المقاومة السلمية وتسول تجربة غاندي
ما زال النقاش محتدماً حول الخيار الاستراتيجي الواجب اتباعه في العلاقة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، ويتمحور النقاش حول خيارين اثنين رئيسيين:
الأول: هو خيار المقاومة الشعبية الشاملة بكل الأساليب والوسائل الممكنة، مستنداً إلى ضرورة تطبيق قرارات الشرعية الفلسطينية، كما أقرتها دورات المجلسين الوطني والمركزي، في وقف العمل بالمرحلة الانتقالية لإتفاق أوسلو، والتي انتهى أجلها في أيار (مايو) 1999، والتي تم الإعلان عن وفاتها في مفاوضات كامب ديفيد2 (تموز/ يوليو 2000)، حين وصلت إلى الطريق المسدود بفعل التعنت الإسرائيلي، مدعوماً من إدارة كلينتون، كما قررت ترجمة وقف العمل بالمرحلة الإنتقالية بسلسلة خطوات من شأنها أن تعيد صياغة العلاقة مع إسرائيل، بما في ذلك وقف التنسيق الأمني، والخروج من بروتوكول باريس الاقتصادي، والغلاف الجمركي مع إسرائيل، وسحب الاعتراف بها إلى أن تعترف بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وتوقف كل أشكال الاستيطان.
الملاحظ هنا، للمفارقة، أن أكثر الأطراف تمسكاً بهذه الخيارات وهذه القرارات هي القوى الفلسطينية المدعوة معارضة، وكانت قد اتخذت، منذ الأساس، موقفاً مناهضاً لاتفاق أوسلو ومساره.
الخيار الثاني: هو الذي تمثله السلطة، ورغم أنها المعنية بصون الشرعية الفلسطينية وقرارات مجلسيها الوطني والمركزي، فإنها تعتمد خطاً سياسياً يقوم على تعطيل قرارات الشرعية الفلسطينية، وتحاول أن تختزل الشرعية بشخصية رئيس سلطة الحكم الإداري الذاتي وحده، في تهميش خطير لباقي المؤسسات. كما تقوم خيارات هذه السلطة على التمسك بأوسلو، وبروتوكول باريس الاقتصادي، وتقيم رهاناتها على الوعود الأميركية لاستئناف المفاوضات الثنائية مع دولة الاحتلال، متعامية عن المواقف الإسرائيلية الرافضة للاعتراف بالسلطة شريكاً في العملية السياسية، وافتقار واشنطن، هي الأخرى، لرؤية تترجم عبرها تأييدها لمبدأ «حل الدولتين»، باعتباره الحل المناسب للصراع في المنطقة، والاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية.
وتعتمد السلطة للتمويه على سياساتها المعطلة لقرارات الشرعية الفلسطينية خطاباً إعلامياً، يحاول أن يصف سلوكيات القيادة السياسية، وتعطيلها للقرارات، بالحكمة والتعقل والتروي، وأنها حريصة على وضع الدراسات لليوم التالي لتطبيق القرارات، وأن القيادة السياسية لا تخضع لابتزاز المعارضة التي تطالبها على الدوام بتطبيق قرارات المجلسين الوطني والمركزي، وأنها - كقيادة حكيمة – تحرص على اتخاذ القرار الصحيح وإن كان غير شعبوي، وبالتالي، فإن خيارات القيادة السياسية في نهاية المطاف هي القيادة السلمية، ما يعني بالمقابل، أن الدعوات لتطبيق قرارات الشرعية الفلسطينية هي قرارات غير واقعية، ما يطال في الإطار نفسه، صحة مواقف المؤسسات الوطنية، ومدى تمثلها للشرعية الفلسطينية.
وفي مجال المماطلة، بشأن أشكال المقاومة، لا تكف القيادة السياسية الفلسطينية عن الدعوة إلى «مقاومة شعبية سلمية» دون أن تقدم تعريفاً واضحاً لمعنى المقاومة السلمية، وإن كان البعض يحاول أن يزور الوقائع، بالدعوة لاعتماد أساليب المقاومة السلمية في الهند بزعامة غاندي، باعتبارها نموذجاً يحتذى به، في تجاهل وتزوير لظروف كل من التجربتين الهندية والفلسطينية، والسياق التاريخي لكل منهما، وطبيعة البنى الاجتماعية والسياسية للقوى السياسية الهندية، دون تجاهل طبيعة الاستعمار البريطاني، مقارنة مع الاحتلال الإسرائيلي.
وإن كنا لسنا بصدد إجراء مقارنة بين التجربتين تعتمد على المراجع والمصادر الموثوقة، فإن بإمكاننا أن نلفت النظر إلى بعض الفوارق بين التجربتين التي من شأنها أن تجهض الدعوة لاعتبار التجربة الهندية نموذجاً وحيداً للمقاومة.
