أية أسانيد ومن ذهبت تبحث عن تأكيدات لها في أرض الواقع.. كما هو الأمر بالنسبة لخرافة الشعب اليهودي الذي تشكل اولاً ومن ثم اخذت الحركة الصهيونية والاستعمار الغربي يبحثون له عن وطن.. ولهذا السبب يمكن فهم لماذا أفرد صك الانتداب نصًا خاصًا في مادته 21 يتعلق بالآثار القديمة التي تعود إلى ما قبل العام 1700.. لكن الذي حصل أن الانتداب تعاطى بشكلٍ منحازٍ لصالح المجموعات الصهيونية لجهة منحها كل أشكال الدعم الخاص بالبحث والحفر والتنقيب بهدف الوصول إلى دلائل حسية تدعم الرواية السياسية - الدينية، وهو أمر لا زال متواصلًا حتى اليوم رغم مرور أكثر من مائة عام على بدء هذا المشروع.
وليس بعيدًا عن هذا، فقد ساهمت المؤسسات الدولية سواء عصبة الأمم وبعدها الأمم المتحدة في السماح للرواية الصهيونية بأن تشق طريقها بين بعض اليهود والمجتمعات الأوروبية، منذ اتفاقية سايكس – بيكو وصولاً للانتداب البريطاني الذي وفر الأرضية لطرح فكرة «الوطن القومي لليهود في فلسطين»، خاصة بعد أن حوَّل صك الإنتداب وعد بلفور إلى إلتزام أممي، رغم صياغته من وراء ظهر الشعب الفلسطيني الذي تحول، وفقًا للوعد، الى مجرد «طوائف» رغم وجوده في أرضه ووطنه، بينما تعاطى مع اليهود المنتشرين في أكثر من 50 بلدًا كشعب له كل الأهلية في بناء وطن، وهذا أمر تتحمل مسؤوليته الأسرة الدولية ممثلة بالمنظمات الدولية التي شرّعت هذا الواقع واعتبرته حقيقة قائمة، رغم عدم صدقيته وعدم أهليته القانونية والتاريخية..
هذه النقطة عالجها بالتفصيل نائب الامين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين فهد سليمان في دراسة له عام 2017 في الذكرى المئوية لوعد بلفور بعنوان: «وعد بلفور في مدار سايكس – بيكو». إذ يقول سليمان في هذه الدراسة: «لم يلتزم صك الإنتداب الصادر عن عصبة الأمم بمبدأ حق تقرير المصير، بل أعادنا إلى القاعدة الإمبريالية التي تعتبر أن حق التصرف بالبلاد المحتلة لا يعود لسكانها المحرومين من حق تقرير المصير، بل لمحتليها الذين وحدهم يقررون لمن يعود هذا الحق. وفي الحالة الموصوفة تكون بريطانيا، الدولة القائمة بالإحتلال، قد اعترفت ومن ثم فرضت حق تقرير المصير لمن لم يتشكل بعد كشعب، وعليه، يكون صك الإنتداب قد اعترف والتزم أمام الحركة الصهيونية بالأركان الثلاثة التي تقوم عليها الدولة بمفهومها الحديث: الأرض (فلسطين)، الشعب (اليهودي)، الحكومة (ونواتها الوكالة اليهودية)، بينما حجب هذا الحق عن شعب فلسطين، من بوابة إنكار وجوده كشعب.
أعادت المؤسسة الدولية تكرار هذا الأمر بعد مرور حوالي ثلاثة عقود عندما أصدرت القرار رقم 181 في 29 تشرين الثاني 1947 والذي قضى بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، بطريقة مخالفة حتى لميثاق الأمم المتحدة الذي يقر للشعوب بحرية تقرير مصيرها بنفسها دون أي تدخل خارجي. ولهذا السبب رفضت المجموعة العربية في الأمم المتحدة القرار، نظرًا للانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان الفلسطيني وتناقضه مع مبادئ القانون الدولي وأعرافه خاصة حق تقرير المصير للشعوب بحرية.. الأمر الذي دفع بالجمعية العامة وبعد ثلاثة عقود ايضًا الى اعلان اليوم ذاته (29 من شهر تشرين الثاني من كل عام) يوماً عالميًا للتضامن مع الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية، في تفسير فلسطيني أنه اعتراف بخطأ تاريخي ارتكبته الامم المتحدة في تعاطيها مع القضية الفلسطينية.
لقد استمدت الرواية اليهودية قوتها ليس من مضمونها الديني التوراتي ولا من واقعيتها وأحقيتها التاريخية، بل من تسلحها باستراتيجيات الحركة الصهيونية التي تحالفت وتقاطعت مع المصالح الاقتصادية للدول الاستعمارية، والنجاح في توحيد يهود العالم حول خرافة فرضت كحقيقة وواقع رغم كذبها وزيفها. أما قوة الرواية التاريخية الفلسطينية فهي في اعتمادها على عنصر التواصل التاريخي لأرض فلسطين الذي يمتد لأعماق تاريخ معلوم يزيد عن خمسة آلاف عام. ولأن الأقوياء هم الذين يتحكمون في كتابة التاريخ، فإن جزءًا كبيرًا من مؤرخينا ومثقفينا ومبدعينا قرأوا وفهموا تاريخ المنطقة كما قدم لهم من قبل الحركة الصهيونية ومؤرخيها، وبعضها مسور بروايات دينية ذات دلالات تاريخية فقط، لذلك لا غرابة بحروب تشن على مثقفين ومبدعين ومؤرخين غربيين لمجرد تقديمهم روايات تتناقض إما مع بعض النصوص الدينية المحرفة أو مع روايات تاريخية، كما تراها الحركة الصهيونية..
