المعيار الوطني لتصويب المسار السياسي في مواجهة صفقة القرن
قراءة في كتاب «في مواجهة صفقة القرن»، وهو الكتاب رقم35 في سلسلة الطريق إلى الاستقلال التي يصدرها المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات «ملف».
في الكتاب وتحت عنوان «السمة المعيارية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» أن الجبهة ترى خطابها السياسي المعياري انطلق منذ البدايات من أولوية التمسك بخيار الوحدة الوطنية والالتزام بالبرنامج المشترك، في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، هذا الخطاب أخذ بالاعتبار واقع أن الجبهة هي من المساهمين الرئيسيين في صياغة الخط السياسي الوطني، لا بل كانت المبادرة لطرحه في محطات سياسية مفصلية، وبالتالي من المنطقي أن تجد الجبهة الديمقراطية في قرارات المجلس الوطني، انعكاساً لسياستها، أو لجوانب مهمة منها، لاسيما تلك المتعلقة بالاستحقاقات الوطنية الرئيسية، لكن وأمام خرق البرنامج المشترك، كان لابد من التعامل اليقظ مع قرارات المجلس الوطني، فثمة استثناءات لبعض الدورات، تمثلت بالخروج عن القاسم الوطني المشترك، كالدورة 17 للمجلس الوطني التي مهدت لاتفاق عمان القائم على المشاركة في التمثيل الفلسطيني، بما يضعف مكانة منظمة التحرير الفلسطينية، ويحدد سقف تقرير المصير في إطار اتحاد كونفدرالي غير واضح المعالم، وبالشكل العام تعتبر الجبهة الدورات المتعاقبة للمجلس الوطني -بحكم مكانتها في النظام السياسي الفلسطيني- المعيار الوطني لتصويب المسار السياسي.
برنامج الاجماع الوطني أو المشتركات السياسية للحركة الوطنية الفلسطينية بمختلف اتجاهاتها ومكوناتها، هي معيار تقاس بموجبها القرارات والبرامج السياسية الفلسطينية بمدى اقترابها أو ابتعادها عن خط التوافق الوطني، وهو الخط الذي اعتمدته الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في التعاطي مع الشأن الوطني العام، مما أكسب سياستها سمتها المعيارية على قاعدة وطنية جامعة، وهذا عنصر قوة وعامل انسجام بين ما تقره هيئاتها داخلياً، وبما تلتزم به وتمارسه وطنياً، ومن خلال هذه السمة أيضاً تمكنت الجبهة من إقامة علاقاتها مع التنظيمات الفلسطينية الأخرى بما يخدم الوحدة الوطنية على قاعدة برنامج وطني مشترك، ومن هنا التفاعل النقدي اليقظ مع القرارات والسياسات الفلسطينية، التي كان أهمها على الإطلاق التوقيع على أوسلو، لما ترتب عليها من نتائج وتداعيات انتقلت بالوضع الفلسطيني إلى حالة استراتيجية بالغة الخطورة وغير مسبوقة، تم تقييمها استناداً للسياسة المعيارية، سياسة البرنامج الوطني المشترك، وأساسه البرنامج المرحلي الذي يقود إلى الحل الديمقراطي الجذري للمسالة الوطنية الفلسطينية تجسيداً لحق تقرير المصير على كامل التراب الوطني الفلسطيني، ومع ذلك فرغم الردة التي سجلتها اتفاقيات أوسلو وتطبيقاتها في أجندة العمل الوطني، فإن إنتاج مسار الخلاص من هذا المأزق لن يكون إلا من خلال العودة إلى الالتزام بالسياسة الوطنية المعيارية كما جسدتها بشكل خاص قرارات الدورة 23 للمجلس الوطني الفلسطيني 2018 التي اعتمدت آلية واضحة وملموسة لاستراتيجية الخروج من اتفاقات أوسلو.
واستناداً إلى معيار استقلالية الكيانية الفلسطينية ببعديها: استقلالية التمثيل ووحدانيته من خلال منظمة التحرير الفلسطينية جاء تقييم الدورة العاشرة للمجلس المركزي في تونس عام1991 الذي اتخذ قرار المشاركة في مؤتمر مدريد ضمن وفد أردني –فلسطيني مشترك، فرفضت الجبهة المشاركة في مفاوضات مدريد، لإجحاف شروط المشاركة التي ستقود حتماً إلى الإجحاف بالنتائج المتوقعة، انتقاصاً من الحقوق الوطنية، إن لم يكن مصادرتها، كونها لم توفر التمثيل المستقل.
