حالة إنكار (1)
■ انقضى العام 2022، ودعناه وداعاً غير ودي في مقالة نشرت في العديد من المنصات، ذكرنا فيها حجم تضحيات الشعب الفلسطيني، بين شهيد وأسير، وبيوت مهدمة، وأراض مصادرة، وتخريب اقتصادي على يد دولة الاحتلال الإسرائيلي الفاشي.
كما رصدنا فيها سياسات القيادة الفلسطينية، التي بنيت على ثلاثة محاور شديدة الهشاشة: الأول؛ التمسك باتفاق أوسلو وعدم الخروج منه والتحلل من استحقاقاته والتزاماته. الثاني؛ الرهان على الوعود الأميركية وعلى التحرك الدبلوماسي، في ظل موازين قوى في الأمم المتحدة لا تتيح تحقيق اختراقات لصالح القضية الفلسطينية. والثالث بطولات لفظية في بيانات تصدر عن أكثر من مركز مسؤول في السلطة الفلسطينية، أثارت سخرية الرأي العام، أكثر مما أثرت فيه لصالح القضية الوطنية.
في 3/1/2023؛ عقدت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أول اجتماع لها لهذا العام، أي بعد أيام على ولادة حكومة نتنياهو بتحالفاتها مع الفاشية الصهيونية واليهودية المتشددة، والكشف عن برنامجها الذي ينكر وجود فلسطين، وشعب فلسطين، وقضية فلسطين، مقابل التأهب لمحاربة ما سمي بـ«الإرهاب» (الاسم الآخر لشعب فلسطين) وما يسمى بـ«الخطر النووي الإيراني»، كنا نتوقع أن يكون في جعبة «التنفيذية» بعض ما يشفي الغليل في الرد على حكومة نتنياهو، لم نتوقع منها كل شيء، لأننا ندرك من خلال المتابعة أن أوضاع القيادة السياسية الفلسطينية لم تنضج بعد (متى ستنضج؟!) لتتخذ قرارات ذات انعطافية سياسية تخلخل الوضع العام، كنا نتوقع بعض الشيء، مثلاً «تعليق الاعتراف بإسرائيل» كحد أدنى، باعتبارها دولة تقودها حكومة فاشية رسمت برنامجها لتصفية القضية الفلسطينية في موجات متلاحقة. نقول: كنا نتوقع، لأننا واكبنا اجتماعاً عقده 9 من أعضاء اللجنة التنفيذية، تمهيداً للاجتماع النظامي للجنة، ناقش فيه المجتمعون سلسلة اقتراحات وخطوات بات من الضروري الإقدام عليها، وكلها تتمحور حول الشروع في تنفيذ قرارات المجلس المركزي الـ31، والمعطلة منذ 6 شباط من العام الماضي، وهي القرارات نفسها التي بنيت على قرارات المجلس المركزي في 5/3/2015، وأعاد المجلس الوطني الـ23 (2018) التأكيد عليها وتطويرها، وما زالت حتى الآن معطلة.
قدمت الورقة (حصيلة الاجتماع التحضيري الذي حضره 9 أعضاء من التنفيذية) إلى الاجتماع الرسمي، غير أن رئيس اللجنة التنفيذية رفض العمل بها وواصل سياسة التعطيل التي يقف وراءها شخصياً منذ العام 2015.
خرجت اللجنة التنفيذية ببيان إنشائي لا يحمل في طياته أية قيمة سياسية، لا لشيء سوى لأنه لا يجيب على أي من القضايا المطروحة على جدول أعمال الحياة اليومية للشعب الفلسطيني.
