الأدب والحياة.. زواج المبدعين ثراء المتخيل وفقر الواقع
بيروت(الاتجاه الديمقراطي)
في هذا البحث المعنون بـ"زواج المبدعين ثراء المتخيل وفقر الواقع"، يذهب الشاعر شوقي بزيع إلى كشف المفارقة بين مخيلة الشعراء المبدعين وكتاباتهم والواقع المختلف الذي يحمل الطباع والأمزجة بكل ما فيها من غرابة، ليستنتج أنّهم عشاق رائعون وأزواج فاشلون، ويعود ذلك إلى تعلق المبدع بالحرية، بحسب تقديره.
ويحاول مؤلف هذا الكتاب (الصادر حديثًا عن دار مسكيلياني للنشر والتوزيع، تونس، 2022)، إظهار العلاقة الوثيقة بين الانزياح السلوكي عند بعض البشر وانزياحهم الأسلوبي ورؤاهم الخارجة عن المألوف. ويخلص إلى أنّ معظم العلاقات انهارت على صخرة المؤسسة الزوجية، كما يسميها، لأن الحب يتغذى من المواد التي يتغذى منها الإبداع، ففي رأيه المبدعون كائنات شديدة النزق غير قابلة للتدجين.
ويتناول الشاعر شوقي بزيع في هذه الدراسة 32 مبدعًا ومبدعة مستأنفًا الكتاب بمقدمة مطوّلة تتألّف من 38 صفحة يعرض فيها لرأيه في الموضوع متعمقًا وداعمًا ذلك بأفكار فلاسفة وأدباء وعلماء أثروا هذا الموضوع.
الفن والحياة
وينطلق شوقي بزيع من آراء النقاد والمبدعين الذين يرون أنّ مغامرة الكتابة تقتضي الصمت والتأمّل إنّها لحظة الإبداع التي تأتي الشاعر عبر إشارات، وهي كالبارقة التي عليه أن يلتقطها قبل أن تختفي. فثمة أسئلة قد لا يجد لها المبدع إجابات، وهي تتأرجح بين العزلة التي تتطلّبها الكتابة والزواج الذي يعدّ حقًّا طبيعيًّا له، وللمبدع اتّخاذ هذا القرار. أما صعوبة الإجابة عن مثل هذه الأسئلة فتعود إلى إشكالية العلاقة بين الفن والحياة والفروقات الشخصية والحضارية والثقافية بين المجتمعات.
ويدعم بزيع رأيه بفكرة أنّ المبدع إذا اختار الحياة الزوجية، فهو لن يتمكن من التفرّغ للإبداع وسيكون عليه اختيار مهنة ملائمة لرعاية زوجته وأطفاله. من هنا تفقد في حياته شروط الإبداع وبذلك لن يتفرغ للكتابة وسيخضع للقيود والسنن الاجتماعية.
أما الإشكالية الأخرى فهي العلاقة بين الإبداع والحياة. بالنسبة إليه مادة المبدع واسعة وقد لا تتسع لها الحياة بأكملها. ويدعو صاحب "إلى أين تأخذني أيها الشعر" إلى ترسيم الحدود بين الحياة والفن لأنّه برأيه من الصعب التوفيق بين الاثنين وسيكون أمام حياة للعيش وأخرى للتعبير عنها.
تأثير الزواج في الإبداع
ويشير الشاعر إلى الترابط العضوي بين الحرية والمسؤولية الذي يتأتى من أساس فلسفة الفيلسوف الفرنسي سارتر (1905 – 1980) الوجودية. فخيار الزواج والعزوبة موضوع يخص الإنسان، ومن الطبيعي أن يؤثر هذا الأمر في النشاط الإبداعي للمبدع. ثم يطرح مواقف ورؤى متناقضة حول قضية المرأة والزواج، فيرى الفيلسوف السويسري جان جاك روسو (1712 – 1778) أنّ المرأة مساوية للرجل أو العكس أحيانًا. أما الفيلسوف الألماني شوبنهاور (1788 – 1860) فيكره المرأة عمومًا لأنه يعتبرها سبب التكاثر وامتداد شقاء البشرية.