وعارضت استناداً إلى السياسة المعيارية قرار المصادقة على اتفاق أوسلو وتعديل الميثاق الوطني، الذي اتخذ في الدورة 31 للمجلس الوطني الفلسطيني عام 1996، واستنادً إلى البرنامج المرحلي الذي لا يستبعد التسوية السياسية من خلال المفاوضات إلا أنه يعلق الانخراط فيها على شرط توفر الأسس التي تفضي إلى إنجاز الحقوق الوطنية، وليس الابتعاد عنها، أو تصفيتها، ومن هذه الزاوية فإن أوسلو بما قاد إليه من كوارث ليس ترجمة للبرنامج المرحلي، ومساره ليس مسار أوسلو بل تصفية أهدافه.
وفي هذا السياق المعياري قاست الجبهة وتقيس سياسات السلطة الفلسطينية، ولاسيما التنسيق الأمني البعيد كلياً والمنافي لطبيعة المرحلة بما هي مرحلة تحرر وطني وما يترتب عليها من ضرورة الإعداد لانتفاضة شاملة بعد فشل مسار المفاوضات، وحتى لا تختلط علينا الأمور وتضيع الأولويات، يجب التأكيد أن حركتنا الوطنية هي حركة تحرر وطني ولسنا دولة مستقلة احتلت بعض أراضيها، ولنأخذ بعين الاعتبار أن تطوير النظام السياسي الفلسطيني من أجل توحيد القوى في مواجهة الاحتلال والاستعمار الاستيطاني، لا خيارات أخرى غير تصعيد المقاومة، بعدما تأكد للجميع فشل كامل محاولات إقامة دولة فلسطينية مستقلة بالاعتماد على التسوية بالرعاية الحصرية للولايات المتحدة.
التفاوض المتوقف منذ العام 2014 في عهد أوباما، لم يعد من الممكن أن يتجدد بعد مجيء ترامب إلى البيت الأبيض 2017، ومعه «صفقة القرن»، حيث الأولوية هي للترتيبات على مستوى الإقليم من بوابة التطبيع والتعاون الأمني والاقتصادي، فالتطبيع مع الإقليم هو المدخل لتطوير العلاقة مع الفلسطينيين، وبهذا لم يعد مجدياً التمسك باستراتيجية عمل تقوم على بقايا أوسلو، وبقايا الحكم الذاتي، في وقت يستعر فيه استيطان الضفة وتهويد القدس وقلب الخليل ومحيطها وفي الوقت الذي تتمادى فيه آلة القمع الإسرائيلية بارتكاب جرائم حرب، وبتهديد الوجود الفلسطيني.
لقد تعرض الشعب الفلسطيني لاسيما مع مجيء ترامب لحرب سياسية دموية على يد التحالف الأمريكي -الإسرائيلي تحت سقف «صفقة ترامب» وخطواتها التنفيذية، والمشروع الاستيطاني لحكومة اليمين واليمين المتطرف، برئاسة نتنياهو، ومازالت القيادة الرسمية والسلطة الفلسطينية تتمسك ببقايا اتفاق أوسلو، وتلتزم باستحقاقاته، من جانب واحد، إن سياسات السلطة الفلسطينية في التزامها الاستراتيجي بخط المفاوضات طريقاً لحل سياسي، سهّل على التحالف الأميركي -الإسرائيلي تحقيق خطواته العدوانية وألحق بالمصلحة الوطنية الفلسطينية أضراراً فادحة.
فوتت القيادة الرسمية على شعبنا فرصة البناء على وحدة موقفه وقواه كافة في رفض المشروع الأميركي- الإسرائيلي حين عطلت تنفيذ قرارات الاجماع والتوافق الوطني في المجلسين المركزي والوطني(2018) للخروج من اتفاقات أوسلو، ولجأت إلى سياسة المناورة عبر إحالة القرارات إلى لجان الدراسة، انتهت إلى الانقلاب على هذه القرارات وعلى الإجماع الوطني بالعودة إلى بقايا أوسلو.
