كيف نهزم أنفسنا ؟!
مضى عام آخر، وها نحن ندخل عاماً جديداً، ليس في سيرتنا وحياتنا الشخصية فحسب، بل في عمر النكبة والهزيمة، والاحتلال المديد الذي باتت قيوده هي السمة المميزة لحياة الشعب الفلسطيني لعقود متتالية، سواء لمن بقي في وطنه ويعيش تحت الاحتلال، أم لمن تشرد في بلدان المنافي والشتات واقتلع من أرضه ووطنه، فحرم حتى من أبسط حقوقه المدنية والإنسانية في العمل والسفر والتعليم، وحتى من الانتساب المادي والمعنوي لوطنه. ولا يلوح في الأفق ما يدل على قرب زوال هذا الكابوس الذي يخيّم على حياتنا، كما خيم قبل ذلك على حياة آبائنا وأمهاتنا، ويبدو أنه سيرافق أبناءنا أيضا لأمد طويل إذا بقيت أمورنا على حالها.
وفي تفسير ما لحق بنا من هزائم وما آلت إليه أحوالنا من خسارات، فقد اعتدنا أن نشرح ونُفصّل الأسباب الخارجية الموضوعية أي تلك الخارجة عن نطاق إرادتنا، من قبيل الحديث عن شدة التآمر الدولي، وتكالب القوى الكبرى، وتواطؤ الأنظمة العربية، وفساد الأسلحة، من دون أن نحلل الأسباب الداخلية الخاصة بنا، ونحن لا غيرنا، المسؤولون عنها وعن نتائجها، وفي يدنا وحدنا أن نغيّرها أو أن نستبقيها.
ولاشك أن للأسباب الذاتية دورا مهما وحاسما، إن لم يكن في وقوع الهزيمة، ففي استمرارها واستقرار نتائجها، وعجزنا عن محو هذه النتائج وآثارها. ولا مبالغة في القول أننا كشعب وأمة نعيد إنتاج الظروف والعوامل التي قادت إلى النكبة، أي أننا نعيد إنتاج هزيمة أنفسنا مع أن لدينا عشرات الأغاني ومئات القصائد التي تتغنى بالانتصارات وتمجّد البطولات.
وهزيمة النفس غير الانتصار عليها، فالأولى هي أقرب للاستسلام، وتفضي إلى إهداء العدو نصرا لا يستحقه ولم يكن حتميا ولا حاسما، بينما الثانية تشتمل على معان إيجابية عديدة ومرغوبة، منها تشذيب النفس وقهر الأنانية ومقاومة نزعات الشر، أما ما نحن بصدده في هذا المقام فهو ما نقوم به كفلسطينيين من مجموع الممارسات والسلوكيات الفردية والجماعية، وما يرافقها من ثقافة وأشكال للوعي والتنظيم الذاتي والمؤسسي، ونمط العلاقات التي تحكمنا في ما بيننا ، وطريقة إدارتنا لشؤون حياتنا بما فيها خلافاتنا وتبايناتنا.
أبرز الخطايا التي ما زلنا نقترفها يوميا هي إهمال الشرط الأهم لانتصار حركات التحرر وهو قانون تغليب التناقض الرئيسي (مع الاحتلال) على كل ما عداه من تناقضات ثانوية داخلية، ويكفي أن نستعرض تجربة الانقسام المريرة، لنكتشف أن وقوع الانقسام المستمر منذ ثلاثة عشر عاما ونيّف، وخطر تحوّله إلى انفصال دائم، سببه تغليب الخلافات الداخلية على التناقض الرئيسي.
عامل آخر حاضر بقوة يتمثل في غياب البوصلة، والوجهة الواضحة التي يمكن لها أن تحشد طاقات الشعب وقواه السياسية ومؤسساته وتجمعاته وأفراده، وأن تنظمها في تيار موحد، ينضوي في صفوفه طيف واسع من الآراء والاجتهادات المتنوعة ولكن الموحدة في وجهتها الرئيسية، بحيث أن أي جهد مهما بدا صغيرا أو ثانويا يصبّ في مجرى هذا التيار الجامع العريض، الذي يمضي مثل نهر هادر تغذيه مئات الروافد والتيارات والينابيع الصغيرة، بينما في الوضع الراهن تضيع كثير من الجهود والتضحيات التي تبذل أو تذهب بدداً، وتمضي من دون أن تخلّف أثراً.