1) الزعامة: تلعب الزعامات الفردية دوراً رئيسياً في رسم السياسات لشعوبها واستنهاضها، وقيادتها في معارك استراتيجية، تشكل منعطفات ذات تداعيات كبرى وتاريخية، وتجاربنا العربية حافلة بهذه الشخصيات من جمال عبد الناصر، إلى حافظ الأسد، إلى صدام حسين، إلى هواري بومدين، إلى معمر القذافي، دون أن ننسى أنور السادات الذي رسم لمصر اتجاهات سياسية شكلت انقلاباً على سياسات عبد الناصر، ودون أن ننسى بشكل خاص، الرئيس ياسر عرفات، الذي احتل مكانة كبرى في مسار الشعب الفلسطيني، وإعادة بناء حركته الوطنية، وإعادة بناء الشخصية الوطنية الجامعة بعد أن كادت النكبة وتداعياتها أن تشتتها.
في الهند، لعبت زعامة غاندي دوراً مهماً وتاريخياً في قيادة شعبه في مقاومة الاستعمار البريطاني، ونسج لحياته نمطاً متقشفاً ساوى بينه وبين مستويات المعيشة لفقراء الهند، وكان صادقاً في مشاعره ومواقفه، بحيث نال الثقة العمياء لشعبه، وصارت نداءاته وشعاراته ومواقفه السياسية، الأمر اليومي لشعبه في مقاومة الاستعمار البريطاني، ولم يكن مرتبطاً بأي اتفاق مع بريطانيا، لا على الصعيد الأمني، ولا على الصعيد الاقتصادي، التزاماته الوحيدة كانت نحو شعبه ومقاومته للاستعمار.
هذا كله افتقدته الحالة الفلسطينية، خاصة بعد رحيل ياسر عرفات، حيث بدا الإفتراق واسعاً، بين الحالة الاجتماعية للنخب السياسية وبيروقراطية السلطة من جهة، وبين الحالة الاجتماعية لباقي شرائح المجتمع الفلسطيني، في المدن والقرى والمخيمات، داخل فلسطين وخارجها. كما بدا التفاوت بين أقوال النخبة السياسية وبيروقراطية السلطة، وبين أفعالها، الأمر الذي أفقدها ثقة المجتمع الفلسطيني بسياساتها وممارساتها وقناعاته بإمكانياتها أن تقود مسيرة الخلاص من الاحتلال، خاصة وأنها بنت حولها بموجب إتفاق أوسلو، وتطبيقاته بيروقراطية سلطوية، ذات أذرع إعلامية وأمنية، بنت لنفسها مصالح طبقية ونفوذاً اجتماعياً، بات شرط بقائها رهناً بإبقاء الوضع على حالة في ظل الاحتلال، مع رفض كل أشكال العنف الذي من شأنه أن يخلخل البنية القائمة، وعلاقاتها ومصالحها، وابتعدت هذه النخب بمصالحها البيروقراطية عن مواقعها السابق كجزء من حركة التحرر، لتصبح سلطة تحاول أن تغطي عوراتها ونقائها ووظائفها الحقيقية، بالادعاء كونها باتت دولة (أي حققت الهدف النضالي الكبير لشعبها)، وأنه لم يعد ينقص سوى الخلاص من الاحتلال، في هرطقة سياسية تقوم على فبركة الأكاذيب، وتزوير الواقع، الأمر الذي عمق أزمتها السياسة وعمق مساحة الافتراق بينها وبين شعبها، وبحيث باتت دعوتها إلى المقاومة المسلحة، هي الأخرى شكلاً من أشكال التهرب من الواجبات التي يمليها عليها موقعها في قيادة الشعب الفلسطيني، وقيادة مقاومته للخلاص من الاحتلال الإسرائيلي.
2) خصوصية المسألة الفلسطينية
للمسألة الفلسطينية خصوصية تختلف في طبيعتها عن باقي مسائل الشعوب التي خضعت للاستعمار ومن بيننها المسألة الهندية، أو حتى مسألة جنوب إفريقيا.
فالاستعمار البريطاني، القادم إلى الهند من خلف البحار، كان يرى في الهند إلى جانب موقعها الاستراتيجي في آسيا، مستعمرة اقتصادية، تعود على المملكة المتحدة بالمكاسب السياسية والاقتصادية. ولم تكن سياسته تقوم على تهجير المواطنين الأصليين، أو حرمانهم من أراضيهم، أو استحضار المواطنين البريطانيين ليحتلوا مكان السكان الأصليين، وإعادة تسمية الهند لتصبح بريطانيا أخرى. المعركة بين الاستعمار البريطاني والشعب في الهند كانت حول نيل استقلالها، وجلاء الاستعمار البريطاني عنها.
حتى في جنوب إفريقيا، حيث قام نظام التمييز العنصري (أبارتهايد) كان الصراع على المساواة في المواطنة، وإلغاء كل أشكال التمييز العنصري، وسيادة الديمقراطية بين أبناء جنوب إفريقيا، بغض النظر عن أصولهم أو لون بشرتهم (سمراء أو بيضاء أو صفراء أو غيرها).