لقد نجح المجلس المركزي في دورته الـ 28 والمجلس الوطني الفلسطيني في دورته الـ 23 في بلورة الرد الوطني على صفقة ترامب «صفقة القرن » وخاصة قراره الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها، وكذلك في الرد على مشاريع الحكومة الإسرائيلية في تغولها الاستيطاني والدموي ضد شعبنا، كان من الممكن أن تشكل قرارات دورتي المجلسين المذكورين فاتحة لمرحلة جديدة من شأنها أن تقلب صفحة أوسلو، وأن تعيد الحالة الوطنية من بوابة تعزيز الوحدة الميدانية، وصولاً إلى إنهاء الانقسام، وإعادة بناء المؤسسة الوطنية على أسس ديمقراطية، بالانتخابات الشاملة بنظام التمثيل النسبي الكامل، غير أن السياسة الانقلابية للقيادة الرسمية عطلت قرارات دورات المجلسين الوطني والمركزي ، وأفرغتهما من مضمونهما، في إحالتهما الدائمة إلى لجان لدراسة آليات تطبيقها، مما أبقى الحالة الفلسطينية أسيرة اتفاقات أوسلو ومن ضمنه بروتوكول باريس.
في هذا يعاد طرح معيار استقلالية التمثيل ووحدانيته، لرفض سياسات إفراغ المؤسسات الوطنية من مضمونها وتجريدها من صلاحياتها، أو تعطيل قراراتها، ورفض سياسات التفرد والاستفراد و الإقصاء والاستئثار، حيث تطغى سياسة التفرد والاستفراد والعبث بالمؤسسة الوطنية وآليات عملها، وأدت إلى تعطيل اللجنة التنفيذية، وتحويلها من قيادة يومية لشعبنا الفلسطيني إلى مجرد هيئة استشارية، وُضعت على هامش الحياة السياسية، وفي هذا السياق تم تشكيل ما يسمى باللجنة الوطنية العليا والتي هي واحدة من فبركات القيادة الرسمية، في خدمة سياسة التفرد والاستفراد، ومعالجة الشأن العام بالمراسيم الفردية، بديلاً للتوافقات الوطنية بآليات عمل ديمقراطية، والتي بات واضحاً أن القيادة الرسمية خرجت عنها نحو التفرد وإقصاء الآخرين، هذه السياسات إنما هي تعبير عن أزمة سياسية تعيشها القيادة الرسمية، التي باتت في ظل سياسات أوسلو الفاشلة عاجزة عن الخروج منها، وتواجه في الوقت نفسه عروضاً أمريكية لا تجرؤ على التساوق معها حتى لا يفقدها ذلك موقعها القيادي والوطني ويخرجها منه.
من أجل إسقاط «صفقة القرن» ومواجهة المشروع الأمريكي-الصهيوني يبرز معيار الوحدة الوطنية، لتحليل واقع الانقسام وتداعياته على الحالة الفلسطينية، تشتتاً وضعفاً وبعثرة للقوى الفاعلة وانحراف البوصلة عن وجهة الجهود النضالية نحو خلافات فصائلية، لقد أسهم الانقسام في إفساد الحياة السياسية في الحالة الفلسطينية، وعزز الروح العشائرية والزبائنية، والتملق والنفاق السياسي وأفسح المجال لاصطفافات فئوية ألحقت الضرر بالحالة الوطنية، وأغرقتها في صراعات جانبية، وأفسحت المجال للتدخلات الخارجية في الحالة الوطنية، وشوهت شعارات النضال الوطني، وحطت من قدر المناضلين وأضعفت الحركة الشعبية، وزجت بها في مأزق وأنفاق مظلمة في خدمة المصالح الطبقية والاجتماعية للفئات البيروقراطية المهيمنة لدى طرفي الانقسام، فالخلاف لا يدور حول مكانة المنظمة بل على استكمال نصاب التمثيل في هيئاتها، كما أنه لا يدور حول أهداف البرنامج الوطني، بل على عدم إدراك هذه الأهداف أو التقدم نحوها، جراء فشل العملية السياسية في إطار اتفاقات أوسلو.
إن إنهاء الانقسام مهمة أولى على جدول أعمال الحركة الوطنية الفلسطينية يجب أن تبذل في سبيلها كل الجهود وأن تقدم لها المبادرات الكفيلة بإخراج الحالة الوطنية من عنق زجاجة الانقسام، إلى رحاب الوحدة الداخلية، وعلى أسس سياسية توافقية واضحة المعالم والصيغ، في هذا الإطار لا يمكن التوصل إلى حل، ما لم يتم الاتفاق على أمرين:
- موقع المقاومة في الاستراتيجية العامة التي توجه العملية السياسية، كما وعموم العملية الوطنية التحررية.