• ماذا بالنسبة للحكومة الإسرائيلية الجديدة وتهديداتها؟
• ماذا بالنسبة لمشروع الضم الشامل الذي أعلنت عنه باعتبارها المنطقة ما بين نهر الأردن، والبحر المتوسط أرضاً إسرائيلية؟
• ماذا بالنسبة للقدس والمقدسات التي قررت الحكومة الإسرائيلية تسريع «تهويدها» بما في ذلك المسجد الأقصى وتوابعه؟
• ماذا بالنسبة للعمل على إحياء قانون إعدام الأسرى في سجون الاحتلال؟
• ماذا بالنسبة لإلحاق قوات الحدود بوزارة الأمن القومي، لتكون إلى جانب الميليشيا المسلحة هي المعنية بالأمن في المستوطنات والأراضي المحتلة. وكيف يمكن أن نحمي المواطنين الفلسطينيين، خاصة أبناء الريف المهددين بأرزاقهم وحياتهم من هذا الخطر الداهم؟
• كيف يمكن أن تقرأ القيادة السياسية إلحاق الإدارة المدنية للاحتلال بوزارة المال الإسرائيلية، وما هي خطط مواجهة هذه النقلة الانعطافية ذات المضمون السياسي والأمني والاقتصادي الفاقع؟
أسئلة كثيرة كان يفترض أن تجيب عليها اللجنة التنفيذية، بقيت معلقة في الهواء.
ولأن الزمن ليس لصالح اللجنة التنفيذية وليس لصالح الشعب الفلسطيني وقضيته، خاصة إذا استمرت السياسة الرسمية على ما هي عليه، فقد بدأت حكومة نتنياهو هجومها، دون مقدمات، شنت غاراتها السياسية والأمنية والمالية، ليس رداً على قرارات حكومة السلطة، وليس رداً على قرارات اللجنة التنفيذية بل رداً على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، الاستعانة برأي استشاري لمحكمة لاهاي حول واقع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
• اقتحم بن غفير، بصفته وزيراً رسمياً هذه المرة، ومعبراً صادقاً عن سياسة الحكومة باحات الأقصى، وصلى فيها باعتباره ذلك حقاً من حقوقه كيهودي، وباعتبار ساحات الأقصى جزءاً من أرض «دولة إسرائيل»، وعندما لقيت هذه الزيارة انتقادات واسعة، عربية ودولية، وقف بكل وقاحة يتحدى الرأي العام، ويؤكد أن سيقتحم الأقصى مرة أخرى وثالثة، دون أي اعتبار لهذا الكم الهائل من البيانات التي لم ترمش عينه.
• الكابينيت الإسرائيلي في أول اجتماع له أقر سلسلة إجراءات، منها مصادرة 33 مليون دولار هي استحقاقات الأسرى والشهداء وعوائلهم من أموال الشعب الفلسطيني في نظام المقاصة وسحب بطاقات «VIP» من عدد من المسؤولين في السلطة وفي م. ت. ف. منع عدد من المسؤولين من السفر إلى خارج الضفة الفلسطينية، لعرقلة أعمال الجانب الفلسطيني الرسمي، وإجراءات ميدانية أخرى بعضها تم الإعلان عنه، والبعض الآخر ما زال طي الكتمان، كما تؤكد الصحافة الإسرائيلية المتداولة في بعض الصحف العربية.
• أصدرت قراراتً بمنع رفع العلم الفلسطيني في مناطق الـ48، وسحب الجنسية (الإسرائيلية) من كل من يرفع العلم، أو يساند «الإرهاب» (النضال الوطني للشعب الفلسطيني).
• منع «جمع الشمل» بين أفراد العائلات الفلسطينية الموزعة بين الضفة من جهة، وقطاع غزة من جهة أخرى.
• عدم الاكتفاء بسجن «الإرهابيين» الفلسطينيين، أو هدم منازلهم، أو مصادرة أملاكهم، بل والعمل كذلك لنفيهم خارج أراضي الضفة الفلسطينية (المسماة أرض إسرائيل) وتجريدهم من الرقم الوطني، بحيث يتحولون مرة أخرى إلى مواطنين عديمي الجنسية، كملايين اللاجئين الفلسطينيين حاملي وثائق السفر الممنوحة لهم من الدول العربية المضيفة.
السؤال: كيف نقرأ خطوات الاحتلال الإسرائيلي؟
الجواب واضح: كل هذه الإجراءات الإسرائيلية (وهي غيض من فيض وما خفي أعظم)، إنما صدرت رداً على خطوة دبلوماسية لم نعرف نتائجها بعد، خطوة نفخت فيها السلطة الفلسطينية لتجعل منها رجلاً بلاستيكياً منفوخاً بالهواء، تكفي وخزة لمرة حتى يهمد في أرضه ويتحول إلى كتلة من المواد البلاستيكية.