ويوظّف بزيع ثقافته واطلاعه في التطورات الأنثروبولوجية والأعراف الاجتماعية التي حكمت العلاقات الزوجية والأسرية، ليتطرّق إلى العقد الاجتماعي الذي توصلت إليه البشرية ويعرض لصور الزواج وتبدله عبر الزمان وتبدل مفاهيمه.
وهنا ينتبه إلى تعدد وجهات النظر بين علماء الأنثروبولوجيا والتاريخ والاجتماع، حيث يرى المستشرق الفرنسي والأنثروبولجي روببرت مونتاني (1893 – 1954) أن الزواج التقليدي نوع من أنواع الإعاقة التي تشلّ الحياة والإبداع على حد سواء.
ويعرّف بزيع الزواج على أنه مؤسسة زوجية تستنزف الطاقة الإبداعية بسبب المسؤوليات العائلية، بحسب تقديره.
ويلتفت بزيع إلى قول الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (1884 – 1962) بأن البيت هو ركننا في العالم وهو دلالة الدفء الفردوسي مع العائلة، أما المبدع فيحتاج إلى العزلة للتعمق والتأمل.
ويتابع صاحب "مسارات الحداثة" أنّ العمل الإبداعي شأن فردي ويحتاج إلى فضاء واسع غير قابل للتقاسم وإلا تشتت المبدع وفقد حالة إبداعه خصوصًا أنّ مشاكل الزواج كثيرة بما فيها الأعباء المادية والغيرة التي تعود إلى الطبائع والأمزجة وأمور أخرى بما لا يترك مجالًا لتوسع الأنا فيتم التصادم.
كتّاب كثيرون تحدثوا عن ملازمة المكان نفسه -بكل ما فيه من ضيق- تصيب المبدع بالاهتراء ما يؤثر في علاقته الزوجية بتكرر المواقف والتصرفات فيفقد تجدد اللغة ويحتاج إلى نفس جديد ما يجعلهم مثلًا يستعيدون شهيتهم إلى الكلام باستقبال ضيوف جدد.
تقاطع الجسدين الاجتماعي والإبداعي
ويعرض صاحب "فراشات لابتسامة بوذا" لإشكالية العلاقة بالجسد قبولًا ورفضًا ويرى أنها علاقة غير ثابتة تتغير وفقًا لتغير المنظورات المجتمعية من حيث الدين والدنيا والمفاهيم. فالجسد ما قبل الديني كان أقرب إلى محاكاة الطبيعة البرية حيث لم يكن الإنسان مدركًا للخجل آنذاك، على أن الجسد كان امتدادا للموجودات والكائنات ثم ما لبث أن ارتبط بخطيئة الكون فتغيرت النظرة إلى إليه ووجد الخجل.
ويتقاطع الجسد الإبداعي مع الجسد الديني، لأنّ الجسد الإبداعي أقرب إلى العصف الجمالي الشبقي على حد تعبير بزيع، وهو يستحق المغامرة من أجله، وصولًا إلى تعويض الأعضاء الشبقية بالأمومة الطاهرة فيما بعد ويتبدى هنا الانشطار الجسد الأنثوي بين النزعة الشبقية والأمومية.
الحب شعر العالم والزواج نثره
ويطرح الشاعر سؤالًا مهمًّا: هل الحب شعر العالم والزواج نثره؟ فكر الشاعر في هذه الصيغة التساؤلية بناء على طبائع وأمزجة البشر مضيئًا على التوازي والشبه بين الحب والشعر والزواج والنثر، على أن الحب عاطفة قائمة على التوتر والانفعالات معادل الشعر الرمزي المبني على اختلال العلاقة بالعالم والمتخيل والكثافة اللغوية.
أما الزواج فهو علاقة عقدية بين طرفين داخل مؤسسة خاضعة للأحكام والقوانين التي تنظّم المجتمعات. وتطغى الرتابة على الحياة الزوجية فتنعدم المسافة بين الطرفين وتقتل الأحلام. وينتبه الشاعر إلى أنّ الأزواج يكتبون في بداية العلاقة ثم تراهم يصابون بالخرس ليصلوا إلى المفاجأة فيرثون زوجاتهم بعد الموت.