- إرساء أسس واضحة للمشاركة في السلطة السياسية، بمكونيها: الحكم الذاتي بهيئاته (الرئاسة، الحكومة، المجلس التشريعي)، ومنظمة التحرير بهيئاتها (الجنة التنفيذية، المجلس المركزي، المجلس الوطني رئاسة وجسماً تمثيلياً)
إن الانتخابات الشاملة على أساس النسبية الكاملة هي الحل الأنسب، لكن راهناً المطلوب من حركتي حماس وفتح خفض القبضة المتشددة التي تمسك بتلابيب الحالة الوطنية، السياسية والمجتمعية، في قطاع غزة، فالانفتاح على الحالة الوطنية، بمنطق الائتلاف المتكافئ –وليس المستتبع- يقوي الجبهة الداخلية في مواجهة «صفقة القرن» و المشروع الأمريكي الصهيوني، وتجربة الانفتاح الناجحة بتشكيل قيادة ائتلافية لمسيرات العودة وكسر الحصار تؤكد ذلك، وثمة ضرورة للانفتاح الديمقراطي التعددي على الحركة الجماهيرية في غزة باتحاداتها ونقاباتها وسائر تشكيلاتها، فكما تم التعامل في الضفة مع الاتحادات عاملوها في غزة، على قاعدة التعامل بالمثل، باعتماد الانتخابات الدورية لهيئاتها ومجالسها بنظام التمثيل النسبي الكامل، وعلى حركة فتح التحلي بدرجة أعلى من الواقعية فيما يتعلق بميزان القوى الداخلي، الذي تعدل بشكل ملحوظ في العقود الأخيرة، بحيث لم يعد بإمكان حركة فتح الانفراد بقيادة المؤسسة الوطنية بمشاركة من القوى الأخرى تكون رمزية أو محتواة، أو محجمة في أفضل الأحوال، وقد تقود انتخابات ديمقراطية حقيقية فتح إلى الموقع الأول، وليس الأول بإلغاء أو بتحجيم الآخرين.
إعادة صياغة السلطة ديمقراطياً على قاعدة الشراكة السياسية هو الذي يقود إلى استعادة عناصر القوة الفلسطينية من خلال بناء الوحدة الداخلية، المؤسسة على قاعدة برنامجية تخصص مكاناً للمقاومة بمختلف أشكالها، هذا ممكن، برغم الخلافات الواسعة بين فتح وحماس، فثمة ما يجمع الطرفين، انطلاقاً من حجم المخاطر التي تستهدفهما معاً، في سياق استهداف الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية، ولعل التمعن بأهداف «صفقة القرن» معطوفة على إقرار «قانون القومية» تقطع بصحة هذا الأمر، يضاف إلى ذلك، العمل المشترك في ميدان الاشتباك المباشر مع الاحتلال، يساعد على تذليل العقبات التي تعترض سبيل الوحدة، فسخونة الميدان توحد، وكذلك الأداء السياسي الوطني المسؤول يعزز هذا المنحى، مثل الموقف الحازم من المشروع الأمريكي في الأمم المتحدة لإدانة حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال من بوابة وصم حركة حماس بالارهاب.
إن ما يفتح طريق التقدم نحو إنجاز الحقوق الوطنية، وفي الوقت نفسه يرسم خطوط المواجهة الناجعة لـ«صفقة القرن» هو اعتماد استراتيجية وطنية تضعنا أمام الاستحقاقات الوطنية الداهمة والناجمة عن واقع فشل عملية أوسلو، اعتماد استراتيجية الخروج من أوسلو، حيث لا معنى سياسي عملي لمناهضة «صفقة القرن» دون كسر قيود أوسلو، بما انطوت عليه من التزامات، بوقف التنسيق الأمني بكافة أشكاله، والتحرر من علاقات التبعية الاقتصادية التي كرسها بروتوكول باريس...
لقد ربطت قرارات المجلس الوطني الفلسطيني بين التزامات أوسلو ومفاعيل «صفقة القرن»، وأكد المجلس أن الرد على الصفقة يكون باعتماد استراتيجية الخروج من أوسلو لمواجهة «صفقة القرن» ومفاعيلها، بينما اكتفت القيادة الرسمية بالإعلان عن مناهضتها لـ«صفقة القرن»، بقطع الاتصالات السياسية دون الأمنية مع الإدارة الأمريكية، ففوتت على نفسها وعلى عموم الحركة الوطنية فرصة للمواجهة الفعلية وليس الكلامية أو الرمزية ، والتي لا تقتصر على مجرد الإعلان عن الموقف، لما يدبر من حلول تصفوية لقضيتنا الوطنية على يد غرفة العمليات المشتركة الأمريكية – الإسرائيلية التي ترمي إلى محاصرة قضيتنا الوطنية في المحافل الدولية وتجريدها من سلاح الشرعية الدولية والقرارات ذات الصلة، فضلاً عن مسعاها لدمج اسرائيل في الإقليم وتطبيع العلاقات معها.