صحيح إن إحالة قضية الاحتلال إلى محكمة لاهاي أمر مهم، لكن الصحيح أن الأمر مهم بخواتيمه، ولنا في هذه القضايا تجارب.
• التجربة الأولى عندما رفعت السلطة الفلسطينية عبر الجمعية العامة ملف «جدار الفصل» إلى محكمة لاهاي، رد المحكمة كان مفاجئاً ليس لإسرائيل فحسب، بل وللسلطة الفلسطينية، إذ أعادت المحكمة بحث القضية الفلسطينية، وأشارت إلى أن القرار 181 دعا إلى قيام دولتين، وأنه حتى اللحظة لم ينفذ، لأن الدولة الفلسطينية لم تقم، وأكد القرار على ضرورة أن يتحمل المجتمع الدولي مسؤوليته في مساعدة الفلسطينيين وإزالة العراقيل أمام قيام دولتهم الفلسطينية، ثم أقرت محكمة لاهاي أن «الجدار» اعتداء على مصالح الفلسطينيين ودعت إلى إزالته، وإعادة الأراضي المصادرة لأصحابها، وجبر الضرر الذي عطل «الجدار» مصالحهم.
ما حصل أن السلطة الفلسطينية ونزولاً عند الضغط الأميركي، ورهاناً على الوعود الأميركية، عطلت مسار القرار وإحالته إلى الجمعية العامة وبعدها إلى مجلس الأمن، لأنها كانت تراهن على وعد من الرئيس الأميركي بقيام دولة فلسطينية نهاية 2008.
في نهاية 2008، غادر بوش الابن البيت الأبيض، حاملاً معه أكاذيبه، واختتمت حكومة أولمرت - ليفني العام المذكور بحرب دموية ضد قطاع غزة، استمر حتى مطلع العام 2009.
... وبقي «الجدار» يعطل حياة الفلسطينيين ويصادر أراضيهم.
• التجربة الثانية كانت مع تقرير الجنوب إفريقي غولدستون، الذي بناء على تكليف من مجلس حقوق الإنسان (الدولي) رفع تقريراً يدين فيه ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، والتي رأى أنها ترتقي إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
أثار تقرير غولدستون (اليهودي والجنوب إفريقي) ضجة كبرى في إسرائيل وأوروبا وأميركا، وأثلج صدر الفلسطينيين، لكن ماكينة الضغط الأميركية والغربية، بدأت توزع «نصائحها» منها «نصيحة» خاصة إلى السلطة الفلسطينية بعدم طلب التصويت على التقرير في مجلس حقوق الإنسان، لإجازته ومن ثم تحويله إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس أمنها.
السلطة الفلسطينية، ذات المفاصل الرخوة (وهي رخوة على الدوام) والتي تقيم سياستها على الرهانات (وهي دوماُ تقيم سياساتها على الرهان) والتي تستجيب للضغوط الأميركية (أيضاً على الدوام؛ طلبت عدم التصويت على التقرير (تخيلوا مشاعر غولدستون على سبيل المثال، عندما تعطل السلطة الفلسطينية (نفسها وليست إسرائيل تقريره) وتبخر التقرير في الهواء، وذهبت جهود غولدستون ومعه مجلس حقوق الإنسان أدراج الرياح.
لذلك نسأل بجد، من يضمن لنا أن لا تعطل السلطة الفلسطينية نتائج أعمال محكمة لاهاي، إذا ما ضغطت الولايات المتحدة وأطلقت عدداً جديداً من بوالينها الملونة، ترى فيها السلطة وعوداً براقة.
إلى ما يمكن أن نخلص في نهاية المطاف:
أولاً- أن القيادة الرسمية ما زالت تعطل قرارات الشرعية الفلسطينية، وهذا ما اعترفت به في الخطاب الرئاسي في أيلول الماضي أمام الدورة العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة.