في الصفحات الثلاث الأخيرة يكتب شوقي بزيع تجربته الشخصية كاشفا رأيه بفكرة العزوبة كمرادف للحرية والشغف، معتبرا ما يعوّض تبعات المؤسسة الزوجية هو حظه في زوجة هادئة الطباع متفهمة وابنتين رائعتين، فيقول "إذا كان الشعر من ناحية أخرى قد أصيب ببعض الكدمات الجانبية وبالخصوص في ما يتعلق بقصائد الحب والوله العاطفي، فقد وجد ضالته المقابلة في تربة التأمل والحكمة والحفر الداخلي".
ولا يخفي شوقي بزيع أنّ ما دفعه إلى البحث وكتابة هذه السير العاطفية هو اهتمامه بمن يشبهه من عالم الفن والكتابة فراح يعمل بطريقة موضوعية باحثًا عن أسباب المشاكل الزوجية والظروف المحيطة بها ونتائجها. ويضيف إلى أنّ بعض الثنائيات الزوجية لم يتسنّ للشاعر مقاربتها لعدم توافر المصادر والبعض الآخر خصوصًا العربية منها حيث كانت نادرة للمساحة المحدودة المتاحة في الدراسات.
ثنائيان مبدعان
عن الزوجين الفرنسيين الكاتبة إلسا تريوليه والشاعر أراغون يخبرنا شوقي بزيع أنهما أصدرا الأعمال السردية المشتركة وقد كتبت إلسا تقديمًا لها لتكون الكتابة تكليلًا لعلاقة الحب الأسمى الذي جمعهما لعقود.
وهذه العلاقة لا تشبه العلاقات المألوفة بل هي أنموذج من العشق والوله. أراغون الذي كشف في حواراته عن حبه العميق لإلسا رأى فيها جوهر كينونته ومعنى وجوده. ويضيء بزيع إلى إشكالية تطابق الواقع مع المتخيل في الأدب، ولا ينفي بعض المطبات التي قد تصيب العلاقة ولكن قد يتخطّاها الطرفان ويتحلقان حول الكتابة.
وقد كانت المرأة ملهمة نزار قباني ومحور حياته وشعره وعلى الرغم من أن قباني يؤكد تعلقه بالجانبين الروحي والعاطفي لدى المرأة وليس كما يقال أنه يبحث عن التجليات الأنثوية المتباينة.
ويعتبر المؤلف أن قباني حرر الجسد من القيود الاجتماعية واللغة عبر الكتابة من الواقع والحياة اليومية. وكان يتقمّص شخصيات عبر الكتابة وتميز بالجرأة في الطرح. بالنسبة إلى بزيع فإنّ شاعرًا كنزار هو أقلّ تناغمًا مع المؤسسة الزوجية. فالزوجة الأولى التي أنجب منها فقدته بسبب الغيرة المرة بينما بلقيس الراوي فقد كانت لافتة، شُغف بها وتبادل معها الرسائل وبذلا جهدًا كبيرًا لتخطي مشاكل الزواج ومنها الغيرة التي تحكّم بها الزوجان.
ويتابع شوقي بزيع بحثه عن العلاقة العاطفية الاستثنائية الوثيقة بين الناقدة خالدة سعيد والشاعر المفكر أدونيس. ويشير إلى نظرة العالم العربيّ لمن يتناول المواضيع الشخصية بنوع من انتهاك حرمة الموتى خصوصًا إثر الكتابة عن الراحلين ويعتبر أنّ هذا ما أثّر سلبًا في أدب المذكرات والاعترافات وفنّ السيرة على عكس الغرب خصوصًا لأن الأمر متعلّق بالشخصيات والفنانين المشهورين.
ويرى بزيع تكاملًا عظيمًا في علاقة خالدة سعيد بأدونيس وقد تناولت خالدة بالنقد أدونيس وكتبت باسم مستعار وهي مفتتنة بتجربته وكانت تشعر بالخجل كما كان لها دور مهمّ في المجلة. ومن يتابع تصريحاتهما يكتشف اختلاف الرأيين حول المؤسسة الزوجية. فأدونيس يذهب إلى اعتناق الحرية إلى أقصى حد أكثر من خالدة التي تبدو أكثر تحفظا.