في الكتاب وتحت عنوان «السمة المعيارية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين» أن الجبهة ترى خطابها السياسي المعياري انطلق منذ البدايات من أولوية التمسك بخيار الوحدة الوطنية والالتزام بالبرنامج المشترك، في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، هذا الخطاب أخذ بالاعتبار واقع أن الجبهة هي من المساهمين الرئيسيين في صياغة الخط السياسي الوطني، لا بل كانت المبادرة لطرحه في محطات سياسية مفصلية، وبالتالي من المنطقي أن تجد الجبهة الديمقراطية في قرارات المجلس الوطني، انعكاساً لسياستها، أو لجوانب مهمة منها، لاسيما تلك المتعلقة بالاستحقاقات الوطنية الرئيسية، لكن وأمام خرق البرنامج المشترك، كان لابد من التعامل اليقظ مع قرارات المجلس الوطني، فثمة استثناءات لبعض الدورات، تمثلت بالخروج عن القاسم الوطني المشترك، كالدورة 17 للمجلس الوطني التي مهدت لاتفاق عمان القائم على المشاركة في التمثيل الفلسطيني، بما يضعف مكانة منظمة التحرير الفلسطينية، ويحدد سقف تقرير المصير في إطار اتحاد كونفدرالي غير واضح المعالم، وبالشكل العام تعتبر الجبهة الدورات المتعاقبة للمجلس الوطني -بحكم مكانتها في النظام السياسي الفلسطيني- المعيار الوطني لتصويب المسار السياسي.
برنامج الاجماع الوطني أو المشتركات السياسية للحركة الوطنية الفلسطينية بمختلف اتجاهاتها ومكوناتها، هي معيار تقاس بموجبها القرارات والبرامج السياسية الفلسطينية بمدى اقترابها أو ابتعادها عن خط التوافق الوطني، وهو الخط الذي اعتمدته الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في التعاطي مع الشأن الوطني العام، مما أكسب سياستها سمتها المعيارية على قاعدة وطنية جامعة، وهذا عنصر قوة وعامل انسجام بين ما تقره هيئاتها داخلياً، وبما تلتزم به وتمارسه وطنياً، ومن خلال هذه السمة أيضاً تمكنت الجبهة من إقامة علاقاتها مع التنظيمات الفلسطينية الأخرى بما يخدم الوحدة الوطنية على قاعدة برنامج وطني مشترك، ومن هنا التفاعل النقدي اليقظ مع القرارات والسياسات الفلسطينية، التي كان أهمها على الإطلاق التوقيع على أوسلو، لما ترتب عليها من نتائج وتداعيات انتقلت بالوضع الفلسطيني إلى حالة استراتيجية بالغة الخطورة وغير مسبوقة، تم تقييمها استناداً للسياسة المعيارية، سياسة البرنامج الوطني المشترك، وأساسه البرنامج المرحلي الذي يقود إلى الحل الديمقراطي الجذري للمسالة الوطنية الفلسطينية تجسيداً لحق تقرير المصير على كامل التراب الوطني الفلسطيني، ومع ذلك فرغم الردة التي سجلتها اتفاقيات أوسلو وتطبيقاتها في أجندة العمل الوطني، فإن إنتاج مسار الخلاص من هذا المأزق لن يكون إلا من خلال العودة إلى الالتزام بالسياسة الوطنية المعيارية كما جسدتها بشكل خاص قرارات الدورة 23 للمجلس الوطني الفلسطيني 2018 التي اعتمدت آلية واضحة وملموسة لاستراتيجية الخروج من اتفاقات أوسلو.
واستناداً إلى معيار استقلالية الكيانية الفلسطينية ببعديها: استقلالية التمثيل ووحدانيته من خلال منظمة التحرير الفلسطينية جاء تقييم الدورة العاشرة للمجلس المركزي في تونس عام1991 الذي اتخذ قرار المشاركة في مؤتمر مدريد ضمن وفد أردني –فلسطيني مشترك، فرفضت الجبهة المشاركة في مفاوضات مدريد، لإجحاف شروط المشاركة التي ستقود حتماً إلى الإجحاف بالنتائج المتوقعة، انتقاصاً من الحقوق الوطنية، إن لم يكن مصادرتها، كونها لم توفر التمثيل المستقل.