أما في فلسطين؛ فإن محور الصراع لا يدور حول رسم الحدود بين دولة فلسطين ودولة إسرائيل، كما يحاول البعض أن يدعي، ولا حول «قضايا الحل الدائم» كما يدعي اتفاق أوسلو، بل يدور الصراع حول الأرض، وهويتها وملكيتها، أيضاً حول الأرض: هل هي فلسطين، أم هي أرض بني إسرائيل؟! هل هي الضفة الفلسطينية أم هي يهودا والسامرة التي ورد ذكرها في التوراة ووعدت السماء بها «الشعب اليهودي»، أي بين الحقائق والخرافات، وهو صراع ممتد لا تجوز فيه المساومة وتدوير الزوايا، وإخفاء الحقائق أو التمويه عليها، هو صراع له طابعه الخاص، يواجه فيه الشعب الفلسطيني الذي مزقت النكبة نسيجه الاجتماعي، دولة عدوانية مدججة بكل أنواع السلاح لا تتورع عن ارتكاب كل أشكال العنف والتدمير الاقتصادي والمجتمعي، تقوم على مبدأ تهجير الشعب الفلسطيني، والخلاص منه خارج فلسطين، ومصادرة أرضه وتهويدها لتصبح كل فلسطين دولة إسرائيل الكبرى، على حساب إلغاء الهوية الوطنية الفلسطينية وشطبها، بكل ما يتطلبه ذلك من تذويب للفلسطينيين العرب داخل إسرائيل في مشروع التهويد، واستبدال الشخصية الوطنية الفلسطينية بشخصية هجينة مشوهة، مقطوعة الجذور مع الأرض والتاريخ، وفي الضفة الفلسطينية، مصادرة أوسع مساحة من الأرض وتهويدها بالمستوطنات، ليصبح الوجود اليهودي الإسرائيلي في القدس وفي أنحاء الضفة هو العنصر الغالب، ومحاصرة الوجود الفلسطيني في المدن، والبحث عن حلول تتجاوز إقامة كيان وطني فلسطيني، لصالح كيان تابع، إما في إطار حكم إداري ذاتي، أو في إطار كانتونات على مستوى المحافظة الواحدة، تدار من قبل سلطة عسكرية تؤمن فيها الاستقرار ونظام الحياة اليومية خارج أية ثقافة للانتماء الوطني، أو أي ولاء لقضية وطنية، أو في البحث عن حل إقليمي، يلحق الحكم الإداري الذاتي بدولة مجاورة (يتم ترشيح الأردن دون غيره) على حساب الكيانية الفلسطينية.
أما اللاجئون، فالحل يقوم على تطبيق السيناريوهات السابقة التي خرجت في كامب ديفيد2، أو في مؤتمر «جنيف – البحر الميت»، أو أية مشاريع أخرى بديلاً لحق العودة.
في ظل هذا التفاوت الكبير بين طبيعة المسألة الفلسطينية وغيرها من مسائل التحرر الوطني الأخرى.
تشكل الدعوة إلى المقاومة السلمية، بخلفياتها السياسية المعروفة، تنكراً للتاريخ النضالي الزاخر لشعب فلسطين منذ أكثر من مئة سنة. لقد خاض الشعب الفلسطيني كل أشكال النضال، وحقق في هذا السياق، خاصة في مراحل الكفاح المسلح، متزامناً مع المقاومة الشعبية، بكل وسائلها، سلسلة واسعة من المكاسب الكبرى، ما زالت آثارها تتوج القضية الفلسطينية، كالاعتراف بالشعب الفلسطيني، بعد أن جرت عملية شطبه من الخارطة السياسية، أو الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً له، أو الاعتراف بحقه في تقرير مصيره بموجب قرارات الشرعية الدولية في العودة والاستقلال، أو الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة فلسطين، أو حق أبنائه اللاجئين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها، أو حقه في اعتماد كل أساليب النضال الممكنة والمتاحة لتحقيق أهدافه الوطنية، وإدانة المشروع الصهيوني باعتباره مشروعاً للتمييز العنصري. كل هذا تحقق ونقل القضية الفلسطينية من قضية لاجئين منتشرين في مخيمات البؤس بانتظار مساعدات وكالة الغوث، إلى شعب له أرض وله وطن، وله دولة وعاصمة وله تاريخه وحضارته وثقافته، فضلاً عن كونه عضواً في المجتمع الدولي، من خلال عضوية دولة فلسطين عضواً مراقباً في الأمم المتحدة.
الخيار السياسي الذي أثبت فشله، ووصوله إلى الطريق المسدود، هو خيار أوسلو، الذي انقلب على الخيار الوطني كما أقره المجلس الوطني. وأثبتت مفاوضات العام 2000 في تموز (يوليو) في كامب ديفيد2 فساد اتفاق أوسلو، وفشله في تحقيق الأهداف الوطنية للشعب الفلسطيني. كما أثبتت خيارات المقاومة الشعبية السلمية، كأداة للوصول إلى حل سياسي بات هو الخيار الوحيد عبر مفاوضات ثنائية، فشله في إنجاز المشروع الوطني. فتجريد الشعب الفلسطيني من أدواته النضالية المتنوعة، وحرمانه من حقه في استعادتها، وحصر خياراته في مقاومة شعبية تسمى «سلمية» لم يقدم أصحابها حتى الآن تعريفاً واضحاً لها، لا يعتبر عملاً حكيماً، ولا متعقلاً ولا نبيلاً، بل هو تراجع خطير، واستسلام للإدارة الأميركية التي ترفع عصا الترهيب، بتوزيع تهم الإرهاب على الأطراف المتمردة على إرادتها. ولا غرابة إذن أن يكون خيار المفاوضات السلمية خياراً وحيداً، يشكل الوجه الآخر للخيار المسمى «المقاومة الشعبية السلمية».