ثانياً- أنها ما زالت تلتزم اتفاق أوسلو واستحقاقاته، وأنها لن تغادره في المدى المنظور (ولا حتى غير المنظور؟)، وهذا أيضاً ما اعترفت به في الأمم المتحدة، وإن كانت في كل مرة تلوح بأنها ستقدم «يوماً ما» على مغادرة الاتفاق.
ثالثاً- أنها تستبدل المواجهة الميدانية للاحتلال، في مواجهات سياسية دبلوماسية، تبقى قرارات معلقة في الهواء، بالمقابل تلجأ دولة الاحتلال إلى الرد على هذه «الإجراءات الهوائية واللفظية» بإجراءات ميدانية تحفر في الأرض وقائع ملموسة وفاعلة ومؤثرة.
رابعاً- أن القيادة الرسمية ما زالت تراهن على الوعود الأميركية التي اعترفت على لسان الرئيس بايدن ووزير خارجيته بلينكن، ومستشاره لشؤون الأمن القومي جيك سوليفان، ومبعوثه الخاص إلى المنطقة هادي عمرو، ومساعدته بربارا ليف، إن هذه الوعود لن تطبق «في المدى المنظور، وأن عليكم التعايش مع الاحتلال وإجراءاته وسياساته، فلإسرائيل الحق الدائم في الدفاع عن نفسها، وإسرائيل هي الشريك الاستراتيجي الأول الرئيسي للولايات المتحدة في المنطقة، وأياً كان رئيس حكومة إسرائيل فإن الولايات المتحدة لا تتعامل مع أشخاص، بل مع دول ومؤسسات ...».
خامساً- والأهم أن القيادة الرسمية تدعو إلى المقاومة «السلمية»، ولا تتوقف في الوقت نفسه عن اعتقال المناضلين والمقاومين الفلسطينيين، حتى الذين لا يخالفون حدود المقاومة السلمية (معارضة السلطة. ليست مقاومة سلمية!).
سادساً- أنها، وهذا الأهم، لم تقرأ التقارير المتعددة حول النتائج الثقيلة لتضحيات الشعب الفلسطيني في المواجهات البطولية ضد الاحتلال خلال العام الفائت 2022.
إنها، وللحق يقال، سلطة وقيادة سلطة تعيشان في حالة إنكار تام لما يجري حولها ■
كما رصدنا فيها سياسات القيادة الفلسطينية، التي بنيت على ثلاثة محاور شديدة الهشاشة: الأول؛ التمسك باتفاق أوسلو وعدم الخروج منه والتحلل من استحقاقاته والتزاماته. الثاني؛ الرهان على الوعود الأميركية وعلى التحرك الدبلوماسي، في ظل موازين قوى في الأمم المتحدة لا تتيح تحقيق اختراقات لصالح القضية الفلسطينية. والثالث بطولات لفظية في بيانات تصدر عن أكثر من مركز مسؤول في السلطة الفلسطينية، أثارت سخرية الرأي العام، أكثر مما أثرت فيه لصالح القضية الوطنية.
في 3/1/2023؛ عقدت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أول اجتماع لها لهذا العام، أي بعد أيام على ولادة حكومة نتنياهو بتحالفاتها مع الفاشية الصهيونية واليهودية المتشددة، والكشف عن برنامجها الذي ينكر وجود فلسطين، وشعب فلسطين، وقضية فلسطين، مقابل التأهب لمحاربة ما سمي بـ«الإرهاب» (الاسم الآخر لشعب فلسطين) وما يسمى بـ«الخطر النووي الإيراني»، كنا نتوقع أن يكون في جعبة «التنفيذية» بعض ما يشفي الغليل في الرد على حكومة نتنياهو، لم نتوقع منها كل شيء، لأننا ندرك من خلال المتابعة أن أوضاع القيادة السياسية الفلسطينية لم تنضج بعد (متى ستنضج؟!) لتتخذ قرارات ذات انعطافية سياسية تخلخل الوضع العام، كنا نتوقع بعض الشيء، مثلاً «تعليق الاعتراف بإسرائيل» كحد أدنى، باعتبارها دولة تقودها حكومة فاشية رسمت برنامجها لتصفية القضية الفلسطينية في موجات متلاحقة. نقول: كنا نتوقع، لأننا واكبنا اجتماعاً عقده 9 من أعضاء اللجنة التنفيذية، تمهيداً للاجتماع النظامي للجنة، ناقش فيه المجتمعون سلسلة اقتراحات وخطوات بات من الضروري الإقدام عليها، وكلها تتمحور حول الشروع في تنفيذ قرارات المجلس المركزي الـ31، والمعطلة منذ 6 شباط من العام الماضي، وهي القرارات نفسها التي بنيت على قرارات المجلس المركزي في 5/3/2015، وأعاد المجلس الوطني الـ23 (2018) التأكيد عليها وتطويرها، وما زالت حتى الآن معطلة.