وعارضت استناداً إلى السياسة المعيارية قرار المصادقة على اتفاق أوسلو وتعديل الميثاق الوطني، الذي اتخذ في الدورة 31 للمجلس الوطني الفلسطيني عام 1996، واستنادً إلى البرنامج المرحلي الذي لا يستبعد التسوية السياسية من خلال المفاوضات إلا أنه يعلق الانخراط فيها على شرط توفر الأسس التي تفضي إلى إنجاز الحقوق الوطنية، وليس الابتعاد عنها، أو تصفيتها، ومن هذه الزاوية فإن أوسلو بما قاد إليه من كوارث ليس ترجمة للبرنامج المرحلي، ومساره ليس مسار أوسلو بل تصفية أهدافه.
وفي هذا السياق المعياري قاست الجبهة وتقيس سياسات السلطة الفلسطينية، ولاسيما التنسيق الأمني البعيد كلياً والمنافي لطبيعة المرحلة بما هي مرحلة تحرر وطني وما يترتب عليها من ضرورة الإعداد لانتفاضة شاملة بعد فشل مسار المفاوضات، وحتى لا تختلط علينا الأمور وتضيع الأولويات، يجب التأكيد أن حركتنا الوطنية هي حركة تحرر وطني ولسنا دولة مستقلة احتلت بعض أراضيها، ولنأخذ بعين الاعتبار أن تطوير النظام السياسي الفلسطيني من أجل توحيد القوى في مواجهة الاحتلال والاستعمار الاستيطاني، لا خيارات أخرى غير تصعيد المقاومة، بعدما تأكد للجميع فشل كامل محاولات إقامة دولة فلسطينية مستقلة بالاعتماد على التسوية بالرعاية الحصرية للولايات المتحدة.
التفاوض المتوقف منذ العام 2014 في عهد أوباما، لم يعد من الممكن أن يتجدد بعد مجيء ترامب إلى البيت الأبيض 2017، ومعه «صفقة القرن»، حيث الأولوية هي للترتيبات على مستوى الإقليم من بوابة التطبيع والتعاون الأمني والاقتصادي، فالتطبيع مع الإقليم هو المدخل لتطوير العلاقة مع الفلسطينيين، وبهذا لم يعد مجدياً التمسك باستراتيجية عمل تقوم على بقايا أوسلو، وبقايا الحكم الذاتي، في وقت يستعر فيه استيطان الضفة وتهويد القدس وقلب الخليل ومحيطها وفي الوقت الذي تتمادى فيه آلة القمع الإسرائيلية بارتكاب جرائم حرب، وبتهديد الوجود الفلسطيني.
لقد تعرض الشعب الفلسطيني لاسيما مع مجيء ترامب لحرب سياسية دموية على يد التحالف الأمريكي -الإسرائيلي تحت سقف «صفقة ترامب» وخطواتها التنفيذية، والمشروع الاستيطاني لحكومة اليمين واليمين المتطرف، برئاسة نتنياهو، ومازالت القيادة الرسمية والسلطة الفلسطينية تتمسك ببقايا اتفاق أوسلو، وتلتزم باستحقاقاته، من جانب واحد، إن سياسات السلطة الفلسطينية في التزامها الاستراتيجي بخط المفاوضات طريقاً لحل سياسي، سهّل على التحالف الأميركي -الإسرائيلي تحقيق خطواته العدوانية وألحق بالمصلحة الوطنية الفلسطينية أضراراً فادحة.
فوتت القيادة الرسمية على شعبنا فرصة البناء على وحدة موقفه وقواه كافة في رفض المشروع الأميركي- الإسرائيلي حين عطلت تنفيذ قرارات الاجماع والتوافق الوطني في المجلسين المركزي والوطني(2018) للخروج من اتفاقات أوسلو، ولجأت إلى سياسة المناورة عبر إحالة القرارات إلى لجان الدراسة، انتهت إلى الانقلاب على هذه القرارات وعلى الإجماع الوطني بالعودة إلى بقايا أوسلو.
لقد نجح المجلس المركزي في دورته الـ 28 والمجلس الوطني الفلسطيني في دورته الـ 23 في بلورة الرد الوطني على صفقة ترامب «صفقة القرن » وخاصة قراره الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها، وكذلك في الرد على مشاريع الحكومة الإسرائيلية في تغولها الاستيطاني والدموي ضد شعبنا، كان من الممكن أن تشكل قرارات دورتي المجلسين المذكورين فاتحة لمرحلة جديدة من شأنها أن تقلب صفحة أوسلو، وأن تعيد الحالة الوطنية من بوابة تعزيز الوحدة الميدانية، وصولاً إلى إنهاء الانقسام، وإعادة بناء المؤسسة الوطنية على أسس ديمقراطية، بالانتخابات الشاملة بنظام التمثيل النسبي الكامل، غير أن السياسة الانقلابية للقيادة الرسمية عطلت قرارات دورات المجلسين الوطني والمركزي ، وأفرغتهما من مضمونهما، في إحالتهما الدائمة إلى لجان لدراسة آليات تطبيقها، مما أبقى الحالة الفلسطينية أسيرة اتفاقات أوسلو ومن ضمنه بروتوكول باريس.