أراد الشاعر شوقي بزيع الكشف عن ملابسات العلاقة بين محمد الماغوط وسنية صالح مشيرًا إلى ما أوردته خالدة سعيد من إشارات حول حياة أختها القاسية بالإضافة إلى السيرة التي وثقها عيسى الماغوط لحياة أخيه كذلك تصريحات الماغوط المليئة بالسواد حول علاقته بزوجته، لكن بعد وفاتها شعر بالحزن لرحيلها المبكر والتقصير في التعبير عن حبه لها.
ويكشف مؤلف هذا الكتاب عن اعتراف غارسيا ماركيز بأنّ المرأة هي الوحيدة التي تمنحه الشعور بالأمان وتأثر أديب نوبل في مفاهيمه بالتربية الكاثوليكية.
ويقرّ ماركيز في مذكراته أن المرأة التي شغف بها طوال حياته كانت مرسيدس برشا وقد سعى جاهدًا للزواج بها بالرغم من رفضها له في البداية. ويتابع بزيع بأن ماركيز كان يشعر بالخجل الشديد في علاقته بالنساء. وقد مثلت مرسيدس دورًا إيجابيًّا في حياته ورزق منها بطفلين. وكانت تكبح مشاعر الغيرة للحفاظ على علاقتهما. وبالرغم من حنكتها وذكائها لم يخف على مرسيدس علاقات زوجها وطلبت أن تكمل رحلة الموت بجانب زوجها فاختارت أن يوضع رمادها المتبقي بجانبه.
مبدعون كثر تناولهم الشاعر شوقي بزيع في هذا الكتاب الذي تألف من 351 صفحة وقرأ في بعضهم الجانب الإيجابي الذي أدى إلى استمرارية العلاقة بين الزوجين وفي بعضهم الآخر الجانب السلبي الذي أدى إلى دمارها وانهيارها وما أتينا على ذكره من الثنائيات المطروحة ليس إلا نقطة من ماء البئر.
في هذا البحث المعنون بـ"زواج المبدعين ثراء المتخيل وفقر الواقع"، يذهب الشاعر شوقي بزيع إلى كشف المفارقة بين مخيلة الشعراء المبدعين وكتاباتهم والواقع المختلف الذي يحمل الطباع والأمزجة بكل ما فيها من غرابة، ليستنتج أنّهم عشاق رائعون وأزواج فاشلون، ويعود ذلك إلى تعلق المبدع بالحرية، بحسب تقديره.
ويحاول مؤلف هذا الكتاب (الصادر حديثًا عن دار مسكيلياني للنشر والتوزيع، تونس، 2022)، إظهار العلاقة الوثيقة بين الانزياح السلوكي عند بعض البشر وانزياحهم الأسلوبي ورؤاهم الخارجة عن المألوف. ويخلص إلى أنّ معظم العلاقات انهارت على صخرة المؤسسة الزوجية، كما يسميها، لأن الحب يتغذى من المواد التي يتغذى منها الإبداع، ففي رأيه المبدعون كائنات شديدة النزق غير قابلة للتدجين.
ويتناول الشاعر شوقي بزيع في هذه الدراسة 32 مبدعًا ومبدعة مستأنفًا الكتاب بمقدمة مطوّلة تتألّف من 38 صفحة يعرض فيها لرأيه في الموضوع متعمقًا وداعمًا ذلك بأفكار فلاسفة وأدباء وعلماء أثروا هذا الموضوع.
الفن والحياة
وينطلق شوقي بزيع من آراء النقاد والمبدعين الذين يرون أنّ مغامرة الكتابة تقتضي الصمت والتأمّل إنّها لحظة الإبداع التي تأتي الشاعر عبر إشارات، وهي كالبارقة التي عليه أن يلتقطها قبل أن تختفي. فثمة أسئلة قد لا يجد لها المبدع إجابات، وهي تتأرجح بين العزلة التي تتطلّبها الكتابة والزواج الذي يعدّ حقًّا طبيعيًّا له، وللمبدع اتّخاذ هذا القرار. أما صعوبة الإجابة عن مثل هذه الأسئلة فتعود إلى إشكالية العلاقة بين الفن والحياة والفروقات الشخصية والحضارية والثقافية بين المجتمعات.