يصبح من الغباء والتدليس السياسي، محاولة التشبه بالتجربة الهندية، أو تجربة جنوب إفريقيا، ونعتقد أن مجرد البحث عن تجارب أخرى، لحل المسألة الفلسطينية، هو اعتراف بفشل التجربة الفلسطينية على مدى العقود الماضية، واعترف لهزيمة المشروع الوطني، بعناصره المتكاملة، والدعوة لحصره في قضية واحدة، يتم سلخها عن باقي عناصر المشروع، ألا وهي مسألة الدولة الفلسطينية، وفقاً للشروط الأميركية – الإسرائيلية، ما يعني الاستعداد لتقاسم الأرض، والتعايش مع مشروع صهيوني لا يمكن أن يستمد أكسير الحياة إلا من كونه مشروعاً يطمع في كل الأرض الفلسطينية كاملة.
4- حرية الخيار لدى غاندي، والقيود على السلطة الفلسطينية
لا يمكن إسقاط تجربة غاندي على الشعب الفلسطيني من خلال الأخذ بجزئية من جزيئات هذه التجربة، وتجاهل باقي عناصرها التي تشكل في مجموعها وحدة متكاملة، رسمت استراتيجية سياسية قائمة بذاتها.
غاندي لم يكن مقيداً بأي اتفاق مع الاستعمار البريطاني، لا على الصعيد الأمني (التنسيق الأمني) ولا على الصعيد الاقتصادي (بروتوكول باريس الاقتصادي والغلاف الجمركي)، بل كان متحرراً من كل تعهد نحو الاستعمار البريطاني، مرتبطاً بتعهد وحيد، هو قيادة شعبه نحو الاستقلال، لذلك لم يكن غاندي في اتخاذه لأي قرار، يقف أمام حساباته الضيقة، بما فيها حرصه على الاعتراف به من قبل بريطانيا شريكاً في العملية السياسية، مثل هذه الحسابات التي تقلق بال القيادة السياسية لسلطة الحكم الإداري الذاتي الفلسطيني، لم تكن ببال غاندي، وهذه نقطة افتراق كبرى، توضح حجم التباعد وحجم المساحة التي تفصل بين تجربتين الأولى أثبتت نجاحها، والأخرى ما زالت تجرجر فشلها، وتصر على إنكار هذا الفشل، بعد أن تحولت إلى حالة سياسية انكارية تماماً، فقدت القدرة لأسباب فئوية ومصلحية وطبقية خاصة، على رؤية الواقع، وعناصره، والتفاعل معه بما يتطلبه هذا الواقع من ضرورات نضالية، وإصرارها بالمقابل على رسم واقع خاص بها، يبعدها أكثر فأكثر عن الشارع السياسي، ويعمق الهوة بينها وبينه.
لم تكن المقاومة السلمية خياراً وحيداً لشعب الهند
الإدعاء أن المقاومة الشعبية السلمية كانت هي الخيار الوحيد لشعب الهند للتحرر من الاستعمار البريطاني، إنما هو تزوير للتاريخ. غاندي كان صاحب الدعوة إلى المقاومة السلمية، لكن كانت هناك أطراف سياسية أخرى لم تعتنق دعوته، ولم تستجب لها، بل رأت في كل أشكال المقاومة المسلحة طريقاً آخراً من العمل الفدائي (بصورة ذلك الزمان) إلى تفجير القطارات وخطوط مواصلات وتحركات جيش الاستعمار البريطاني أو زرع العبوات في ثكناته، وقد نجحت هذه السياسة في إيقاع خسائر كبرى في صفوف جيش الاحتلال البريطاني، وكان لذلك صداه في لندن، خاصة عندما تنقل توابيت قتلى الجيش إلى عوائلهم أو إعادة الجرحى مبتوري الأطراف إلى أرض الوطن.
وإذا ما نظرنا إلى نضال شعب الهند، من كل جوانبه (المقاطعة الاقتصادية، رفض العمل في المؤسسات الاستعمارية، الأعمال العسكرية ضد الجيش البريطاني، الحملات الدبلوماسية، في بريطانيا نفسها لكسب الرأي العام الليبرالي)، أدركنا لماذا نجح الشعب الهندي في نيل استقلاله، وما زالت القضية الفلسطينية تعيش استعصاءات داخلية وذاتية، واستعصاءات خارجية موضوعية.
