رؤية استشرافية للاقتصاد الفلسطيني في ضوء الانقسام والاحتلال
ورقة عمل بعنوان «رؤية استشرافية للاقتصاد الفلسطيني في ضوء الانقسام والاحتلال»
مقدمة من الاستاذ الدكتور سمير مصطفى أبو مدلله
محاضر في جامعة الأزهر بغزة،
وعضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
مقدمة من الاستاذ الدكتور سمير مصطفى أبو مدلله
محاضر في جامعة الأزهر بغزة،
وعضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
مقدمة:
يعيش الشعب الفلسطيني مرحلة حساسة واستثنائية في مسيرة نضاله الوطني ، تتمثل أبرز سماتها بالسعي الجاد نحو تحقيق المصالحة الفلسطينية واستعادة الوحدة الوطنية بعد عقد ونصف من الانقسام ، وتوتر العلاقات بين السلطة الفلسطينية وحكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي جراء تعثر المفاوضات والمساعي الدولية في التوصل إلى سلام يُنهي الصراع بين الجانبين، وتضاؤل فرص تمديد مهلة التفاوض إلى فترة جديدة دون قبول إسرائيل بقرارات الامم المتحدة التي يطالب بها الجانب الفلسطيني، وما نجم عنه من سعي الجانب الفلسطيني لانضمام دولة فلسطين للعديد من المعاهدات والاتفاقيات والمؤسسات الدولية وأهمها محكمة العدل الدولية لاهاي ، الأمر الذي أثار حفيظة الاحتلال الإسرائيلي وهدد بفرض وتطبيق عقوبات اقتصادية قاسية كان لها تبعات على مجمل الاقتصاد الفلسطيني وانعكس سلباً على الواقع الاجتماعي خصوصاً مع الأزمة المالية التي تعاني منها السلطة بسبب تراجع حجم التمويل والدعم الدولي.
وفي ضوء الحالة الاستثنائية التي تشهدها فلسطين وتأثيرات ذلك على الاقتصاد الفلسطيني هناك العديد من الأسئلة التي تخص الاقتصاد الفلسطيني حول ماهية التصور لإدارة هذا الاقتصاد في ظل الانقسام وممارسات الاحتلال الاسرائيلي حيث لا يمكن إغفال مآلات الانقسام وممارسات الاحتلال على الاقتصاد الفلسطيني ، وماذا بالنسبة لتراكمات السنوات السابقة من تعدد القوانين والنظم واللوائح والمؤسسات ذات الطابع الاقتصادي والمالي وتحديداً في قطاع غزة؟ ، وما هي المتطلبات اللازمة لتحفيز نمو الاقتصاد الفلسطيني؟ ومدى قدرة الاقتصاد الفلسطيني على تحمل ومواجهة العقوبات الاقتصادية التي تهدد بها دولة الاحتلال والتي تسعى جاهدة لعقاب الشعب الفلسطيني لمنع تصالحه مع ذاته.
قبل البدء بتحليل الجوانب الاقتصادية لفترة الانقسام ومتطلبات المرحلة القادمة، فإن الجدير ذكره أن يتم استعراض السياق التاريخي لمراحل الاقتصاد الفلسطيني والشعارات الاقتصادية التي رفعت في هذه المراحل من أجل إدراك المعاني الحقيقية للمرحلة التي نعيشها.
لقد دأب الاقتصاديون الفلسطينيون على تسمية كل مرحلة يعيشها الاقتصاد بمسمى الحالة السياسية والأمنية التي يمر بها، فظهر في سياق مسيرة هذا الاقتصاد عدة مراحل، أولها "الاقتصاد تحت الاحتلال" (قبل تأسيس السلطة الفلسطينية، حيث لا زال الاحتلال هو المحدد الرئيسي لمسيرة الاقتصاد الفلسطيني)، ثم بعد تأسيس السلطة أصبحنا نتحدث عن " الاقتصاد في عهد السلطة الفلسطينية" ليعكس تأثيرات وخصائص الاقتصاد في ضوء إدارة السلطة الفلسطينية لمسيرة هذا الاقتصاد، ثم بعد اندلاع انتفاضة الأقصى المبارك في العام 2000 ظهر لدينا "اقتصاد الانتفاضة" ليعكس تأثر الاقتصاد الفلسطيني بالأحداث وسياسات الاحتلال الإسرائيلي للقضاء على الانتفاضة، ومع عمق تأثير الاحتلال وخنقه وحصاره للاقتصاد الفلسطيني رفعت شعارات "الاقتصاد المقاوم" ليعكس استراتيجية التنمية التي ينبغي تبنيها على المستوى الاقتصادي والتنموي، وهي حالة البقاء على قيد الحياة والصبر على عقوبات المحتل، ودعم صمود الشعب في فلسطين بكافة الوسائل المتاحة.