ويدعم بزيع رأيه بفكرة أنّ المبدع إذا اختار الحياة الزوجية، فهو لن يتمكن من التفرّغ للإبداع وسيكون عليه اختيار مهنة ملائمة لرعاية زوجته وأطفاله. من هنا تفقد في حياته شروط الإبداع وبذلك لن يتفرغ للكتابة وسيخضع للقيود والسنن الاجتماعية.
أما الإشكالية الأخرى فهي العلاقة بين الإبداع والحياة. بالنسبة إليه مادة المبدع واسعة وقد لا تتسع لها الحياة بأكملها. ويدعو صاحب "إلى أين تأخذني أيها الشعر" إلى ترسيم الحدود بين الحياة والفن لأنّه برأيه من الصعب التوفيق بين الاثنين وسيكون أمام حياة للعيش وأخرى للتعبير عنها.
تأثير الزواج في الإبداع
ويشير الشاعر إلى الترابط العضوي بين الحرية والمسؤولية الذي يتأتى من أساس فلسفة الفيلسوف الفرنسي سارتر (1905 – 1980) الوجودية. فخيار الزواج والعزوبة موضوع يخص الإنسان، ومن الطبيعي أن يؤثر هذا الأمر في النشاط الإبداعي للمبدع. ثم يطرح مواقف ورؤى متناقضة حول قضية المرأة والزواج، فيرى الفيلسوف السويسري جان جاك روسو (1712 – 1778) أنّ المرأة مساوية للرجل أو العكس أحيانًا. أما الفيلسوف الألماني شوبنهاور (1788 – 1860) فيكره المرأة عمومًا لأنه يعتبرها سبب التكاثر وامتداد شقاء البشرية.
ويوظّف بزيع ثقافته واطلاعه في التطورات الأنثروبولوجية والأعراف الاجتماعية التي حكمت العلاقات الزوجية والأسرية، ليتطرّق إلى العقد الاجتماعي الذي توصلت إليه البشرية ويعرض لصور الزواج وتبدله عبر الزمان وتبدل مفاهيمه.
وهنا ينتبه إلى تعدد وجهات النظر بين علماء الأنثروبولوجيا والتاريخ والاجتماع، حيث يرى المستشرق الفرنسي والأنثروبولجي روببرت مونتاني (1893 – 1954) أن الزواج التقليدي نوع من أنواع الإعاقة التي تشلّ الحياة والإبداع على حد سواء.
ويعرّف بزيع الزواج على أنه مؤسسة زوجية تستنزف الطاقة الإبداعية بسبب المسؤوليات العائلية، بحسب تقديره.
ويلتفت بزيع إلى قول الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (1884 – 1962) بأن البيت هو ركننا في العالم وهو دلالة الدفء الفردوسي مع العائلة، أما المبدع فيحتاج إلى العزلة للتعمق والتأمل.
ويتابع صاحب "مسارات الحداثة" أنّ العمل الإبداعي شأن فردي ويحتاج إلى فضاء واسع غير قابل للتقاسم وإلا تشتت المبدع وفقد حالة إبداعه خصوصًا أنّ مشاكل الزواج كثيرة بما فيها الأعباء المادية والغيرة التي تعود إلى الطبائع والأمزجة وأمور أخرى بما لا يترك مجالًا لتوسع الأنا فيتم التصادم.
كتّاب كثيرون تحدثوا عن ملازمة المكان نفسه -بكل ما فيه من ضيق- تصيب المبدع بالاهتراء ما يؤثر في علاقته الزوجية بتكرر المواقف والتصرفات فيفقد تجدد اللغة ويحتاج إلى نفس جديد ما يجعلهم مثلًا يستعيدون شهيتهم إلى الكلام باستقبال ضيوف جدد.