إن القضية الملحة هي احترام الشرعية الفلسطينية لقرارات مجلسيها الوطني والمركزي، واحترام تجارب الشعب الفلسطيني واحترام تجارب الشعب الفلسطيني وتطلعاته، ورسم استراتيجية كفاحية بديلة لأوسلو، لا تضع تعارضاً بين النضال الشعبي بكل مسمياته السلمية غير السلمية، وبين المقاومة المسلحة، في ظل انتفاضة شعبية شاملة■
الأول: هو خيار المقاومة الشعبية الشاملة بكل الأساليب والوسائل الممكنة، مستنداً إلى ضرورة تطبيق قرارات الشرعية الفلسطينية، كما أقرتها دورات المجلسين الوطني والمركزي، في وقف العمل بالمرحلة الانتقالية لإتفاق أوسلو، والتي انتهى أجلها في أيار (مايو) 1999، والتي تم الإعلان عن وفاتها في مفاوضات كامب ديفيد2 (تموز/ يوليو 2000)، حين وصلت إلى الطريق المسدود بفعل التعنت الإسرائيلي، مدعوماً من إدارة كلينتون، كما قررت ترجمة وقف العمل بالمرحلة الإنتقالية بسلسلة خطوات من شأنها أن تعيد صياغة العلاقة مع إسرائيل، بما في ذلك وقف التنسيق الأمني، والخروج من بروتوكول باريس الاقتصادي، والغلاف الجمركي مع إسرائيل، وسحب الاعتراف بها إلى أن تعترف بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وتوقف كل أشكال الاستيطان.
الملاحظ هنا، للمفارقة، أن أكثر الأطراف تمسكاً بهذه الخيارات وهذه القرارات هي القوى الفلسطينية المدعوة معارضة، وكانت قد اتخذت، منذ الأساس، موقفاً مناهضاً لاتفاق أوسلو ومساره.
الخيار الثاني: هو الذي تمثله السلطة، ورغم أنها المعنية بصون الشرعية الفلسطينية وقرارات مجلسيها الوطني والمركزي، فإنها تعتمد خطاً سياسياً يقوم على تعطيل قرارات الشرعية الفلسطينية، وتحاول أن تختزل الشرعية بشخصية رئيس سلطة الحكم الإداري الذاتي وحده، في تهميش خطير لباقي المؤسسات. كما تقوم خيارات هذه السلطة على التمسك بأوسلو، وبروتوكول باريس الاقتصادي، وتقيم رهاناتها على الوعود الأميركية لاستئناف المفاوضات الثنائية مع دولة الاحتلال، متعامية عن المواقف الإسرائيلية الرافضة للاعتراف بالسلطة شريكاً في العملية السياسية، وافتقار واشنطن، هي الأخرى، لرؤية تترجم عبرها تأييدها لمبدأ «حل الدولتين»، باعتباره الحل المناسب للصراع في المنطقة، والاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية.
وتعتمد السلطة للتمويه على سياساتها المعطلة لقرارات الشرعية الفلسطينية خطاباً إعلامياً، يحاول أن يصف سلوكيات القيادة السياسية، وتعطيلها للقرارات، بالحكمة والتعقل والتروي، وأنها حريصة على وضع الدراسات لليوم التالي لتطبيق القرارات، وأن القيادة السياسية لا تخضع لابتزاز المعارضة التي تطالبها على الدوام بتطبيق قرارات المجلسين الوطني والمركزي، وأنها - كقيادة حكيمة – تحرص على اتخاذ القرار الصحيح وإن كان غير شعبوي، وبالتالي، فإن خيارات القيادة السياسية في نهاية المطاف هي القيادة السلمية، ما يعني بالمقابل، أن الدعوات لتطبيق قرارات الشرعية الفلسطينية هي قرارات غير واقعية، ما يطال في الإطار نفسه، صحة مواقف المؤسسات الوطنية، ومدى تمثلها للشرعية الفلسطينية.
وفي مجال المماطلة، بشأن أشكال المقاومة، لا تكف القيادة السياسية الفلسطينية عن الدعوة إلى «مقاومة شعبية سلمية» دون أن تقدم تعريفاً واضحاً لمعنى المقاومة السلمية، وإن كان البعض يحاول أن يزور الوقائع، بالدعوة لاعتماد أساليب المقاومة السلمية في الهند بزعامة غاندي، باعتبارها نموذجاً يحتذى به، في تجاهل وتزوير لظروف كل من التجربتين الهندية والفلسطينية، والسياق التاريخي لكل منهما، وطبيعة البنى الاجتماعية والسياسية للقوى السياسية الهندية، دون تجاهل طبيعة الاستعمار البريطاني، مقارنة مع الاحتلال الإسرائيلي.
وإن كنا لسنا بصدد إجراء مقارنة بين التجربتين تعتمد على المراجع والمصادر الموثوقة، فإن بإمكاننا أن نلفت النظر إلى بعض الفوارق بين التجربتين التي من شأنها أن تجهض الدعوة لاعتبار التجربة الهندية نموذجاً وحيداً للمقاومة.