ومع انتخابات عام 2006 والتباين العميق في الرؤية السياسية وآليات الفعل الوطني والناجمة عن اختلاف ايدلوجي في الأساس، وتدهور العلاقة بين أكبر فصيلين فلسطينيين، وانعكاسها على الأداء الحكومي الرسمي، وصولاً الى النتيجة المأساوية والتي تمثلت في ظهور الانقسام الفلسطيني وانعزال قطاع غزة عن الضفة الغربية، أصبحنا نتحدث عن حالة الاقتصاد الفلسطيني في ظل الانقسام "اقتصاد الانقسام"، وقد انبثق عن "اقتصاد الانقسام" مصطلحاً جديداً في أدبيات الاقتصاد الفلسطيني الغزي ألا وهو "اقتصاد الانفاق"، والذي ظهر في سياق كسر الحصار الإسرائيلي المشدد على قطاع غزة، وليثبت قدرة الشعب الفلسطيني على التأقلم مع أحلك الظروف، وأنه صخرة صلبة تتكسر عليها كل محاولات قتل وخنق هذا الشعب. فبالرغم من الآثار السلبية التي لحقت بالاقتصاد الفلسطيني، إلا أن الأنفاق كانت المنفذ الوحيد للتخفيف الجزئي من حدة الحصار على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
ثم بدأ الحديث عن "اقتصاد الدولة" وبناء مؤسساتها، وانعكس ذلك على خطة التنمية الفلسطينية 2011 – 2013، والتي جاءت لترفع شعار (إقامة الدولة وبناء المستقبل)، وترسخت القناعة بالتوجه نحو "فلسلفة اقتصاد الدولة" بعد الاعتراف بفلسطين دولة مراقب غير عضو في الامم المتحددة بتاريخ 29/11/2012، وما له من دلالات كبيرة وانعكاسات هامة على الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، اذ فرض هذا الانجاز على مؤسسات الدولة الفلسطينية وضع وتحديد التوجهات الاقتصادية والتنموية المستقبلية والتي عكسها المخطط الفلسطيني في خطة التنمية 2014-2016، التي رسخت الرؤية نحو بناء دولة مستقلة ذات سيادة. ومن ثم جاءت الخطة القطاعية للفترة ( 2021-2023) بعنوان الاستراتيجية القطاعية لتنمية الاقتصاد الوطني من خلال توفير خدمات أفضل للمواطنين، والتوجه نحو الانفكاك الاقتصادي التدريجي والتنمية بالعناقيد، والأخذ بعين الاعتبار الاولويات التنموية الجديدة في القطاع والبعد الجغرافي، والتركيز على المرأة والشباب والبيئة.
يُلاحظ من المراحل أعلاه عدم قدرة الاقتصاد الفلسطيني في هذه المراحل من تحقيق الاستقلالية الكاملة والاعتماد على الذات وبناء نموذج اقتصادي قادر على مواجهة التحديات أو التخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية ويرجع ذلك إلى حالة الضعف الذي شهده الاقتصاد الفلسطيني حيث ندرة الموارد وتزايد أعباء الاقتصاد وارتفاع عدد السكان ونموه بشكل لا يتناسب ونمو الناتج, إضافة للسياسات الاقتصادية غير الوازنة والتي تقع في خانة السياسة النيو ليبرالية والتي لا تتناسب مع احتياجات الاقتصاد في ضوء مرحلة التحرر الوطني والانعتاق من التبعية وشروط التبادل غير المتكافئة مع دولة الاحتلال حيث تخضع لمفاهيم اقتصاد المركز والأطراف ومن الاستحالة أن يؤدي النمو في المركز إلى تحقيق نمو في الأطراف بل يسعي المركز لاستنزاف الأطراف, وهذه الأمور تعني أن هناك تداعيات للظروف السياسية والأمنية على مجمل الاقتصاد الفلسطيني إضافة لتأثيراتها على رفاهية المواطنين وصمودهم في وجه الاحتلال ولذلك انعكاسات على القضية الوطنية ككل.
إن الإجابة على التساؤلات السابقة بأسلوب مهني اقتصادي، وقبل الحديث عن رؤية استشرافية للاقتصاد الفلسطيني، يستلزم من الناحية الموضوعية والمنهجية التطرق لتأثيرات الاحتلال والانقسام على الاقتصاد الفلسطيني، وذلك من خلال عرض العديد من المؤشرات الاقتصادية المتأثرة بالاحتلال والانقسام الفلسطيني ومن ثم التطرق للحلول للخروج من الأزمات التي يعاني منها الاقتصاد الفلسطيني منذ عقود
أولاً: نمو متذبذب وغير تنموي وغير مستدام
أضف تعليق