وفي نظرة إلى التاريخ القديم والحديث، لا نستطيع العثور على صراع حظي بكل هذا الدعم من عشرات الدول ومئات بل آلاف المؤسسات البحثية السياسية والفكرية لهدف جندت له كل أساليب واشكال التضليل والكذب والخداع من أجل تمرير رواية خارجة عن منطق التاريخ، بل متعاكسة معه في الكثير من الأحيان. وقد لا نجد صراعًا، لا سياسيًا ولا اجتماعيًا، خضغ لكل هذا التزوير مثلما حدث مع الصراع الفلسطيني، بل الصراع العربي والمشرقي –الصهيوني.. والنتيجة أن مجموعة من الاكاذيب حاكتها الرواية الصهيونية في صراعها مع الرواية الفلسطينية، وتمكن بعضها من شق طريقه أمام بعض الدول الغربية التي إما انساقت مع الدعاية الصهيونية وخرافاتها لأسباب شتى، أو إنها انحازت خوفًا لصالح الولايات المتحدة الأميركية وغطرستها..
إن من قام بكتابة التاريخ اليهودي في المنطقة هم إما سياسيون صهاينة أو مؤرخون غربيون ساهموا في تزوير التاريخ بما ينسجم مع المصالح الغربية للدول الاستعمارية.. وبالتالي فإن بعض النصوص اللاهوتية والتوراتية تم استحضارها لتدعيم خلاصات سياسية أرادها المستعمر لتبرير دعمه للحركة الصهيونية ومشروعها، سواء لأسباب داخلية لها علاقة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تعيشها أوروبا، أو لأسباب تتعلق بوظيفة الكيان اليهودي في فلسطين كنقطة متقدمة لخدمة الإمبريالية الغربية وأهدافها بالسيطرة على المنطقة وضرب حركاتها المقاومة وأية نزعات استقلالية لشعوبها..
إن ما نشهده اليوم من تحالف واضح بين الحركة الصهيونية والاستعمار الغربي يخدم هذه النتيجة. وهذا ما يفسر سيطرة الحركة الصهيونية وحلفائها في الغرب على وسائل الإعلام وعلى مراكز الأبحاث ومراكز صنع القرار في الدول الغربية الأساسية وإنفاق مليارات الدولارات على كل ما من شأنه أن يؤكد الرواية الصهيونية التي باتت متحالفة مع بعض أجنحة اليمين المسيحي في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وفي المقابل محاربة وشيطنة كل جهد بحثي وتأريخي علمي رصين يشكك في الرواية الصهيونية المشتركة مع رواية الغرب الاستعماري، وهناك الكثير من النماذج التي تؤكد هذه الخلاصات لدرجة سن قانون في فرنسا عام 1990 يجرم كل من يعمل على إعادة النظر في تاريخ اليهود بل يعتبر هذا الأمر جريمة ضد الإنسانية كما عرفتها ميثاق لندن الذي على أساسه تم محاكمة زعماء النازية..
وتعتمد إستراتيجية الحركة الصهيونية في طرح روايتها على التشكيك في قضيتين تشكلان محور الدعاية - الرواية الكاذبة:
الأولى (الأرض) عبر تصوير أرض فلسطين كصحراء قاحلة لا بشر فيها، كما قالت رئيسة المفوضية الأوروبية بأن «إسرائيل جعلت هذه الصحراء تزدهر». وعلى هذه الخلفية صاغت الحركة الصهيونية شعارها الرئيسي «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» والتي ترافقت مع عدد من النظريات العنصرية البائدة لعل أهمها نظرية «أربع دول وخمسة شعوب وعلينا التخلص من الشعب الزائد».
ومن أجل التفاف جمهور اليهود الذين في غالبيتهم لا صلة تاريخية تربطهم بفلسطين حول النظرية السابقة، فقد تم تغليف النظريات العنصرية بقوالب ومزاعم دينية لاقت رواجًا بين اليهود ومن ضمنها ما يذكره العهد القديم عن وعد قطعه الرب لبني إسرائيل بإعطائهم فلسطين، وتحديدًا تلك الرواية الواردة في سفر الخروج السادس، لكنها رواية لم ترد سوى على ألسنة اليهود أنفسهم، غير أن الأحاديث المتوالية عن إرادة يهودية مشدودة باتجاه فلسطين ليست سوى أساطير يراد بها تدعيم حق مزعوم بالسيطرة على فلسطين، وهي مزاعم لا تؤكدها أية مصادر علمية ولا تدعمها المكتشفات الأثرية لا في فلسطين ولا في المنطقة المحيطة بها.
إنطلاقًا من هذا النص تبدو فكرة الوطن صيغة مجهولة المكان والزمان وهي بلاد لم ينشأ فيها اليهود ولم يتوارثوها عن الآباء والأجداد كما حال جميع دول العالم، بل إن فكرة الوطن هنا تأتي مقرونة بصيغة الاحتلال والاستيطان (أي أرض تطأها أقدام) وهذه حالة لا يمكن أن نجد مثيلًا لها في التاريخ، فعادة ما تنشأ الأوطان بالترافق ما بين عنصري الأرض والشعب (أية جماعة بشرية تنشأ في أرض ما فتنمو وتتكاثر وتتطور مع الأرض حتى تنشأ في وجدانهم ونفوسهم فكرة الوطن)، لكن وفقًا للصيغة السابقة، فإن اليهود وجدوا أولًا ومن ثم أخذوا يبحثون عن الإقليم أو الأرض واعتباره وطنًا لهم، وهذه صيغة تخالف نظرية التطور الاجتماعي لدى جميع الشعوب وعلى مدار التاريخ..