تقاطع الجسدين الاجتماعي والإبداعي
ويعرض صاحب "فراشات لابتسامة بوذا" لإشكالية العلاقة بالجسد قبولًا ورفضًا ويرى أنها علاقة غير ثابتة تتغير وفقًا لتغير المنظورات المجتمعية من حيث الدين والدنيا والمفاهيم. فالجسد ما قبل الديني كان أقرب إلى محاكاة الطبيعة البرية حيث لم يكن الإنسان مدركًا للخجل آنذاك، على أن الجسد كان امتدادا للموجودات والكائنات ثم ما لبث أن ارتبط بخطيئة الكون فتغيرت النظرة إلى إليه ووجد الخجل.
ويتقاطع الجسد الإبداعي مع الجسد الديني، لأنّ الجسد الإبداعي أقرب إلى العصف الجمالي الشبقي على حد تعبير بزيع، وهو يستحق المغامرة من أجله، وصولًا إلى تعويض الأعضاء الشبقية بالأمومة الطاهرة فيما بعد ويتبدى هنا الانشطار الجسد الأنثوي بين النزعة الشبقية والأمومية.
الحب شعر العالم والزواج نثره
ويطرح الشاعر سؤالًا مهمًّا: هل الحب شعر العالم والزواج نثره؟ فكر الشاعر في هذه الصيغة التساؤلية بناء على طبائع وأمزجة البشر مضيئًا على التوازي والشبه بين الحب والشعر والزواج والنثر، على أن الحب عاطفة قائمة على التوتر والانفعالات معادل الشعر الرمزي المبني على اختلال العلاقة بالعالم والمتخيل والكثافة اللغوية.
أما الزواج فهو علاقة عقدية بين طرفين داخل مؤسسة خاضعة للأحكام والقوانين التي تنظّم المجتمعات. وتطغى الرتابة على الحياة الزوجية فتنعدم المسافة بين الطرفين وتقتل الأحلام. وينتبه الشاعر إلى أنّ الأزواج يكتبون في بداية العلاقة ثم تراهم يصابون بالخرس ليصلوا إلى المفاجأة فيرثون زوجاتهم بعد الموت.
في الصفحات الثلاث الأخيرة يكتب شوقي بزيع تجربته الشخصية كاشفا رأيه بفكرة العزوبة كمرادف للحرية والشغف، معتبرا ما يعوّض تبعات المؤسسة الزوجية هو حظه في زوجة هادئة الطباع متفهمة وابنتين رائعتين، فيقول "إذا كان الشعر من ناحية أخرى قد أصيب ببعض الكدمات الجانبية وبالخصوص في ما يتعلق بقصائد الحب والوله العاطفي، فقد وجد ضالته المقابلة في تربة التأمل والحكمة والحفر الداخلي".
ولا يخفي شوقي بزيع أنّ ما دفعه إلى البحث وكتابة هذه السير العاطفية هو اهتمامه بمن يشبهه من عالم الفن والكتابة فراح يعمل بطريقة موضوعية باحثًا عن أسباب المشاكل الزوجية والظروف المحيطة بها ونتائجها. ويضيف إلى أنّ بعض الثنائيات الزوجية لم يتسنّ للشاعر مقاربتها لعدم توافر المصادر والبعض الآخر خصوصًا العربية منها حيث كانت نادرة للمساحة المحدودة المتاحة في الدراسات.
ثنائيان مبدعان
عن الزوجين الفرنسيين الكاتبة إلسا تريوليه والشاعر أراغون يخبرنا شوقي بزيع أنهما أصدرا الأعمال السردية المشتركة وقد كتبت إلسا تقديمًا لها لتكون الكتابة تكليلًا لعلاقة الحب الأسمى الذي جمعهما لعقود.
وهذه العلاقة لا تشبه العلاقات المألوفة بل هي أنموذج من العشق والوله. أراغون الذي كشف في حواراته عن حبه العميق لإلسا رأى فيها جوهر كينونته ومعنى وجوده. ويضيء بزيع إلى إشكالية تطابق الواقع مع المتخيل في الأدب، ولا ينفي بعض المطبات التي قد تصيب العلاقة ولكن قد يتخطّاها الطرفان ويتحلقان حول الكتابة.
