23 تشرين الثاني 2024 الساعة 04:44

قراءة في كتاب «في الاشتراكية العلمية، الدولة المدنية، المجتمعات الانتقالية»

2020-12-07 عدد القراءات : 995
صدر عن المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات (ملف)- دمشق، في حزيران (يونيو) 2020، الطبعة الأولى من كتاب " في الاشتراكية العلمية، الدولة المدنية، المجتمعات الانتقالية" من تأليف المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وهو الكتاب رقم (15)، ضمن سلسلة من الفكر السياسي الفلسطيني المعاصر، والذي يتألف من (251) صفحة،  من المقدمة التي تناولت العنوان الطويل للكتاب ودلالته، كتمهيد للمواضيع التي يقدمها الكتاب، والتي تعتبر من أهم المواضيع التي تشكل محور نقاشات عميقة، ومحط اهتمام العديد من الباحثين، والأكاديميين، والمثقفين، وحركات التحرر الوطني، خاصة على صعيد الاسهاب، في شرح عميق وعلمي يقدمه الكتاب بموضوعين، ينتمي كل منهما الى مرحلة تاريخية متمايزة عن الأخرى، من جهة الدولة المدنية، المستقلة في التعريف، ومن جهة أخرى دولة المجتمع الانتقالي تحت راية الاشتراكية العلمية، التي خاضت منذ بداية القرن ال(20)، عديد الشعوب تجربتها بنتائج متفارقة، انطوت على الفشل (الاتحاد السوفييتي)، كما على النجاح (الصين الشعبية).
كما اشارت مقدمة الكتاب الى الواقع الذي جعل من هذين الموضوعين ماثلا في الحالة الفلسطينية، التي شهدت  قيام السلطة الفلسطينية (سلطة الحكم الإداري الذاتي)، على السكان الفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة بصلاحيات واسعة نسبيا على المجتمع، وإن تحت الاحتلال الإسرائيلي وإكراهاته، مما وضع بشكل ملح مهام النضال الديمقراطي بشقيه "السياسي والاجتماعي"، على جدول اعمال الحركة الوطنية الفلسطينية ، بالإضافة الى الاشارة  للعلاقة بين الدولة المدنية التي تنتسب الى تراث الفكر الليبرالي، والاشتراكية العلمية، بحيث يحتل هذا الموضوع حيزا مهما في المواضيع التي يناقشها الكتاب.
تنقسم المواضيع التي يتناولها كتاب " في الاشتراكية العلمية، الدولة المدنية، المجتمعات الانتقالية" الى ثلاث أقسام رئيسية، بحيث يمتد القسم الأول والذي يحمل عنوان "موضوعات في الاشتراكية العلمية، من (ص 9 الى ص 77)، ويتضمن ثلاث فصول متتالية تناول الأول "معالم أزمة اليسار وتجلياتها الفكرية" من خلال استعراضه لعناصر الازمة التي تمر بها الحركة الثورية العالمية وفي قلبها قوى اليسار والتجديد، والتي شهدت انتكاسة كارثية، بفعل التغير العميق الذي طرأ على بنية الرأسمالية المعاصرة والذي شكل منعطفا جديدا في مسار تطورها التاريخي، بدخولها مرحلة الامبريالية من جهة، ومن جهة أخرى انهيار العديد من النظم التي قدمت نفسها بصفتها " الاشتراكية المحققة"، والذي شكل ذروتها انهيار "المنظومة الاشتراكية" وتفكك الاتحاد السوفييتي، مما احدث خللا جوهريا في ميزان القوى، مما أدى  الى أطلاق العنان للعدوانية الامبريالية العالمية، وبخاصة الامريكية، على جميع الصعد وبشكل خاص على الصعيد الأيديولوجي، من خلال ادعاء الخطاب الليبرالي  بأن هذا الانهيار للمنظومة الاشتراكية وبخاصة للاتحاد السوفييتي، أثبت فشل "الاشتراكية" وتفوق "الرأسمالية"، الامر الذي نقد من خلال تبيان طبيعة هذا الانهيار بالاستناد الى جوهر "الديالكتيك الماركسي"، الذي يعتبر ان مسار تطور التاريخ لا يسير بشكل مستقيم من الأدنى الى الأعلى، بل يتضمن العديد من القفزات الى الوراء، وهذا ما تطلبه الامر لتكريس الجمهورية الديمقراطية في فرنسا بعد ثلاث ثورات (1789،1830،1848)، كذلك الامر في حال الثورات البرجوازية التي شهدتها إنجلترا في القرن ال(17).