في هذا يعاد طرح معيار استقلالية التمثيل ووحدانيته، لرفض سياسات إفراغ المؤسسات الوطنية من مضمونها وتجريدها من صلاحياتها، أو تعطيل قراراتها، ورفض سياسات التفرد والاستفراد و الإقصاء والاستئثار، حيث تطغى سياسة التفرد والاستفراد والعبث بالمؤسسة الوطنية وآليات عملها، وأدت إلى تعطيل اللجنة التنفيذية، وتحويلها من قيادة يومية لشعبنا الفلسطيني إلى مجرد هيئة استشارية، وُضعت على هامش الحياة السياسية، وفي هذا السياق تم تشكيل ما يسمى باللجنة الوطنية العليا والتي هي واحدة من فبركات القيادة الرسمية، في خدمة سياسة التفرد والاستفراد، ومعالجة الشأن العام بالمراسيم الفردية، بديلاً للتوافقات الوطنية بآليات عمل ديمقراطية، والتي بات واضحاً أن القيادة الرسمية خرجت عنها نحو التفرد وإقصاء الآخرين، هذه السياسات إنما هي تعبير عن أزمة سياسية تعيشها القيادة الرسمية، التي باتت في ظل سياسات أوسلو الفاشلة عاجزة عن الخروج منها، وتواجه في الوقت نفسه عروضاً أمريكية لا تجرؤ على التساوق معها حتى لا يفقدها ذلك موقعها القيادي والوطني ويخرجها منه.
من أجل إسقاط «صفقة القرن» ومواجهة المشروع الأمريكي-الصهيوني يبرز معيار الوحدة الوطنية، لتحليل واقع الانقسام وتداعياته على الحالة الفلسطينية، تشتتاً وضعفاً وبعثرة للقوى الفاعلة وانحراف البوصلة عن وجهة الجهود النضالية نحو خلافات فصائلية، لقد أسهم الانقسام في إفساد الحياة السياسية في الحالة الفلسطينية، وعزز الروح العشائرية والزبائنية، والتملق والنفاق السياسي وأفسح المجال لاصطفافات فئوية ألحقت الضرر بالحالة الوطنية، وأغرقتها في صراعات جانبية، وأفسحت المجال للتدخلات الخارجية في الحالة الوطنية، وشوهت شعارات النضال الوطني، وحطت من قدر المناضلين وأضعفت الحركة الشعبية، وزجت بها في مأزق وأنفاق مظلمة في خدمة المصالح الطبقية والاجتماعية للفئات البيروقراطية المهيمنة لدى طرفي الانقسام، فالخلاف لا يدور حول مكانة المنظمة بل على استكمال نصاب التمثيل في هيئاتها، كما أنه لا يدور حول أهداف البرنامج الوطني، بل على عدم إدراك هذه الأهداف أو التقدم نحوها، جراء فشل العملية السياسية في إطار اتفاقات أوسلو.
إن إنهاء الانقسام مهمة أولى على جدول أعمال الحركة الوطنية الفلسطينية يجب أن تبذل في سبيلها كل الجهود وأن تقدم لها المبادرات الكفيلة بإخراج الحالة الوطنية من عنق زجاجة الانقسام، إلى رحاب الوحدة الداخلية، وعلى أسس سياسية توافقية واضحة المعالم والصيغ، في هذا الإطار لا يمكن التوصل إلى حل، ما لم يتم الاتفاق على أمرين:
- موقع المقاومة في الاستراتيجية العامة التي توجه العملية السياسية، كما وعموم العملية الوطنية التحررية.