لهذه الاسباب، وغيرها، يمكن تفسير أسباب الإصرار الإسرائيلي الأميركي والأوروبي على تغيير المناهج التربوية الفلسطينية باعتبارها إحدى مرتكزات حماية وتكريس الرواية الفلسطينية ونقلها من جيل إلى جيل، وإحدى الأدوات التي من خلالها تصاغ الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني بتاريخه وحضارته وتراثه الثري. ومن خلال هذا الاصرار يمكن فهم الأسباب الحقيقية للمشكلة المالية التي تعيشها وكالة الغوث (الأونروا) المعنية بتعليم أكثر من نصف مليون لاجيء فلسطيني بعد طلبات أميركية وأوروبية وتقارير العديد من المؤسسات البحثية الصهيونية التي دعت جميعها إلى شطب وتعديل العديد من مناهج التعليم في مدارس الأونروا، خاصة تلك التي تتحدث عن الأرض والنكبة والاحتلال والمقاومة وعن تاريخ وحضارة فلسطين وهويتها العربية الاسلامية..
الثانية هي التشكيك بوجود الشعب الفلسطيني ليس راهنًا أو لحظة إعلان قيام «دولة إسرائيل»، بل والتشكيك بصحة وجوده فوق أرض فلسطين وفقاً لما قاله وزير المالية سموتريتش «لا يوجد شعب فلسطيني وهو ليس إلا اختراع عمره أقل من مائة عام». وفي معظم الأحوال فهذا تكرار وامتداد للنظرية الأساس التي قامت عليها الحركة الصهيونية «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض».
لهذا السبب وغيره رفضت إسرائيل تاريخيًا الاعتراف بالشعب الفلسطيني وبمرجعية سياسية تمثله، وأصرت خلال فعاليات مؤتمر مدريد (1991) على التعاطي مع الفلسطينيين كمجموعات سكانية لا حقوقًا سياسية لها، وتم الاكتفاء بوفد أردني – فلسطيني مشترك، وهذه من الخطايا القاتلة التي ارتكبتها القيادة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية في تلك الفترة.. وراهنا حين يتم تناول القضية الفلسطينية من زاوية أمنية وإقتصادية، كما أشار إلى ذلك مؤخرًا البيانين الصادرين عن لقاءي العقبة وشرم الشيخ الأمنيين، إنما يخدم الهدف ذاته بالتصديق على رواية عدم وجود حقوق سياسية لشعب هو أصلًا غير موجود وإن إسرائيل «تقدم الخير لكل من يعيش في الأرض، يهودًا وغير يهود» وفقاً لحديث سموتريتش السابق.
لقد نجحت الحركة الصهيونية، وبدعم واضح وعلني من قوى دولية، من تحقيق اختراق هام لجهة تغييب الشعب الفلسطيني من الخارطة العالمية خلال الفترة التي أعقبت النكبة (1948 - 1974)، ولم يتمكن الفلسطيني من فرض نفسه على مسرح العلاقات الدولية إلا عندما انطلقت الثورة الفلسطينية، التي فرضت نفسها بتضحياتها الكبيرة على العالم لتعيد طرح الحركة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية مرجعية وطنية وشرعية للشعب الفلسطيني، الأمر الذي دفع بالأمم المتحدة لإصدار أهم قراراتها التي أعادت اعترافها بالشعب الفلسطيني وبحقوقه الوطنية في عدد من القرارات التي صدرت عنها، خاصة بعد تأسيس منظمة التحرير وامتلاكها لبرنامج سياسي نضالي يصارع المشروع الصهيوني الذي بقي حاضرًا لوحده لفترة تزيد عن ربع قرن، ليستعيد الشعب الفلسطيني بذلك روايته التاريخية التي بدأت تواجه الرواية الصهيونية بعد أن تيقن زعماء وقادة الحركة الصهيونية العالمية أن طريقها أصبح سالكًا، ليتبين أن هذه الطريق دونها عقبات كثيرة..
كثيرةٌ هي العوامل التي ساهمت في استعادة الرواية التاريخية الفلسطينية، يقع في مقدمتها قوة المقاومة الفلسطينية وتضحيات الشعب الفلسطيني التي جعلت القضية الفلسطينية حاضرة ونابضة بقوة الحق والعدالة فارضة نفسها على العالم. وثاني هذه العوامل برنامجًا سياسيًا يخاطب العالم بلغة واضحة عن أهداف النضال الفلسطيني، ووحدة الشعب في كل تجمعاته. فهذا ما حصل على مستوى الانجازات السياسية الكبرى التي حققتها منظمة التحرير الفلسطينية بعد اقرارها للبرنامج المرحلي، الذي كان سببًا رئيسيًا في استعادة الرواية الوطنية ووضعها في أحضان الشعب الفلسطيني، بعد سنوات من النفي والتزوير..
إن ما يقوم به جيش المستوطنين والمتطرفين اليهود من شعائر يومية في باحات المسجد الأقصى وفي محيطه، وجهد كافة المؤسسات الصهيونية بالسعي لتغيير معالم مدينة مدينة القدس بأدق تفاصيلها، هو أمر يخدم الوجهة السابقة بالسعي الحثيث لتأكيد الرواية التي كتبت منذ عقود ويجري البحث عن أي تفصيل مهما كان بسيطًا ومتواضعًا من أجل تأكيدها، حتى لو تطلب الأمر تزويرًا للتاريخ وللنصوص الدينية، لكن شرط ذلك أن تكون أية نتائج يتم التوصل إليها منسجمة مع الرواية السياسية - الدينية التي صاغها وبشكل مشترك منظرو ومؤدلجو الحركة الصهيونية العالمية والامبريالية الغربية...