كما استعرض الفصل الأول من القسم الأول،  مهمة تجديد وامتلاك واستخدام المنهج الاشتراكي العلمي، في ظل الاختراق الليبرالي لبنية اليسار الفكرية، والتي سميت "بالدفرسوار" الذي نجح بفتحه الهجوم الأيديولوجي الليبرالي في البنية الفكرية للحركة الاشتراكية العالمية، والذي يتخذ أحيانا شكل الارتداد الى "الاشتراكية الطوباوية"، واحيانا أخرى استحضار منهج نزعات مراجعة وتنقيح الماركسية، وهي ما دعت اليها ما يسمى بعبارة "الإصلاحية المعاصرة"، والتي تقوم على انكار الجوهر الطبقي للاشتراكية بصفتها حركة الطبقة العاملة الهادفة الى التحرر عبر الغاء المجتمع الطبقي القائم على الاستغلال، وعلى الإعلان بأن صيغة "الاشتراكية المحققة" قد خسرت السباق امام النظام الرأسمالي، معتبرين ان الانهيار الذي حصل هو  نتيجة الفهم الخاطئ للنظرية، الامر الذي أدى الى أخطاء في التطبيق، وهذا ما عالجه الكتاب من خلال تسليط الضوء على  أهمية طرح مهمة التجديد في الماركسية وعموم فكر الاشتراكية العلمية، كمهمة ملحة على الصعيد الفكري، بإعتبار ان الماركسية، ككل منهج علمي، بحاجة الى تحليل الظواهر الجديدة والمتغيرات التي تطرأ على الظواهر القائمة، واستخلاص النتائج منها على الصعيد النظري، كما على صعيد الممارسة العملية، وبهدف تبيان الخلل المنهجي، الذي يعاني منه منظري الليبرالية المعاصرة، والذي ينطوي على منظور مثالي، غير علمي، وغير جدلي في رؤية الازمة، مما يفسر الخطأ الذي يقع فيه أولئك الذين يبحثون عن سبب الازمة في عالم الوعي، في حين ان البحث الحقيقي يكمن في مسار تغير الواقع لا خارجه، الامر الذي اثبتته عملية الانتقال التاريخية الى الاشتراكية، في العديد من البلدان الرأسمالية المتخلفة ، والتي شهدت تغيرات جوهرية في واقع عملية تطورها الاجتماعي، والتي اتسمت في تعقيدات وصعوبات لم تكن رائجة في صفوف الماركسيين حتى انتصار ثورة أكتوبر (1917)
ويختم الكتاب  الفصل الأول من القسم الأول،  بتسليط الضوء على الفرق بين "الإصلاحية" وبين "الواقعية الثورية"، مشيرا الى حقيقة ان الحديث عن دور الرأسمالية الذي لم يستنفذ بعد في تطوير قوى الانتاج من قبل منظري "الإصلاحية"، واعتبار انها مازالت تساهم في التقدم الاجتماعي، هو في الحقيقة دعوة الى التسليم ببقاء النظام الرأسمالي، والتكيف مع أسسه، في حين يجب التمييز بوضوح بين التقدير السليم لميزان القوى، والذي يترتب عليه استخلاص بعدم نضوج الشروط من اجل التحول الثوري، وبين التسليم بأن الرأسمالية لم تستنفذ بعد دورها التاريخي، ومازالت تساهم في التقدم، وهنا تكمن جوهر المشكلة في الترويج الأيديولوجي "للإصلاحية" القائمة على الترويج لفكرة إمكانية الانتقال الى الاشتراكية دون الحاجة الى التغيير في المضمون الطبقي لسلطة الدولة.