قدمت الورقة (حصيلة الاجتماع التحضيري الذي حضره 9 أعضاء من التنفيذية) إلى الاجتماع الرسمي، غير أن رئيس اللجنة التنفيذية رفض العمل بها وواصل سياسة التعطيل التي يقف وراءها شخصياً منذ العام 2015.
خرجت اللجنة التنفيذية ببيان إنشائي لا يحمل في طياته أية قيمة سياسية، لا لشيء سوى لأنه لا يجيب على أي من القضايا المطروحة على جدول أعمال الحياة اليومية للشعب الفلسطيني.
• ماذا بالنسبة للحكومة الإسرائيلية الجديدة وتهديداتها؟
• ماذا بالنسبة لمشروع الضم الشامل الذي أعلنت عنه باعتبارها المنطقة ما بين نهر الأردن، والبحر المتوسط أرضاً إسرائيلية؟
• ماذا بالنسبة للقدس والمقدسات التي قررت الحكومة الإسرائيلية تسريع «تهويدها» بما في ذلك المسجد الأقصى وتوابعه؟
• ماذا بالنسبة للعمل على إحياء قانون إعدام الأسرى في سجون الاحتلال؟
• ماذا بالنسبة لإلحاق قوات الحدود بوزارة الأمن القومي، لتكون إلى جانب الميليشيا المسلحة هي المعنية بالأمن في المستوطنات والأراضي المحتلة. وكيف يمكن أن نحمي المواطنين الفلسطينيين، خاصة أبناء الريف المهددين بأرزاقهم وحياتهم من هذا الخطر الداهم؟
• كيف يمكن أن تقرأ القيادة السياسية إلحاق الإدارة المدنية للاحتلال بوزارة المال الإسرائيلية، وما هي خطط مواجهة هذه النقلة الانعطافية ذات المضمون السياسي والأمني والاقتصادي الفاقع؟
أسئلة كثيرة كان يفترض أن تجيب عليها اللجنة التنفيذية، بقيت معلقة في الهواء.
ولأن الزمن ليس لصالح اللجنة التنفيذية وليس لصالح الشعب الفلسطيني وقضيته، خاصة إذا استمرت السياسة الرسمية على ما هي عليه، فقد بدأت حكومة نتنياهو هجومها، دون مقدمات، شنت غاراتها السياسية والأمنية والمالية، ليس رداً على قرارات حكومة السلطة، وليس رداً على قرارات اللجنة التنفيذية بل رداً على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، الاستعانة برأي استشاري لمحكمة لاهاي حول واقع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
• اقتحم بن غفير، بصفته وزيراً رسمياً هذه المرة، ومعبراً صادقاً عن سياسة الحكومة باحات الأقصى، وصلى فيها باعتباره ذلك حقاً من حقوقه كيهودي، وباعتبار ساحات الأقصى جزءاً من أرض «دولة إسرائيل»، وعندما لقيت هذه الزيارة انتقادات واسعة، عربية ودولية، وقف بكل وقاحة يتحدى الرأي العام، ويؤكد أن سيقتحم الأقصى مرة أخرى وثالثة، دون أي اعتبار لهذا الكم الهائل من البيانات التي لم ترمش عينه.