نمط إدارة المجتمع والشأن العام يساهم أيضا في إعادة إنتاج الواقع المأزوم بتكويناته العشائرية والقبلية والجهوية ما قبل الوطنية، وبكل ما يرافق ذلك من أساليب وأمراض وممارسات تعيق التقدم نحو مجتمع المواطنة، والحقوق والواجبات، واحترام التخصص، وسيادة قيم النزاهة وإعمال مبدأ المحاسبة حتى في ظل الاحتلال، والمشكلة أن ممارسات كالمحسوبية والواسطة واستغلال المنصب العام لأغراض شخصية، وكل أشكال الفساد والاستبداد التي تضعف ثقة المواطن في المؤسسات السياسية، وتدفع شرائح متسعة باستمرار، والأجيال الناشئة على وجه الخصوص، إلى النفور من السياسة والعمل العام، والتركيز على خيار الخلاص الفردي، بل والحلم في الهجرة النهائية من هذه البلاد.
كما أن غياب البوصلة التي توحد الاتجاه، وتوضحه وتنير الطريق للجميع، يساهم في حرف أنظار الناس والمجتمع نحو قضايا عابرة وعارضة، مؤقتة وأحيانا مفتعلة، حيث لا يمر شهر من دون بروز قضية عامة صاخبة تشد انتباه الناس لأيام وأحيانا لأسابيع، ويفرغون فيها مكنون غضبهم وحنقهم، وما تراكم لديهم من ضغوط، ثم يعودون إلى حياتهم اليومية الطبيعية وكأن شيئا لم يكن. ومن الطبيعي الافتراض وفي ضوء التقنيات الحديثة التي تتيحها وسائل التواصل الاجتماعي، والسيطرة عليها من قبل جهات لا تكنّ لنا وُداً، أن جهات معادية تساهم في حرف أنظار الناس عن قضاياها الرئيسية الكبرى، وتركيزها على قضايا هامشية وفرعية، أو قضايا مهمة ولكن يمكن لجهات الاختصاص المعنية أن تعالجها، وهكذا تعمل تلك الجهات المعادية على تأجيج المشاعر، وإلهاء الشعب الفلسطيني ومشاغلته بأي شيء إلا بقضيته الرئيسية.
الرأي العام هو سلطة معنوية بحد ذاتها، وهو مسطرة وأداة قياس مهمة لتقييم وتقويم السياسات حتى في الدول المتقدمة التي قطعت شوطا طويلا في بنائها المؤسسي، ولكنه يمكن أن يتحول إلى ألعوبة، وميدانا فسيحا للتحريض والتهييج إذا فشلت مؤسسات السلطة/الدولة في القيام بدورها، وإذا تنكّبنا سبيل بناء دولة القانون والمؤسسات، وواصلنا إنتاج وإعادة إنتاج الأدوات والطرائق والمفاهيم التي أدت إلى نكبتنا وهزيمتنا.
وفي تفسير ما لحق بنا من هزائم وما آلت إليه أحوالنا من خسارات، فقد اعتدنا أن نشرح ونُفصّل الأسباب الخارجية الموضوعية أي تلك الخارجة عن نطاق إرادتنا، من قبيل الحديث عن شدة التآمر الدولي، وتكالب القوى الكبرى، وتواطؤ الأنظمة العربية، وفساد الأسلحة، من دون أن نحلل الأسباب الداخلية الخاصة بنا، ونحن لا غيرنا، المسؤولون عنها وعن نتائجها، وفي يدنا وحدنا أن نغيّرها أو أن نستبقيها.
ولاشك أن للأسباب الذاتية دورا مهما وحاسما، إن لم يكن في وقوع الهزيمة، ففي استمرارها واستقرار نتائجها، وعجزنا عن محو هذه النتائج وآثارها. ولا مبالغة في القول أننا كشعب وأمة نعيد إنتاج الظروف والعوامل التي قادت إلى النكبة، أي أننا نعيد إنتاج هزيمة أنفسنا مع أن لدينا عشرات الأغاني ومئات القصائد التي تتغنى بالانتصارات وتمجّد البطولات.
وهزيمة النفس غير الانتصار عليها، فالأولى هي أقرب للاستسلام، وتفضي إلى إهداء العدو نصرا لا يستحقه ولم يكن حتميا ولا حاسما، بينما الثانية تشتمل على معان إيجابية عديدة ومرغوبة، منها تشذيب النفس وقهر الأنانية ومقاومة نزعات الشر، أما ما نحن بصدده في هذا المقام فهو ما نقوم به كفلسطينيين من مجموع الممارسات والسلوكيات الفردية والجماعية، وما يرافقها من ثقافة وأشكال للوعي والتنظيم الذاتي والمؤسسي، ونمط العلاقات التي تحكمنا في ما بيننا ، وطريقة إدارتنا لشؤون حياتنا بما فيها خلافاتنا وتبايناتنا.