لا نقلل من صعوبة وتعقيدات الصراع المتعلق بإثبات وتكريس الرواية التاريخية الفلسطينية. خاصة في ظل اختلال قوي لموازين القوى بين حوامل وروافع الروايتين الفلسطينية والصهيونية، إلا أن هناك إمكانية جدية لتتقدم الرواية الفلسطينية خطوات إلى الأمام، لكن هذا يجب أن يقترن بفعل فلسطيني مطلوب وبإرادات وسياسات شجاعة وجريئة في تحمل تبعات الصراع، مع تأكيد حقيقة يجب على الحركة الوطنية الفلسطينية بجميع مكوناتها خاصة القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير إدراكها وهي: أننا ما زلنا في مرحلة الزرع، وبالتالي فان استعجال الحصاد من شأنه أن يدمر كل الانجازات التي يحققها الشعب الفلسطيني..
لقد عملت إسرائيل، وتحت غطاء المفاوضات العبثية واللهاث الرسمي الفلسطيني وراءها، على تكريس سياسة الاستيطان باعتبارها مسألة روتينية لم تضعها القيادة السياسية الفلسطينية على جدول أعمالها كقضية صراعية سواء في ميدان المواجهة اليومية أو على مستوى المحاكم والهيئات والمنظمات الدولية، وعملت على تغيير الطابع العمراني والأثري للكثير من المواقع والأماكن خاصة في مدينة القدس تحت غطاء إجراءات عنصرية كقوانين القومية والنكبة والعودة والبناء والاستيطان وغيرها من قوانين تشكل كل واحدة منها عنوان نضالي يستحق أن تعلن ثورة ضده..
وفي ظل حالة الانقسام والصراع الذي ينحو في جانب كبير منه إلى صراع فئوي، وما يترتب عليه من انقسامات على مستوى تجمعات الشعب الفلسطيني وتعدد المرجعيات والرسائل، واللهاث وراء وهم المفاوضات كخيار وحيد للشعب الفلسطيني، فإن القلق يصبح مشروعًا من فقدان الرواية الفلسطينية لمصداقيتها نتيجة تراجع الاهتمام بها الى مستويات متدنية في أولويات الشعب الفلسطيني ومرجعياته المختلفة.
وكما استعاد الشعب الفلسطيني قضيته وروايته قبل أكثر من نصف قرن، فنحن مدعوون لاعادة استحضار الثالوث الذهبي الذي وبسببه عادت فلسطين كقضية، وعاد شعبها لينهض من جديد: «المقاومة بكل أشكالها العسكرية والسياسية والاقتصادية والفنية والأدبية»، وهنا دعوة للقيادة السياسية للسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير إلى دعم المبدعين الفلسطينيين خاصة العاملين منهم في مجال تكريس الرواية الفلسطينية كالتأريخ والثقافة والتراث والأدب والفن والاجتماع، باعتبار كل هذه العناوين أسلحة وأدوات كتابة الرواية الوطنية الفلسطينية. ثاني هذا الثالوث الوحدة بمختلف أشكالها الميدانية والسياسية التي تقدم فلسطين إلى العالم بلغة واحدة وموحدة، مع التأكيد الدائم على حيوية الشعب الفلسطيني وقدرته على ممارسة تعدديته بما يشكل إغناء لحركتنا الوطنية ولبرنامجنا السياسي الوطني التحرري، سواء عبر الانتخابات الشاملة لكافة مؤسساتنا الوطنية أو عبر التوافقات بين الكل الفلسطيني حيث لا يمكن إجراء الانتخابات. وأخيرًا توحيد التجمعات الفلسطينية داخل وخارج فلسطين وافساح المجال أمامها للمشاركة في المعركة الوطنية وتسليحها ببرامج عمل يُمكّنها من الدفاع عن مصالحها وحقوقها.
أكدت التجربة السابقة أنه كلما ارتفع سقف الموقف الفلسطيني، كلما ارتبك المحتل الاسرائيلي وتحرك العالم واقترب من حقوقنا أكثر.. هذه معادلة شهدناها خلال سنوات نضالنا، بأن على دقة مواقفنا السياسية وصوابيتها تتحدد مواقف كل دول العالم، غير أن رفع سقف الموقف الفلسطيني لا يكفي وحده طالما أنه ما زال يتعاطى مع ما يحدث بـ«القطّارة»، الأمر الذي لا يساعد على أن نراكم على إنجازاتنا. ففي النظرة العامة إلى المشهد، لا يوجد على الطاولة سوى المشروع الأميركي الإسرائيلي، وسقف موقفنا ما زال يدور حول ما يطرح، رفضًا وقبولًا، وهذا ما سيبقينا أسرى لما هو مطروح على الساحة من مشاريع سياسية.. وهو السبب أيضًا بأن تكون مواقفنا دائمًا عبارة عن ردات فعل على فعل لسنا نحن من ساهم في صياغته.■
إن الصراع الذي يخوضه الشعب الفلسطيني مع المشروع الصهيوني، وإن كان صراعًا ضد مشروع عنصري ما زال يحظى بدعم القوى الكبرى التي تمده بكل مقومات البقاء، إلا أنه في الأساس صراع «من يمتلك الرواية التاريخية». وقد لا يكون كافياً القول إن فلسطين هي ملك لشعبها، وأن وجود اليهود فوق أرضها كان وجودًا متقطعًا، بينما تواجد العرب كان متواصلاً لآلاف السنوات، والتاريخ يحفل بالصراعات بين شعوب ودول لم تكن الغلبة فيها دائمًا لمن امتلك الأحقية التاريخية أو القانونية، بل أن أمورًا كثيرة ربما تساهم في قلب المشهد، فيصبح الحق باطلًا والباطل حقًا.. وحتى في إطار الانتظام العام لا يكفي وجود القانون حتى يتعزز الأمن والاستقرار في المجتمع، بل أن القانون يحتاج إلى جهاز أو مؤسسة تمتلك حق استخدام القوة من أجل تطبيق هذا القانون..