وقد كانت المرأة ملهمة نزار قباني ومحور حياته وشعره وعلى الرغم من أن قباني يؤكد تعلقه بالجانبين الروحي والعاطفي لدى المرأة وليس كما يقال أنه يبحث عن التجليات الأنثوية المتباينة.
ويعتبر المؤلف أن قباني حرر الجسد من القيود الاجتماعية واللغة عبر الكتابة من الواقع والحياة اليومية. وكان يتقمّص شخصيات عبر الكتابة وتميز بالجرأة في الطرح. بالنسبة إلى بزيع فإنّ شاعرًا كنزار هو أقلّ تناغمًا مع المؤسسة الزوجية. فالزوجة الأولى التي أنجب منها فقدته بسبب الغيرة المرة بينما بلقيس الراوي فقد كانت لافتة، شُغف بها وتبادل معها الرسائل وبذلا جهدًا كبيرًا لتخطي مشاكل الزواج ومنها الغيرة التي تحكّم بها الزوجان.
ويتابع شوقي بزيع بحثه عن العلاقة العاطفية الاستثنائية الوثيقة بين الناقدة خالدة سعيد والشاعر المفكر أدونيس. ويشير إلى نظرة العالم العربيّ لمن يتناول المواضيع الشخصية بنوع من انتهاك حرمة الموتى خصوصًا إثر الكتابة عن الراحلين ويعتبر أنّ هذا ما أثّر سلبًا في أدب المذكرات والاعترافات وفنّ السيرة على عكس الغرب خصوصًا لأن الأمر متعلّق بالشخصيات والفنانين المشهورين.
ويرى بزيع تكاملًا عظيمًا في علاقة خالدة سعيد بأدونيس وقد تناولت خالدة بالنقد أدونيس وكتبت باسم مستعار وهي مفتتنة بتجربته وكانت تشعر بالخجل كما كان لها دور مهمّ في المجلة. ومن يتابع تصريحاتهما يكتشف اختلاف الرأيين حول المؤسسة الزوجية. فأدونيس يذهب إلى اعتناق الحرية إلى أقصى حد أكثر من خالدة التي تبدو أكثر تحفظا.
أراد الشاعر شوقي بزيع الكشف عن ملابسات العلاقة بين محمد الماغوط وسنية صالح مشيرًا إلى ما أوردته خالدة سعيد من إشارات حول حياة أختها القاسية بالإضافة إلى السيرة التي وثقها عيسى الماغوط لحياة أخيه كذلك تصريحات الماغوط المليئة بالسواد حول علاقته بزوجته، لكن بعد وفاتها شعر بالحزن لرحيلها المبكر والتقصير في التعبير عن حبه لها.
ويكشف مؤلف هذا الكتاب عن اعتراف غارسيا ماركيز بأنّ المرأة هي الوحيدة التي تمنحه الشعور بالأمان وتأثر أديب نوبل في مفاهيمه بالتربية الكاثوليكية.
ويقرّ ماركيز في مذكراته أن المرأة التي شغف بها طوال حياته كانت مرسيدس برشا وقد سعى جاهدًا للزواج بها بالرغم من رفضها له في البداية. ويتابع بزيع بأن ماركيز كان يشعر بالخجل الشديد في علاقته بالنساء. وقد مثلت مرسيدس دورًا إيجابيًّا في حياته ورزق منها بطفلين. وكانت تكبح مشاعر الغيرة للحفاظ على علاقتهما. وبالرغم من حنكتها وذكائها لم يخف على مرسيدس علاقات زوجها وطلبت أن تكمل رحلة الموت بجانب زوجها فاختارت أن يوضع رمادها المتبقي بجانبه.
مبدعون كثر تناولهم الشاعر شوقي بزيع في هذا الكتاب الذي تألف من 351 صفحة وقرأ في بعضهم الجانب الإيجابي الذي أدى إلى استمرارية العلاقة بين الزوجين وفي بعضهم الآخر الجانب السلبي الذي أدى إلى دمارها وانهيارها وما أتينا على ذكره من الثنائيات المطروحة ليس إلا نقطة من ماء البئر.
أضف تعليق