• الكابينيت الإسرائيلي في أول اجتماع له أقر سلسلة إجراءات، منها مصادرة 33 مليون دولار هي استحقاقات الأسرى والشهداء وعوائلهم من أموال الشعب الفلسطيني في نظام المقاصة وسحب بطاقات «VIP» من عدد من المسؤولين في السلطة وفي م. ت. ف. منع عدد من المسؤولين من السفر إلى خارج الضفة الفلسطينية، لعرقلة أعمال الجانب الفلسطيني الرسمي، وإجراءات ميدانية أخرى بعضها تم الإعلان عنه، والبعض الآخر ما زال طي الكتمان، كما تؤكد الصحافة الإسرائيلية المتداولة في بعض الصحف العربية.
• أصدرت قراراتً بمنع رفع العلم الفلسطيني في مناطق الـ48، وسحب الجنسية (الإسرائيلية) من كل من يرفع العلم، أو يساند «الإرهاب» (النضال الوطني للشعب الفلسطيني).
• منع «جمع الشمل» بين أفراد العائلات الفلسطينية الموزعة بين الضفة من جهة، وقطاع غزة من جهة أخرى.
• عدم الاكتفاء بسجن «الإرهابيين» الفلسطينيين، أو هدم منازلهم، أو مصادرة أملاكهم، بل والعمل كذلك لنفيهم خارج أراضي الضفة الفلسطينية (المسماة أرض إسرائيل) وتجريدهم من الرقم الوطني، بحيث يتحولون مرة أخرى إلى مواطنين عديمي الجنسية، كملايين اللاجئين الفلسطينيين حاملي وثائق السفر الممنوحة لهم من الدول العربية المضيفة.
السؤال: كيف نقرأ خطوات الاحتلال الإسرائيلي؟
الجواب واضح: كل هذه الإجراءات الإسرائيلية (وهي غيض من فيض وما خفي أعظم)، إنما صدرت رداً على خطوة دبلوماسية لم نعرف نتائجها بعد، خطوة نفخت فيها السلطة الفلسطينية لتجعل منها رجلاً بلاستيكياً منفوخاً بالهواء، تكفي وخزة لمرة حتى يهمد في أرضه ويتحول إلى كتلة من المواد البلاستيكية.
صحيح إن إحالة قضية الاحتلال إلى محكمة لاهاي أمر مهم، لكن الصحيح أن الأمر مهم بخواتيمه، ولنا في هذه القضايا تجارب.
• التجربة الأولى عندما رفعت السلطة الفلسطينية عبر الجمعية العامة ملف «جدار الفصل» إلى محكمة لاهاي، رد المحكمة كان مفاجئاً ليس لإسرائيل فحسب، بل وللسلطة الفلسطينية، إذ أعادت المحكمة بحث القضية الفلسطينية، وأشارت إلى أن القرار 181 دعا إلى قيام دولتين، وأنه حتى اللحظة لم ينفذ، لأن الدولة الفلسطينية لم تقم، وأكد القرار على ضرورة أن يتحمل المجتمع الدولي مسؤوليته في مساعدة الفلسطينيين وإزالة العراقيل أمام قيام دولتهم الفلسطينية، ثم أقرت محكمة لاهاي أن «الجدار» اعتداء على مصالح الفلسطينيين ودعت إلى إزالته، وإعادة الأراضي المصادرة لأصحابها، وجبر الضرر الذي عطل «الجدار» مصالحهم.
ما حصل أن السلطة الفلسطينية ونزولاً عند الضغط الأميركي، ورهاناً على الوعود الأميركية، عطلت مسار القرار وإحالته إلى الجمعية العامة وبعدها إلى مجلس الأمن، لأنها كانت تراهن على وعد من الرئيس الأميركي بقيام دولة فلسطينية نهاية 2008.
في نهاية 2008، غادر بوش الابن البيت الأبيض، حاملاً معه أكاذيبه، واختتمت حكومة أولمرت - ليفني العام المذكور بحرب دموية ضد قطاع غزة، استمر حتى مطلع العام 2009.
... وبقي «الجدار» يعطل حياة الفلسطينيين ويصادر أراضيهم.