التاريخ مليء بالشواهد التي تدلل على نجاح بعض الجماعات في جعل التاريخ يسير في مسار مختلف عن مساره الطبيعي، فكم من الروايات قدمت بغير حقيقتها، وكم من النماذج التاريخية تم تزييفها وتزويرها. ورغم أن روايتنا محقة وعادلة وتمتلك كل مقومات انتصارها، لكنها ولأسباب كثيرة غير قادرة على أن تفرض نفسها حقيقة وحيدة، بينما الرواية الصهيونية القائمة على المزاعم الدينية والأساطير والخرافات التاريخية، تجد منطقًا يبررها لدى الدول الاستعمارية التي تسخر كل أدواتها لخدمة تلك الرواية، مدعومة بقوى عسكرية واقتصادية ومالية وتقنيات تكنولوجية مستفيدة من واقع الشرذمة والانقسام الذي تئن مجتمعاتنا تحت وطأته.
إن الرواية التاريخية عادة ما يتم كتابتها استنادا على من العديد العناصر والشواهد والوثائق الأثرية في مختلف صنوف المعرفة والحياة، والتي تأكد وجودها في أرض الواقع، غير أن الأمر بات مقلوبًا لدى الحركة الصهيونية التي صاغت روايتها المبنية على أساس اساطير وخرافات لا تدعمها أية أسانيد ومن ذهبت تبحث عن تأكيدات لها في أرض الواقع.. كما هو الأمر بالنسبة لخرافة الشعب اليهودي الذي تشكل اولاً ومن ثم اخذت الحركة الصهيونية والاستعمار الغربي يبحثون له عن وطن.. ولهذا السبب يمكن فهم لماذا أفرد صك الانتداب نصًا خاصًا في مادته 21 يتعلق بالآثار القديمة التي تعود إلى ما قبل العام 1700.. لكن الذي حصل أن الانتداب تعاطى بشكلٍ منحازٍ لصالح المجموعات الصهيونية لجهة منحها كل أشكال الدعم الخاص بالبحث والحفر والتنقيب بهدف الوصول إلى دلائل حسية تدعم الرواية السياسية - الدينية، وهو أمر لا زال متواصلًا حتى اليوم رغم مرور أكثر من مائة عام على بدء هذا المشروع.
وليس بعيدًا عن هذا، فقد ساهمت المؤسسات الدولية سواء عصبة الأمم وبعدها الأمم المتحدة في السماح للرواية الصهيونية بأن تشق طريقها بين بعض اليهود والمجتمعات الأوروبية، منذ اتفاقية سايكس – بيكو وصولاً للانتداب البريطاني الذي وفر الأرضية لطرح فكرة «الوطن القومي لليهود في فلسطين»، خاصة بعد أن حوَّل صك الإنتداب وعد بلفور إلى إلتزام أممي، رغم صياغته من وراء ظهر الشعب الفلسطيني الذي تحول، وفقًا للوعد، الى مجرد «طوائف» رغم وجوده في أرضه ووطنه، بينما تعاطى مع اليهود المنتشرين في أكثر من 50 بلدًا كشعب له كل الأهلية في بناء وطن، وهذا أمر تتحمل مسؤوليته الأسرة الدولية ممثلة بالمنظمات الدولية التي شرّعت هذا الواقع واعتبرته حقيقة قائمة، رغم عدم صدقيته وعدم أهليته القانونية والتاريخية..
هذه النقطة عالجها بالتفصيل نائب الامين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين فهد سليمان في دراسة له عام 2017 في الذكرى المئوية لوعد بلفور بعنوان: «وعد بلفور في مدار سايكس – بيكو». إذ يقول سليمان في هذه الدراسة: «لم يلتزم صك الإنتداب الصادر عن عصبة الأمم بمبدأ حق تقرير المصير، بل أعادنا إلى القاعدة الإمبريالية التي تعتبر أن حق التصرف بالبلاد المحتلة لا يعود لسكانها المحرومين من حق تقرير المصير، بل لمحتليها الذين وحدهم يقررون لمن يعود هذا الحق. وفي الحالة الموصوفة تكون بريطانيا، الدولة القائمة بالإحتلال، قد اعترفت ومن ثم فرضت حق تقرير المصير لمن لم يتشكل بعد كشعب، وعليه، يكون صك الإنتداب قد اعترف والتزم أمام الحركة الصهيونية بالأركان الثلاثة التي تقوم عليها الدولة بمفهومها الحديث: الأرض (فلسطين)، الشعب (اليهودي)، الحكومة (ونواتها الوكالة اليهودية)، بينما حجب هذا الحق عن شعب فلسطين، من بوابة إنكار وجوده كشعب.
أعادت المؤسسة الدولية تكرار هذا الأمر بعد مرور حوالي ثلاثة عقود عندما أصدرت القرار رقم 181 في 29 تشرين الثاني 1947 والذي قضى بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، بطريقة مخالفة حتى لميثاق الأمم المتحدة الذي يقر للشعوب بحرية تقرير مصيرها بنفسها دون أي تدخل خارجي. ولهذا السبب رفضت المجموعة العربية في الأمم المتحدة القرار، نظرًا للانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان الفلسطيني وتناقضه مع مبادئ القانون الدولي وأعرافه خاصة حق تقرير المصير للشعوب بحرية.. الأمر الذي دفع بالجمعية العامة وبعد ثلاثة عقود ايضًا الى اعلان اليوم ذاته (29 من شهر تشرين الثاني من كل عام) يوماً عالميًا للتضامن مع الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية، في تفسير فلسطيني أنه اعتراف بخطأ تاريخي ارتكبته الامم المتحدة في تعاطيها مع القضية الفلسطينية.