1) الزعامة: تلعب الزعامات الفردية دوراً رئيسياً في رسم السياسات لشعوبها واستنهاضها، وقيادتها في معارك استراتيجية، تشكل منعطفات ذات تداعيات كبرى وتاريخية، وتجاربنا العربية حافلة بهذه الشخصيات من جمال عبد الناصر، إلى حافظ الأسد، إلى صدام حسين، إلى هواري بومدين، إلى معمر القذافي، دون أن ننسى أنور السادات الذي رسم لمصر اتجاهات سياسية شكلت انقلاباً على سياسات عبد الناصر، ودون أن ننسى بشكل خاص، الرئيس ياسر عرفات، الذي احتل مكانة كبرى في مسار الشعب الفلسطيني، وإعادة بناء حركته الوطنية، وإعادة بناء الشخصية الوطنية الجامعة بعد أن كادت النكبة وتداعياتها أن تشتتها.
في الهند، لعبت زعامة غاندي دوراً مهماً وتاريخياً في قيادة شعبه في مقاومة الاستعمار البريطاني، ونسج لحياته نمطاً متقشفاً ساوى بينه وبين مستويات المعيشة لفقراء الهند، وكان صادقاً في مشاعره ومواقفه، بحيث نال الثقة العمياء لشعبه، وصارت نداءاته وشعاراته ومواقفه السياسية، الأمر اليومي لشعبه في مقاومة الاستعمار البريطاني، ولم يكن مرتبطاً بأي اتفاق مع بريطانيا، لا على الصعيد الأمني، ولا على الصعيد الاقتصادي، التزاماته الوحيدة كانت نحو شعبه ومقاومته للاستعمار.
هذا كله افتقدته الحالة الفلسطينية، خاصة بعد رحيل ياسر عرفات، حيث بدا الإفتراق واسعاً، بين الحالة الاجتماعية للنخب السياسية وبيروقراطية السلطة من جهة، وبين الحالة الاجتماعية لباقي شرائح المجتمع الفلسطيني، في المدن والقرى والمخيمات، داخل فلسطين وخارجها. كما بدا التفاوت بين أقوال النخبة السياسية وبيروقراطية السلطة، وبين أفعالها، الأمر الذي أفقدها ثقة المجتمع الفلسطيني بسياساتها وممارساتها وقناعاته بإمكانياتها أن تقود مسيرة الخلاص من الاحتلال، خاصة وأنها بنت حولها بموجب إتفاق أوسلو، وتطبيقاته بيروقراطية سلطوية، ذات أذرع إعلامية وأمنية، بنت لنفسها مصالح طبقية ونفوذاً اجتماعياً، بات شرط بقائها رهناً بإبقاء الوضع على حالة في ظل الاحتلال، مع رفض كل أشكال العنف الذي من شأنه أن يخلخل البنية القائمة، وعلاقاتها ومصالحها، وابتعدت هذه النخب بمصالحها البيروقراطية عن مواقعها السابق كجزء من حركة التحرر، لتصبح سلطة تحاول أن تغطي عوراتها ونقائها ووظائفها الحقيقية، بالادعاء كونها باتت دولة (أي حققت الهدف النضالي الكبير لشعبها)، وأنه لم يعد ينقص سوى الخلاص من الاحتلال، في هرطقة سياسية تقوم على فبركة الأكاذيب، وتزوير الواقع، الأمر الذي عمق أزمتها السياسة وعمق مساحة الافتراق بينها وبين شعبها، وبحيث باتت دعوتها إلى المقاومة المسلحة، هي الأخرى شكلاً من أشكال التهرب من الواجبات التي يمليها عليها موقعها في قيادة الشعب الفلسطيني، وقيادة مقاومته للخلاص من الاحتلال الإسرائيلي.
2) خصوصية المسألة الفلسطينية
للمسألة الفلسطينية خصوصية تختلف في طبيعتها عن باقي مسائل الشعوب التي خضعت للاستعمار ومن بيننها المسألة الهندية، أو حتى مسألة جنوب إفريقيا.
فالاستعمار البريطاني، القادم إلى الهند من خلف البحار، كان يرى في الهند إلى جانب موقعها الاستراتيجي في آسيا، مستعمرة اقتصادية، تعود على المملكة المتحدة بالمكاسب السياسية والاقتصادية. ولم تكن سياسته تقوم على تهجير المواطنين الأصليين، أو حرمانهم من أراضيهم، أو استحضار المواطنين البريطانيين ليحتلوا مكان السكان الأصليين، وإعادة تسمية الهند لتصبح بريطانيا أخرى. المعركة بين الاستعمار البريطاني والشعب في الهند كانت حول نيل استقلالها، وجلاء الاستعمار البريطاني عنها.
حتى في جنوب إفريقيا، حيث قام نظام التمييز العنصري (أبارتهايد) كان الصراع على المساواة في المواطنة، وإلغاء كل أشكال التمييز العنصري، وسيادة الديمقراطية بين أبناء جنوب إفريقيا، بغض النظر عن أصولهم أو لون بشرتهم (سمراء أو بيضاء أو صفراء أو غيرها).