أبرز الخطايا التي ما زلنا نقترفها يوميا هي إهمال الشرط الأهم لانتصار حركات التحرر وهو قانون تغليب التناقض الرئيسي (مع الاحتلال) على كل ما عداه من تناقضات ثانوية داخلية، ويكفي أن نستعرض تجربة الانقسام المريرة، لنكتشف أن وقوع الانقسام المستمر منذ ثلاثة عشر عاما ونيّف، وخطر تحوّله إلى انفصال دائم، سببه تغليب الخلافات الداخلية على التناقض الرئيسي.
عامل آخر حاضر بقوة يتمثل في غياب البوصلة، والوجهة الواضحة التي يمكن لها أن تحشد طاقات الشعب وقواه السياسية ومؤسساته وتجمعاته وأفراده، وأن تنظمها في تيار موحد، ينضوي في صفوفه طيف واسع من الآراء والاجتهادات المتنوعة ولكن الموحدة في وجهتها الرئيسية، بحيث أن أي جهد مهما بدا صغيرا أو ثانويا يصبّ في مجرى هذا التيار الجامع العريض، الذي يمضي مثل نهر هادر تغذيه مئات الروافد والتيارات والينابيع الصغيرة، بينما في الوضع الراهن تضيع كثير من الجهود والتضحيات التي تبذل أو تذهب بدداً، وتمضي من دون أن تخلّف أثراً.
نمط إدارة المجتمع والشأن العام يساهم أيضا في إعادة إنتاج الواقع المأزوم بتكويناته العشائرية والقبلية والجهوية ما قبل الوطنية، وبكل ما يرافق ذلك من أساليب وأمراض وممارسات تعيق التقدم نحو مجتمع المواطنة، والحقوق والواجبات، واحترام التخصص، وسيادة قيم النزاهة وإعمال مبدأ المحاسبة حتى في ظل الاحتلال، والمشكلة أن ممارسات كالمحسوبية والواسطة واستغلال المنصب العام لأغراض شخصية، وكل أشكال الفساد والاستبداد التي تضعف ثقة المواطن في المؤسسات السياسية، وتدفع شرائح متسعة باستمرار، والأجيال الناشئة على وجه الخصوص، إلى النفور من السياسة والعمل العام، والتركيز على خيار الخلاص الفردي، بل والحلم في الهجرة النهائية من هذه البلاد.
كما أن غياب البوصلة التي توحد الاتجاه، وتوضحه وتنير الطريق للجميع، يساهم في حرف أنظار الناس والمجتمع نحو قضايا عابرة وعارضة، مؤقتة وأحيانا مفتعلة، حيث لا يمر شهر من دون بروز قضية عامة صاخبة تشد انتباه الناس لأيام وأحيانا لأسابيع، ويفرغون فيها مكنون غضبهم وحنقهم، وما تراكم لديهم من ضغوط، ثم يعودون إلى حياتهم اليومية الطبيعية وكأن شيئا لم يكن. ومن الطبيعي الافتراض وفي ضوء التقنيات الحديثة التي تتيحها وسائل التواصل الاجتماعي، والسيطرة عليها من قبل جهات لا تكنّ لنا وُداً، أن جهات معادية تساهم في حرف أنظار الناس عن قضاياها الرئيسية الكبرى، وتركيزها على قضايا هامشية وفرعية، أو قضايا مهمة ولكن يمكن لجهات الاختصاص المعنية أن تعالجها، وهكذا تعمل تلك الجهات المعادية على تأجيج المشاعر، وإلهاء الشعب الفلسطيني ومشاغلته بأي شيء إلا بقضيته الرئيسية.
الرأي العام هو سلطة معنوية بحد ذاتها، وهو مسطرة وأداة قياس مهمة لتقييم وتقويم السياسات حتى في الدول المتقدمة التي قطعت شوطا طويلا في بنائها المؤسسي، ولكنه يمكن أن يتحول إلى ألعوبة، وميدانا فسيحا للتحريض والتهييج إذا فشلت مؤسسات السلطة/الدولة في القيام بدورها، وإذا تنكّبنا سبيل بناء دولة القانون والمؤسسات، وواصلنا إنتاج وإعادة إنتاج الأدوات والطرائق والمفاهيم التي أدت إلى نكبتنا وهزيمتنا.
أضف تعليق