لقد استمدت الرواية اليهودية قوتها ليس من مضمونها الديني التوراتي ولا من واقعيتها وأحقيتها التاريخية، بل من تسلحها باستراتيجيات الحركة الصهيونية التي تحالفت وتقاطعت مع المصالح الاقتصادية للدول الاستعمارية، والنجاح في توحيد يهود العالم حول خرافة فرضت كحقيقة وواقع رغم كذبها وزيفها. أما قوة الرواية التاريخية الفلسطينية فهي في اعتمادها على عنصر التواصل التاريخي لأرض فلسطين الذي يمتد لأعماق تاريخ معلوم يزيد عن خمسة آلاف عام. ولأن الأقوياء هم الذين يتحكمون في كتابة التاريخ، فإن جزءًا كبيرًا من مؤرخينا ومثقفينا ومبدعينا قرأوا وفهموا تاريخ المنطقة كما قدم لهم من قبل الحركة الصهيونية ومؤرخيها، وبعضها مسور بروايات دينية ذات دلالات تاريخية فقط، لذلك لا غرابة بحروب تشن على مثقفين ومبدعين ومؤرخين غربيين لمجرد تقديمهم روايات تتناقض إما مع بعض النصوص الدينية المحرفة أو مع روايات تاريخية، كما تراها الحركة الصهيونية..
وفي نظرة إلى التاريخ القديم والحديث، لا نستطيع العثور على صراع حظي بكل هذا الدعم من عشرات الدول ومئات بل آلاف المؤسسات البحثية السياسية والفكرية لهدف جندت له كل أساليب واشكال التضليل والكذب والخداع من أجل تمرير رواية خارجة عن منطق التاريخ، بل متعاكسة معه في الكثير من الأحيان. وقد لا نجد صراعًا، لا سياسيًا ولا اجتماعيًا، خضغ لكل هذا التزوير مثلما حدث مع الصراع الفلسطيني، بل الصراع العربي والمشرقي –الصهيوني.. والنتيجة أن مجموعة من الاكاذيب حاكتها الرواية الصهيونية في صراعها مع الرواية الفلسطينية، وتمكن بعضها من شق طريقه أمام بعض الدول الغربية التي إما انساقت مع الدعاية الصهيونية وخرافاتها لأسباب شتى، أو إنها انحازت خوفًا لصالح الولايات المتحدة الأميركية وغطرستها..
إن من قام بكتابة التاريخ اليهودي في المنطقة هم إما سياسيون صهاينة أو مؤرخون غربيون ساهموا في تزوير التاريخ بما ينسجم مع المصالح الغربية للدول الاستعمارية.. وبالتالي فإن بعض النصوص اللاهوتية والتوراتية تم استحضارها لتدعيم خلاصات سياسية أرادها المستعمر لتبرير دعمه للحركة الصهيونية ومشروعها، سواء لأسباب داخلية لها علاقة بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تعيشها أوروبا، أو لأسباب تتعلق بوظيفة الكيان اليهودي في فلسطين كنقطة متقدمة لخدمة الإمبريالية الغربية وأهدافها بالسيطرة على المنطقة وضرب حركاتها المقاومة وأية نزعات استقلالية لشعوبها..
إن ما نشهده اليوم من تحالف واضح بين الحركة الصهيونية والاستعمار الغربي يخدم هذه النتيجة. وهذا ما يفسر سيطرة الحركة الصهيونية وحلفائها في الغرب على وسائل الإعلام وعلى مراكز الأبحاث ومراكز صنع القرار في الدول الغربية الأساسية وإنفاق مليارات الدولارات على كل ما من شأنه أن يؤكد الرواية الصهيونية التي باتت متحالفة مع بعض أجنحة اليمين المسيحي في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وفي المقابل محاربة وشيطنة كل جهد بحثي وتأريخي علمي رصين يشكك في الرواية الصهيونية المشتركة مع رواية الغرب الاستعماري، وهناك الكثير من النماذج التي تؤكد هذه الخلاصات لدرجة سن قانون في فرنسا عام 1990 يجرم كل من يعمل على إعادة النظر في تاريخ اليهود بل يعتبر هذا الأمر جريمة ضد الإنسانية كما عرفتها ميثاق لندن الذي على أساسه تم محاكمة زعماء النازية..
وتعتمد إستراتيجية الحركة الصهيونية في طرح روايتها على التشكيك في قضيتين تشكلان محور الدعاية - الرواية الكاذبة:
الأولى (الأرض) عبر تصوير أرض فلسطين كصحراء قاحلة لا بشر فيها، كما قالت رئيسة المفوضية الأوروبية بأن «إسرائيل جعلت هذه الصحراء تزدهر». وعلى هذه الخلفية صاغت الحركة الصهيونية شعارها الرئيسي «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» والتي ترافقت مع عدد من النظريات العنصرية البائدة لعل أهمها نظرية «أربع دول وخمسة شعوب وعلينا التخلص من الشعب الزائد».
ومن أجل التفاف جمهور اليهود الذين في غالبيتهم لا صلة تاريخية تربطهم بفلسطين حول النظرية السابقة، فقد تم تغليف النظريات العنصرية بقوالب ومزاعم دينية لاقت رواجًا بين اليهود ومن ضمنها ما يذكره العهد القديم عن وعد قطعه الرب لبني إسرائيل بإعطائهم فلسطين، وتحديدًا تلك الرواية الواردة في سفر الخروج السادس، لكنها رواية لم ترد سوى على ألسنة اليهود أنفسهم، غير أن الأحاديث المتوالية عن إرادة يهودية مشدودة باتجاه فلسطين ليست سوى أساطير يراد بها تدعيم حق مزعوم بالسيطرة على فلسطين، وهي مزاعم لا تؤكدها أية مصادر علمية ولا تدعمها المكتشفات الأثرية لا في فلسطين ولا في المنطقة المحيطة بها.