• التجربة الثانية كانت مع تقرير الجنوب إفريقي غولدستون، الذي بناء على تكليف من مجلس حقوق الإنسان (الدولي) رفع تقريراً يدين فيه ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، والتي رأى أنها ترتقي إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
أثار تقرير غولدستون (اليهودي والجنوب إفريقي) ضجة كبرى في إسرائيل وأوروبا وأميركا، وأثلج صدر الفلسطينيين، لكن ماكينة الضغط الأميركية والغربية، بدأت توزع «نصائحها» منها «نصيحة» خاصة إلى السلطة الفلسطينية بعدم طلب التصويت على التقرير في مجلس حقوق الإنسان، لإجازته ومن ثم تحويله إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس أمنها.
السلطة الفلسطينية، ذات المفاصل الرخوة (وهي رخوة على الدوام) والتي تقيم سياستها على الرهانات (وهي دوماُ تقيم سياساتها على الرهان) والتي تستجيب للضغوط الأميركية (أيضاً على الدوام؛ طلبت عدم التصويت على التقرير (تخيلوا مشاعر غولدستون على سبيل المثال، عندما تعطل السلطة الفلسطينية (نفسها وليست إسرائيل تقريره) وتبخر التقرير في الهواء، وذهبت جهود غولدستون ومعه مجلس حقوق الإنسان أدراج الرياح.
لذلك نسأل بجد، من يضمن لنا أن لا تعطل السلطة الفلسطينية نتائج أعمال محكمة لاهاي، إذا ما ضغطت الولايات المتحدة وأطلقت عدداً جديداً من بوالينها الملونة، ترى فيها السلطة وعوداً براقة.
إلى ما يمكن أن نخلص في نهاية المطاف:
أولاً- أن القيادة الرسمية ما زالت تعطل قرارات الشرعية الفلسطينية، وهذا ما اعترفت به في الخطاب الرئاسي في أيلول الماضي أمام الدورة العادية للجمعية العامة للأمم المتحدة.
ثانياً- أنها ما زالت تلتزم اتفاق أوسلو واستحقاقاته، وأنها لن تغادره في المدى المنظور (ولا حتى غير المنظور؟)، وهذا أيضاً ما اعترفت به في الأمم المتحدة، وإن كانت في كل مرة تلوح بأنها ستقدم «يوماً ما» على مغادرة الاتفاق.
ثالثاً- أنها تستبدل المواجهة الميدانية للاحتلال، في مواجهات سياسية دبلوماسية، تبقى قرارات معلقة في الهواء، بالمقابل تلجأ دولة الاحتلال إلى الرد على هذه «الإجراءات الهوائية واللفظية» بإجراءات ميدانية تحفر في الأرض وقائع ملموسة وفاعلة ومؤثرة.
رابعاً- أن القيادة الرسمية ما زالت تراهن على الوعود الأميركية التي اعترفت على لسان الرئيس بايدن ووزير خارجيته بلينكن، ومستشاره لشؤون الأمن القومي جيك سوليفان، ومبعوثه الخاص إلى المنطقة هادي عمرو، ومساعدته بربارا ليف، إن هذه الوعود لن تطبق «في المدى المنظور، وأن عليكم التعايش مع الاحتلال وإجراءاته وسياساته، فلإسرائيل الحق الدائم في الدفاع عن نفسها، وإسرائيل هي الشريك الاستراتيجي الأول الرئيسي للولايات المتحدة في المنطقة، وأياً كان رئيس حكومة إسرائيل فإن الولايات المتحدة لا تتعامل مع أشخاص، بل مع دول ومؤسسات ...».
خامساً- والأهم أن القيادة الرسمية تدعو إلى المقاومة «السلمية»، ولا تتوقف في الوقت نفسه عن اعتقال المناضلين والمقاومين الفلسطينيين، حتى الذين لا يخالفون حدود المقاومة السلمية (معارضة السلطة. ليست مقاومة سلمية!).
سادساً- أنها، وهذا الأهم، لم تقرأ التقارير المتعددة حول النتائج الثقيلة لتضحيات الشعب الفلسطيني في المواجهات البطولية ضد الاحتلال خلال العام الفائت 2022.
إنها، وللحق يقال، سلطة وقيادة سلطة تعيشان في حالة إنكار تام لما يجري حولها ■
أضف تعليق