23 كانون الأول 2024 الساعة 19:27

نفق وشمس، صبّار وقُبلة.. ورجال حطّموا الهيبة

2021-09-19 عدد القراءات : 1033
«كي تُصبحي ملكةً يجب أن تحملي الشمس إلى القصر»، بهذه الجملة البسيطة في التعبير، والجوهرية في المضمون، تمكن الشهيد الأديب غسان كنفاني، من توصيف مفهومه المنطلق من مفهوم شعب بأكمله، لمعنى الحرية الكاملة، واستطاع أن يمنح هذا المفهوم، قيمته الإنسانية الكامنة في تفاصيل أن يكون الإنسان حراً، يمارس فطريته الإنسانية، دون تكبيل أو كبح لجماح المشاعر الإنسانية، التي يكتشفها الإنسان، بتفاعله مع محيطه الطبيعي، فلاكتشاف الحرية معادلات مترابطة ومعقدة في آن واحد، مرتهنة بعناصر الطبيعة والمحيط والتفاعل معها، فحتى القصور الفاخرة، تتحول إلى سجون مظلمة، إذا ما أحيطت بأسوار شاهقة، تحجب شعاع الشمس عن مداعبة شعر أميرة، وعلى الرغم من تصنيف قصة غسان الشهيرة، على أنها قصص أطفال، إلا أنها وبحنكة الثائر والمناضل المتلمس لتطلعات شعبه، تمكنت من حمل رسالة جوهرية، بأن الحرية تبقى منقوصة، بعيدة المنال، إذا ما سعى إليها بشكل فردي، بل شمس الحرية ودفئها لا يمكن أن تحمل إلا على أكتاف شعب بأكمله.
وهذا ما برز في أحداث هذه القصة، عندما تفاجأت الأميرة، بآلاف الرجال حاملي القناديل، الذين توجهوا إلى قصرها، وحطموا الأسوار، لتتمكن الشمس في صباح اليوم التالي، من الدخول بكامل حريتها إلى غرفتها، التي شعرت بدفئها، وجعلتها ملكة للحرية المطلقة.
شمس الجليل الفلسطيني، في صباح السادس من أيلول/ سبتمبر 2021، لم تكن شمساً عادية، ففي ذلك الصباح، احتضنت أشعتها ستة أبطال فلسطينيين، تمكنوا بإرادتهم الصلبة، وبعزيمتهم الجبارة، من تحطيم هيبة المنظومة الأمنية الإسرائيلية، ووجهت صفعة إلى وجوه القيادة السياسية والأمنية الصهيونية، التي وقفت مذهولة، أمام فتحة نفق، امتدت من داخل سجن «جلبوع» الواقع في الداخل المحتل عام  1948، والمعروف بأحد أكثر السجون تحصيناً داخل الكيان الإسرائيلي وربما العالم، في حين ألهب الخبر الآتي من حيث لا يتوقع (!)، الشارع الفلسطيني، ومعه جميع الأحرار والمناصرين للقضية الفلسطينية حول العالم.
فلم يكن خبر تحطيم ستة أسرى فلسطينيين لأغلالهم، بتمكنهم من انتزاع حريتهم بأيديهم،  خبراً عابراً، بل سرعان ما أحدث عاصفة على وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى صعيد الإعلام العربي والعالمي، مما أحرج القيادة الإسرائيلية ووضعها في مأزق، دفعها لاستنفار كافة الوحدات العسكرية والأمنية، وعلى رأسها وحدات النخبة التي تعتبر من الأكثر اختصاصاً وتدريباً وتجهيزاً في «إسرائيل»، هذا الاستنفار الذي رافقه فرضاً لرقابة مشددة على الإعلام الصهيوني، وإطلاق العنان لمجموعات التضليل الإعلامي و«البروباغاندا» الصهيونية، جعلت من مهمة تمكن الأسرى الأبطال من الوصول إلى الضفة الغربية، مهمة صعبة وشاقة ومحاطة بالكثير من المخاطر، مما أدى فعلياً إلى إعادة اعتقالهم.