إنطلاقًا من هذا النص تبدو فكرة الوطن صيغة مجهولة المكان والزمان وهي بلاد لم ينشأ فيها اليهود ولم يتوارثوها عن الآباء والأجداد كما حال جميع دول العالم، بل إن فكرة الوطن هنا تأتي مقرونة بصيغة الاحتلال والاستيطان (أي أرض تطأها أقدام) وهذه حالة لا يمكن أن نجد مثيلًا لها في التاريخ، فعادة ما تنشأ الأوطان بالترافق ما بين عنصري الأرض والشعب (أية جماعة بشرية تنشأ في أرض ما فتنمو وتتكاثر وتتطور مع الأرض حتى تنشأ في وجدانهم ونفوسهم فكرة الوطن)، لكن وفقًا للصيغة السابقة، فإن اليهود وجدوا أولًا ومن ثم أخذوا يبحثون عن الإقليم أو الأرض واعتباره وطنًا لهم، وهذه صيغة تخالف نظرية التطور الاجتماعي لدى جميع الشعوب وعلى مدار التاريخ..
لهذه الاسباب، وغيرها، يمكن تفسير أسباب الإصرار الإسرائيلي الأميركي والأوروبي على تغيير المناهج التربوية الفلسطينية باعتبارها إحدى مرتكزات حماية وتكريس الرواية الفلسطينية ونقلها من جيل إلى جيل، وإحدى الأدوات التي من خلالها تصاغ الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني بتاريخه وحضارته وتراثه الثري. ومن خلال هذا الاصرار يمكن فهم الأسباب الحقيقية للمشكلة المالية التي تعيشها وكالة الغوث (الأونروا) المعنية بتعليم أكثر من نصف مليون لاجيء فلسطيني بعد طلبات أميركية وأوروبية وتقارير العديد من المؤسسات البحثية الصهيونية التي دعت جميعها إلى شطب وتعديل العديد من مناهج التعليم في مدارس الأونروا، خاصة تلك التي تتحدث عن الأرض والنكبة والاحتلال والمقاومة وعن تاريخ وحضارة فلسطين وهويتها العربية الاسلامية..
الثانية هي التشكيك بوجود الشعب الفلسطيني ليس راهنًا أو لحظة إعلان قيام «دولة إسرائيل»، بل والتشكيك بصحة وجوده فوق أرض فلسطين وفقاً لما قاله وزير المالية سموتريتش «لا يوجد شعب فلسطيني وهو ليس إلا اختراع عمره أقل من مائة عام». وفي معظم الأحوال فهذا تكرار وامتداد للنظرية الأساس التي قامت عليها الحركة الصهيونية «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض».
لهذا السبب وغيره رفضت إسرائيل تاريخيًا الاعتراف بالشعب الفلسطيني وبمرجعية سياسية تمثله، وأصرت خلال فعاليات مؤتمر مدريد (1991) على التعاطي مع الفلسطينيين كمجموعات سكانية لا حقوقًا سياسية لها، وتم الاكتفاء بوفد أردني – فلسطيني مشترك، وهذه من الخطايا القاتلة التي ارتكبتها القيادة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية في تلك الفترة.. وراهنا حين يتم تناول القضية الفلسطينية من زاوية أمنية وإقتصادية، كما أشار إلى ذلك مؤخرًا البيانين الصادرين عن لقاءي العقبة وشرم الشيخ الأمنيين، إنما يخدم الهدف ذاته بالتصديق على رواية عدم وجود حقوق سياسية لشعب هو أصلًا غير موجود وإن إسرائيل «تقدم الخير لكل من يعيش في الأرض، يهودًا وغير يهود» وفقاً لحديث سموتريتش السابق.
لقد نجحت الحركة الصهيونية، وبدعم واضح وعلني من قوى دولية، من تحقيق اختراق هام لجهة تغييب الشعب الفلسطيني من الخارطة العالمية خلال الفترة التي أعقبت النكبة (1948 - 1974)، ولم يتمكن الفلسطيني من فرض نفسه على مسرح العلاقات الدولية إلا عندما انطلقت الثورة الفلسطينية، التي فرضت نفسها بتضحياتها الكبيرة على العالم لتعيد طرح الحركة الوطنية الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية مرجعية وطنية وشرعية للشعب الفلسطيني، الأمر الذي دفع بالأمم المتحدة لإصدار أهم قراراتها التي أعادت اعترافها بالشعب الفلسطيني وبحقوقه الوطنية في عدد من القرارات التي صدرت عنها، خاصة بعد تأسيس منظمة التحرير وامتلاكها لبرنامج سياسي نضالي يصارع المشروع الصهيوني الذي بقي حاضرًا لوحده لفترة تزيد عن ربع قرن، ليستعيد الشعب الفلسطيني بذلك روايته التاريخية التي بدأت تواجه الرواية الصهيونية بعد أن تيقن زعماء وقادة الحركة الصهيونية العالمية أن طريقها أصبح سالكًا، ليتبين أن هذه الطريق دونها عقبات كثيرة..
كثيرةٌ هي العوامل التي ساهمت في استعادة الرواية التاريخية الفلسطينية، يقع في مقدمتها قوة المقاومة الفلسطينية وتضحيات الشعب الفلسطيني التي جعلت القضية الفلسطينية حاضرة ونابضة بقوة الحق والعدالة فارضة نفسها على العالم. وثاني هذه العوامل برنامجًا سياسيًا يخاطب العالم بلغة واضحة عن أهداف النضال الفلسطيني، ووحدة الشعب في كل تجمعاته. فهذا ما حصل على مستوى الانجازات السياسية الكبرى التي حققتها منظمة التحرير الفلسطينية بعد اقرارها للبرنامج المرحلي، الذي كان سببًا رئيسيًا في استعادة الرواية الوطنية ووضعها في أحضان الشعب الفلسطيني، بعد سنوات من النفي والتزوير..