- إرساء أسس واضحة للمشاركة في السلطة السياسية، بمكونيها: الحكم الذاتي بهيئاته (الرئاسة، الحكومة، المجلس التشريعي)، ومنظمة التحرير بهيئاتها (الجنة التنفيذية، المجلس المركزي، المجلس الوطني رئاسة وجسماً تمثيلياً)
إن الانتخابات الشاملة على أساس النسبية الكاملة هي الحل الأنسب، لكن راهناً المطلوب من حركتي حماس وفتح خفض القبضة المتشددة التي تمسك بتلابيب الحالة الوطنية، السياسية والمجتمعية، في قطاع غزة، فالانفتاح على الحالة الوطنية، بمنطق الائتلاف المتكافئ –وليس المستتبع- يقوي الجبهة الداخلية في مواجهة «صفقة القرن» و المشروع الأمريكي الصهيوني، وتجربة الانفتاح الناجحة بتشكيل قيادة ائتلافية لمسيرات العودة وكسر الحصار تؤكد ذلك، وثمة ضرورة للانفتاح الديمقراطي التعددي على الحركة الجماهيرية في غزة باتحاداتها ونقاباتها وسائر تشكيلاتها، فكما تم التعامل في الضفة مع الاتحادات عاملوها في غزة، على قاعدة التعامل بالمثل، باعتماد الانتخابات الدورية لهيئاتها ومجالسها بنظام التمثيل النسبي الكامل، وعلى حركة فتح التحلي بدرجة أعلى من الواقعية فيما يتعلق بميزان القوى الداخلي، الذي تعدل بشكل ملحوظ في العقود الأخيرة، بحيث لم يعد بإمكان حركة فتح الانفراد بقيادة المؤسسة الوطنية بمشاركة من القوى الأخرى تكون رمزية أو محتواة، أو محجمة في أفضل الأحوال، وقد تقود انتخابات ديمقراطية حقيقية فتح إلى الموقع الأول، وليس الأول بإلغاء أو بتحجيم الآخرين.
إعادة صياغة السلطة ديمقراطياً على قاعدة الشراكة السياسية هو الذي يقود إلى استعادة عناصر القوة الفلسطينية من خلال بناء الوحدة الداخلية، المؤسسة على قاعدة برنامجية تخصص مكاناً للمقاومة بمختلف أشكالها، هذا ممكن، برغم الخلافات الواسعة بين فتح وحماس، فثمة ما يجمع الطرفين، انطلاقاً من حجم المخاطر التي تستهدفهما معاً، في سياق استهداف الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية، ولعل التمعن بأهداف «صفقة القرن» معطوفة على إقرار «قانون القومية» تقطع بصحة هذا الأمر، يضاف إلى ذلك، العمل المشترك في ميدان الاشتباك المباشر مع الاحتلال، يساعد على تذليل العقبات التي تعترض سبيل الوحدة، فسخونة الميدان توحد، وكذلك الأداء السياسي الوطني المسؤول يعزز هذا المنحى، مثل الموقف الحازم من المشروع الأمريكي في الأمم المتحدة لإدانة حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال من بوابة وصم حركة حماس بالارهاب.
إن ما يفتح طريق التقدم نحو إنجاز الحقوق الوطنية، وفي الوقت نفسه يرسم خطوط المواجهة الناجعة لـ«صفقة القرن» هو اعتماد استراتيجية وطنية تضعنا أمام الاستحقاقات الوطنية الداهمة والناجمة عن واقع فشل عملية أوسلو، اعتماد استراتيجية الخروج من أوسلو، حيث لا معنى سياسي عملي لمناهضة «صفقة القرن» دون كسر قيود أوسلو، بما انطوت عليه من التزامات، بوقف التنسيق الأمني بكافة أشكاله، والتحرر من علاقات التبعية الاقتصادية التي كرسها بروتوكول باريس...
لقد ربطت قرارات المجلس الوطني الفلسطيني بين التزامات أوسلو ومفاعيل «صفقة القرن»، وأكد المجلس أن الرد على الصفقة يكون باعتماد استراتيجية الخروج من أوسلو لمواجهة «صفقة القرن» ومفاعيلها، بينما اكتفت القيادة الرسمية بالإعلان عن مناهضتها لـ«صفقة القرن»، بقطع الاتصالات السياسية دون الأمنية مع الإدارة الأمريكية، ففوتت على نفسها وعلى عموم الحركة الوطنية فرصة للمواجهة الفعلية وليس الكلامية أو الرمزية ، والتي لا تقتصر على مجرد الإعلان عن الموقف، لما يدبر من حلول تصفوية لقضيتنا الوطنية على يد غرفة العمليات المشتركة الأمريكية – الإسرائيلية التي ترمي إلى محاصرة قضيتنا الوطنية في المحافل الدولية وتجريدها من سلاح الشرعية الدولية والقرارات ذات الصلة، فضلاً عن مسعاها لدمج اسرائيل في الإقليم وتطبيع العلاقات معها.
أضف تعليق