أما في فلسطين؛ فإن محور الصراع لا يدور حول رسم الحدود بين دولة فلسطين ودولة إسرائيل، كما يحاول البعض أن يدعي، ولا حول «قضايا الحل الدائم» كما يدعي اتفاق أوسلو، بل يدور الصراع حول الأرض، وهويتها وملكيتها، أيضاً حول الأرض: هل هي فلسطين، أم هي أرض بني إسرائيل؟! هل هي الضفة الفلسطينية أم هي يهودا والسامرة التي ورد ذكرها في التوراة ووعدت السماء بها «الشعب اليهودي»، أي بين الحقائق والخرافات، وهو صراع ممتد لا تجوز فيه المساومة وتدوير الزوايا، وإخفاء الحقائق أو التمويه عليها، هو صراع له طابعه الخاص، يواجه فيه الشعب الفلسطيني الذي مزقت النكبة نسيجه الاجتماعي، دولة عدوانية مدججة بكل أنواع السلاح لا تتورع عن ارتكاب كل أشكال العنف والتدمير الاقتصادي والمجتمعي، تقوم على مبدأ تهجير الشعب الفلسطيني، والخلاص منه خارج فلسطين، ومصادرة أرضه وتهويدها لتصبح كل فلسطين دولة إسرائيل الكبرى، على حساب إلغاء الهوية الوطنية الفلسطينية وشطبها، بكل ما يتطلبه ذلك من تذويب للفلسطينيين العرب داخل إسرائيل في مشروع التهويد، واستبدال الشخصية الوطنية الفلسطينية بشخصية هجينة مشوهة، مقطوعة الجذور مع الأرض والتاريخ، وفي الضفة الفلسطينية، مصادرة أوسع مساحة من الأرض وتهويدها بالمستوطنات، ليصبح الوجود اليهودي الإسرائيلي في القدس وفي أنحاء الضفة هو العنصر الغالب، ومحاصرة الوجود الفلسطيني في المدن، والبحث عن حلول تتجاوز إقامة كيان وطني فلسطيني، لصالح كيان تابع، إما في إطار حكم إداري ذاتي، أو في إطار كانتونات على مستوى المحافظة الواحدة، تدار من قبل سلطة عسكرية تؤمن فيها الاستقرار ونظام الحياة اليومية خارج أية ثقافة للانتماء الوطني، أو أي ولاء لقضية وطنية، أو في البحث عن حل إقليمي، يلحق الحكم الإداري الذاتي بدولة مجاورة (يتم ترشيح الأردن دون غيره) على حساب الكيانية الفلسطينية.
أما اللاجئون، فالحل يقوم على تطبيق السيناريوهات السابقة التي خرجت في كامب ديفيد2، أو في مؤتمر «جنيف – البحر الميت»، أو أية مشاريع أخرى بديلاً لحق العودة.
في ظل هذا التفاوت الكبير بين طبيعة المسألة الفلسطينية وغيرها من مسائل التحرر الوطني الأخرى.
تشكل الدعوة إلى المقاومة السلمية، بخلفياتها السياسية المعروفة، تنكراً للتاريخ النضالي الزاخر لشعب فلسطين منذ أكثر من مئة سنة. لقد خاض الشعب الفلسطيني كل أشكال النضال، وحقق في هذا السياق، خاصة في مراحل الكفاح المسلح، متزامناً مع المقاومة الشعبية، بكل وسائلها، سلسلة واسعة من المكاسب الكبرى، ما زالت آثارها تتوج القضية الفلسطينية، كالاعتراف بالشعب الفلسطيني، بعد أن جرت عملية شطبه من الخارطة السياسية، أو الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً له، أو الاعتراف بحقه في تقرير مصيره بموجب قرارات الشرعية الدولية في العودة والاستقلال، أو الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة فلسطين، أو حق أبنائه اللاجئين في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها، أو حقه في اعتماد كل أساليب النضال الممكنة والمتاحة لتحقيق أهدافه الوطنية، وإدانة المشروع الصهيوني باعتباره مشروعاً للتمييز العنصري. كل هذا تحقق ونقل القضية الفلسطينية من قضية لاجئين منتشرين في مخيمات البؤس بانتظار مساعدات وكالة الغوث، إلى شعب له أرض وله وطن، وله دولة وعاصمة وله تاريخه وحضارته وثقافته، فضلاً عن كونه عضواً في المجتمع الدولي، من خلال عضوية دولة فلسطين عضواً مراقباً في الأمم المتحدة.
الخيار السياسي الذي أثبت فشله، ووصوله إلى الطريق المسدود، هو خيار أوسلو، الذي انقلب على الخيار الوطني كما أقره المجلس الوطني. وأثبتت مفاوضات العام 2000 في تموز (يوليو) في كامب ديفيد2 فساد اتفاق أوسلو، وفشله في تحقيق الأهداف الوطنية للشعب الفلسطيني. كما أثبتت خيارات المقاومة الشعبية السلمية، كأداة للوصول إلى حل سياسي بات هو الخيار الوحيد عبر مفاوضات ثنائية، فشله في إنجاز المشروع الوطني. فتجريد الشعب الفلسطيني من أدواته النضالية المتنوعة، وحرمانه من حقه في استعادتها، وحصر خياراته في مقاومة شعبية تسمى «سلمية» لم يقدم أصحابها حتى الآن تعريفاً واضحاً لها، لا يعتبر عملاً حكيماً، ولا متعقلاً ولا نبيلاً، بل هو تراجع خطير، واستسلام للإدارة الأميركية التي ترفع عصا الترهيب، بتوزيع تهم الإرهاب على الأطراف المتمردة على إرادتها. ولا غرابة إذن أن يكون خيار المفاوضات السلمية خياراً وحيداً، يشكل الوجه الآخر للخيار المسمى «المقاومة الشعبية السلمية».