إن ما يقوم به جيش المستوطنين والمتطرفين اليهود من شعائر يومية في باحات المسجد الأقصى وفي محيطه، وجهد كافة المؤسسات الصهيونية بالسعي لتغيير معالم مدينة مدينة القدس بأدق تفاصيلها، هو أمر يخدم الوجهة السابقة بالسعي الحثيث لتأكيد الرواية التي كتبت منذ عقود ويجري البحث عن أي تفصيل مهما كان بسيطًا ومتواضعًا من أجل تأكيدها، حتى لو تطلب الأمر تزويرًا للتاريخ وللنصوص الدينية، لكن شرط ذلك أن تكون أية نتائج يتم التوصل إليها منسجمة مع الرواية السياسية - الدينية التي صاغها وبشكل مشترك منظرو ومؤدلجو الحركة الصهيونية العالمية والامبريالية الغربية...
لا نقلل من صعوبة وتعقيدات الصراع المتعلق بإثبات وتكريس الرواية التاريخية الفلسطينية. خاصة في ظل اختلال قوي لموازين القوى بين حوامل وروافع الروايتين الفلسطينية والصهيونية، إلا أن هناك إمكانية جدية لتتقدم الرواية الفلسطينية خطوات إلى الأمام، لكن هذا يجب أن يقترن بفعل فلسطيني مطلوب وبإرادات وسياسات شجاعة وجريئة في تحمل تبعات الصراع، مع تأكيد حقيقة يجب على الحركة الوطنية الفلسطينية بجميع مكوناتها خاصة القيادة السياسية للسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير إدراكها وهي: أننا ما زلنا في مرحلة الزرع، وبالتالي فان استعجال الحصاد من شأنه أن يدمر كل الانجازات التي يحققها الشعب الفلسطيني..
لقد عملت إسرائيل، وتحت غطاء المفاوضات العبثية واللهاث الرسمي الفلسطيني وراءها، على تكريس سياسة الاستيطان باعتبارها مسألة روتينية لم تضعها القيادة السياسية الفلسطينية على جدول أعمالها كقضية صراعية سواء في ميدان المواجهة اليومية أو على مستوى المحاكم والهيئات والمنظمات الدولية، وعملت على تغيير الطابع العمراني والأثري للكثير من المواقع والأماكن خاصة في مدينة القدس تحت غطاء إجراءات عنصرية كقوانين القومية والنكبة والعودة والبناء والاستيطان وغيرها من قوانين تشكل كل واحدة منها عنوان نضالي يستحق أن تعلن ثورة ضده..
وفي ظل حالة الانقسام والصراع الذي ينحو في جانب كبير منه إلى صراع فئوي، وما يترتب عليه من انقسامات على مستوى تجمعات الشعب الفلسطيني وتعدد المرجعيات والرسائل، واللهاث وراء وهم المفاوضات كخيار وحيد للشعب الفلسطيني، فإن القلق يصبح مشروعًا من فقدان الرواية الفلسطينية لمصداقيتها نتيجة تراجع الاهتمام بها الى مستويات متدنية في أولويات الشعب الفلسطيني ومرجعياته المختلفة.
وكما استعاد الشعب الفلسطيني قضيته وروايته قبل أكثر من نصف قرن، فنحن مدعوون لاعادة استحضار الثالوث الذهبي الذي وبسببه عادت فلسطين كقضية، وعاد شعبها لينهض من جديد: «المقاومة بكل أشكالها العسكرية والسياسية والاقتصادية والفنية والأدبية»، وهنا دعوة للقيادة السياسية للسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير إلى دعم المبدعين الفلسطينيين خاصة العاملين منهم في مجال تكريس الرواية الفلسطينية كالتأريخ والثقافة والتراث والأدب والفن والاجتماع، باعتبار كل هذه العناوين أسلحة وأدوات كتابة الرواية الوطنية الفلسطينية. ثاني هذا الثالوث الوحدة بمختلف أشكالها الميدانية والسياسية التي تقدم فلسطين إلى العالم بلغة واحدة وموحدة، مع التأكيد الدائم على حيوية الشعب الفلسطيني وقدرته على ممارسة تعدديته بما يشكل إغناء لحركتنا الوطنية ولبرنامجنا السياسي الوطني التحرري، سواء عبر الانتخابات الشاملة لكافة مؤسساتنا الوطنية أو عبر التوافقات بين الكل الفلسطيني حيث لا يمكن إجراء الانتخابات. وأخيرًا توحيد التجمعات الفلسطينية داخل وخارج فلسطين وافساح المجال أمامها للمشاركة في المعركة الوطنية وتسليحها ببرامج عمل يُمكّنها من الدفاع عن مصالحها وحقوقها.
أكدت التجربة السابقة أنه كلما ارتفع سقف الموقف الفلسطيني، كلما ارتبك المحتل الاسرائيلي وتحرك العالم واقترب من حقوقنا أكثر.. هذه معادلة شهدناها خلال سنوات نضالنا، بأن على دقة مواقفنا السياسية وصوابيتها تتحدد مواقف كل دول العالم، غير أن رفع سقف الموقف الفلسطيني لا يكفي وحده طالما أنه ما زال يتعاطى مع ما يحدث بـ«القطّارة»، الأمر الذي لا يساعد على أن نراكم على إنجازاتنا. ففي النظرة العامة إلى المشهد، لا يوجد على الطاولة سوى المشروع الأميركي الإسرائيلي، وسقف موقفنا ما زال يدور حول ما يطرح، رفضًا وقبولًا، وهذا ما سيبقينا أسرى لما هو مطروح على الساحة من مشاريع سياسية.. وهو السبب أيضًا بأن تكون مواقفنا دائمًا عبارة عن ردات فعل على فعل لسنا نحن من ساهم في صياغته.■
أضف تعليق