لا شك أن الفترة الزمنية، التي امتدت بين تمكن الأسرى، من الخروج من «نفق الحرية» وإعادة اعتقالهم، تضمنت خليطاً من الأحداث التي جعلت من هؤلاء الأسرى أيقونات لقضية عظيمة، ومحط فخر لشعب مناضل ما زال يناضل من أجل حقوقه وحريته وكرامته، وعلى الرغم من إدراكنا العميق لصلابة أسرانا الأبطال، ولعزيمتهم وعنفوانهم الكبير، إلا أن ذلك لا يجب أن يحجب الجانب الإنساني، لهؤلاء الأبطال، وهم الذين مارسوا حريتهم، وشعروا بعمقها من خلال تفاعلهم مع أبسط العناصر، مما جعلهم متلمسين  لهذه الحرية الكاملة، على الرغم من إدراكهم بأن الطريق الذي سلكوه مليء بالأشواك، وأن الوصول إلى الهدف الأخير، مصحوب بتحديات كبيرة، وأن فرصة العبور نحو ضفة النهر الآمنة، تتطلب صراعاً قاسياً مع التيار، وهذا ما جعل من فطرية أسرانا الإنسانية، المحرك في معركة سباق الزمن، وفي معركة تحدي القدر العبثي، الذي روج له السجان، على امتداد فترة الجلوس بين الحيطان الأربعة، تتوهج عندما تمكنوا من كسر القدر الذي اراده هذا الاحتلال جاثما على أحلامهم. فمجرد التفكير والتخطيط لهروب معروف العواقب والنتائج، شكل انتصاراً على مبدأ هذا الاحتلال وفكرة وجوده التي تقوم على أساس التحكم بمصير الشعب الفلسطيني، فهذا التحطيم لهيبة كيان أمني مجرم، أسقط فكرة قدرية الاحتلال للأبد، وأوصل رسالة واضحة للعالم اجمع بأن الاحتلال ليس قدرا والسجن ليس قدرا وزوال هذا الاحتلال حتمي لا محال..
لقد ولد أبطالنا الستة، من رحم الأرض الفلسطينية، التي وعلى امتداد أكثر من (6) شهور احتضنتهم كما تحتضن الأم جنينها، ليعبروا نحو فضاء حريتهم البسيطة، هذه الحرية، البعيدة عن جميع الأساطير والخرافات، والبطولات الهوليودية، هي الحرية الفلسطينية البسيطة، المعزوفة كأهازيج أفراح قرانا المهجرة، الحرية المطرزة على أثواب تراثنا العظيم، هي الحرية النقية كنقاء مياه ينابيع كرمنا، والعذبة كفاكهة جليلنا، والخصبة كحقول بياراتنا الخليلية، والعنيدة كأمواج غزة العملاقة، والمقدسة كأحجار قدسنا المكللة بهالات النصر المحتم.
هي الحرية في تناول «صبار» بلادنا، بعدد 22 عاما من الحرمان المر، وهي الحرية في تقبيل طفل يعيد للروح رونقها الإنساني، هذه الحرية الفلسطينية، التي يطمح إليها شعباً بأكمله، ما زالت ذكرياته أسيرة ألف مجزة ومجزرة، وما زال حاضره يتعثر بمئات الجثث وقنابل المسيل للدموع، ومستقبله مقيد بأغلال التكتيك السياسي العبثي، إن شمس الحرية الفلسطينية، لا يمكن أن تحمل على أكتاف فردية، وأسوار الاحتلال الشاهق، وأسلاك السجون الشائكة، لا يمكن تحطيمها إلا بتشابك آلاف الأيادي، التي يجب عليها تحطيم جميع هذه الأسوار، وأن تحمل الشمس، وتدخلها إلى قلب كل فلسطيني، كي يعبر شعب بأكمله، نفق الاحتلال البغيض لشمس الحرية القادمة.

أضف تعليق