يصبح من الغباء والتدليس السياسي، محاولة التشبه بالتجربة الهندية، أو تجربة جنوب إفريقيا، ونعتقد أن مجرد البحث عن تجارب أخرى، لحل المسألة الفلسطينية، هو اعتراف بفشل التجربة الفلسطينية على مدى العقود الماضية، واعترف لهزيمة المشروع الوطني، بعناصره المتكاملة، والدعوة لحصره في قضية واحدة، يتم سلخها عن باقي عناصر المشروع، ألا وهي مسألة الدولة الفلسطينية، وفقاً للشروط الأميركية – الإسرائيلية، ما يعني الاستعداد لتقاسم الأرض، والتعايش مع مشروع صهيوني لا يمكن أن يستمد أكسير الحياة إلا من كونه مشروعاً يطمع في كل الأرض الفلسطينية كاملة.
4- حرية الخيار لدى غاندي، والقيود على السلطة الفلسطينية
لا يمكن إسقاط تجربة غاندي على الشعب الفلسطيني من خلال الأخذ بجزئية من جزيئات هذه التجربة، وتجاهل باقي عناصرها التي تشكل في مجموعها وحدة متكاملة، رسمت استراتيجية سياسية قائمة بذاتها.
غاندي لم يكن مقيداً بأي اتفاق مع الاستعمار البريطاني، لا على الصعيد الأمني (التنسيق الأمني) ولا على الصعيد الاقتصادي (بروتوكول باريس الاقتصادي والغلاف الجمركي)، بل كان متحرراً من كل تعهد نحو الاستعمار البريطاني، مرتبطاً بتعهد وحيد، هو قيادة شعبه نحو الاستقلال، لذلك لم يكن غاندي في اتخاذه لأي قرار، يقف أمام حساباته الضيقة، بما فيها حرصه على الاعتراف به من قبل بريطانيا شريكاً في العملية السياسية، مثل هذه الحسابات التي تقلق بال القيادة السياسية لسلطة الحكم الإداري الذاتي الفلسطيني، لم تكن ببال غاندي، وهذه نقطة افتراق كبرى، توضح حجم التباعد وحجم المساحة التي تفصل بين تجربتين الأولى أثبتت نجاحها، والأخرى ما زالت تجرجر فشلها، وتصر على إنكار هذا الفشل، بعد أن تحولت إلى حالة سياسية انكارية تماماً، فقدت القدرة لأسباب فئوية ومصلحية وطبقية خاصة، على رؤية الواقع، وعناصره، والتفاعل معه بما يتطلبه هذا الواقع من ضرورات نضالية، وإصرارها بالمقابل على رسم واقع خاص بها، يبعدها أكثر فأكثر عن الشارع السياسي، ويعمق الهوة بينها وبينه.
لم تكن المقاومة السلمية خياراً وحيداً لشعب الهند
الإدعاء أن المقاومة الشعبية السلمية كانت هي الخيار الوحيد لشعب الهند للتحرر من الاستعمار البريطاني، إنما هو تزوير للتاريخ. غاندي كان صاحب الدعوة إلى المقاومة السلمية، لكن كانت هناك أطراف سياسية أخرى لم تعتنق دعوته، ولم تستجب لها، بل رأت في كل أشكال المقاومة المسلحة طريقاً آخراً من العمل الفدائي (بصورة ذلك الزمان) إلى تفجير القطارات وخطوط مواصلات وتحركات جيش الاستعمار البريطاني أو زرع العبوات في ثكناته، وقد نجحت هذه السياسة في إيقاع خسائر كبرى في صفوف جيش الاحتلال البريطاني، وكان لذلك صداه في لندن، خاصة عندما تنقل توابيت قتلى الجيش إلى عوائلهم أو إعادة الجرحى مبتوري الأطراف إلى أرض الوطن.
وإذا ما نظرنا إلى نضال شعب الهند، من كل جوانبه (المقاطعة الاقتصادية، رفض العمل في المؤسسات الاستعمارية، الأعمال العسكرية ضد الجيش البريطاني، الحملات الدبلوماسية، في بريطانيا نفسها لكسب الرأي العام الليبرالي)، أدركنا لماذا نجح الشعب الهندي في نيل استقلاله، وما زالت القضية الفلسطينية تعيش استعصاءات داخلية وذاتية، واستعصاءات خارجية موضوعية.
إن القضية الملحة هي احترام الشرعية الفلسطينية لقرارات مجلسيها الوطني والمركزي، واحترام تجارب الشعب الفلسطيني واحترام تجارب الشعب الفلسطيني وتطلعاته، ورسم استراتيجية كفاحية بديلة لأوسلو، لا تضع تعارضاً بين النضال الشعبي بكل مسمياته السلمية غير السلمية، وبين المقاومة المسلحة، في ظل انتفاضة شعبية شاملة■
أضف تعليق