أما الفصل الثاني من القسم الأول، فقد تناول "ماركسية القرن ال19، ونظرية الانتقال الى الاشتراكية" بالإضافة الى "النظرية اللينينية حول الامبريالية والاستراتيجيات المستخلصة منها"، وذلك في اسهام مهم لإزالة اللغط القائم والذي استخدمه منظروا "الإصلاحية المعاصرة" في هجومهم الأيديولوجي على الاشتراكية العلمية، من ناحية التشكيك في النظرية أو ممارستها، وذلك لجهة التمييز بين مرحلة الانتقال الى الاشتراكية، وبين قيام المجتمع الاشتراكي بالفعل، والتي تتخللهما الفترة "الانتقالية" التي تشهد عملية تحويل ثوري للمجتمع الرأسمالي الى مجتمع إشتراكي، وهي الفترة التي وصفت في الكتاب بالمخاض العسير، والتي تبدأ عندما تنجح الطبقة العاملة في كسب معركة الديمقراطية في نضالها وتتحول الى الطبقة السائدة، وتشرع في اتخاذ إجراءات متدرجة من اجل الغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وتكريس ملكية الدولة، وعليه ابرز الفصل بوضوح الاسهامات الكبيرة التي وضعها كلن من "ماركس" و "إنجلز" في شرح الجانب السياسي لعملية "الانتقال" المذكورة، وتبيان حقيقة السمة العمومية التي ذكرت معالجة المهام والقضايا الاقتصادية والاجتماعية، والتي تعود بشكل رئيسي الى فهمهما العميق للطبيعة العلمية للمنهج الذي يصوغانه، وامتناعهما عن تقديم مخططات جاهزة صالحة لكل زمان ومكان، بخاصة في الشأن الاقتصادي، بحيث كانا يدركان جيدا ان الإجراءات المحددة التي ستقدم عليها سلطة الطبقة العاملة لمعالجة هذه القضايا، تتوقف تماما على الشروط الملموسة والمستوى المعطى لنمو القوى المنتجة، وتتطور بتطورها، وبذلك يكون الفصل قد أشار بشكل علمي الى جوهر الطرح الماركسي، الذي يرتكز بشكل أساسي على مفهوم الممارسة الميدانية وانعكاسها في تشكل النظرية، بعيدا عن الوصفات الجاهزة التي تنافي حقيقة جوهر "الدياليكتيك المادي"، الذي يتعارض مع مبدأ الاجتهاد في طرح تخمينات عقيمة حول ما لا يمكن معرفته، وبذلك يكون الفصل الثاني من الكتاب استطاع ان يشرح بشكل علمي ما أسهمت به ماركسية القرن ال(19)، لجهة وضع منهج لمعالجة معضلات عملية الانتقال الى الاشتراكية، وليس تقديم معالجة ملموسة للمعضلات الاقتصادية التي تنطوي عليها عملية الانتقال، وذلك في الإضاءة على اكثر الجوانب حساسية التي تتسم بها عملية معالجة المهام الاقتصادية التي تتخذها سلطة "البروليتاريا"، والتي تنبثق من الشروط الملموسة، والمستوى المعطى لتطور القوى المنتجة، أي ان تتطور بتطورها، بحيث تكون هادفة ومناسبة لضرورات ومتطلبات اطلاق العنان للتطور المضطرد لقوى الإنتاج بوتائر متسارعة، بعد انجاز عملية التغيير الطبقي لمضمون الدولة واكتمال عملية تحويل جميع وسائل الإنتاج الى ملكية عامة مشتركة للمجتمع بأسره
كما تعمق  الفصل الثاني  من الكتاب، بشرح قانون "التطور المتفاوت" الذي قدمه لينين في تطوير النظرية الماركسية حول الرأسمالية، والذي يحكم الرأسمالية في مرحلتها الاحتكارية، بحيث أوضح كيف ان قانون التراكم، وتمركز رأس المال، يقود عملية تحويل الرأسمالية الحرة الى نقيضها، أي الى الرأسمالية الاحتكارية، مما يؤدي الى نشوء رأس المال المالي وتصديره الى الخارج، وهذا ما يولد تفاقم في الصراع والتنافس بين الدول الامبريالية، وبين الاحتكارات، بهدف اقتسام وإعادة تقسيم العالم، والذي نتج عنه بشكل مباشر مفاقمة التناقضات الداخلية للرأسمالية، في ظل أن تحول رأس المال يؤدي الى احتجاز تطور البشرية، الامر الذي يقودنا الى الخلاصة اللينينية القائلة بأن هذه الازمة ستجعل من الثورة الاشتراكية مطروحة على جدول اعمال البشرية كي تستطيع الخروج من المأزق الذي وضعتها فيه الامبريالية، وهذا ما يترتب عليه أيضا الاستخلاص القائل بأن هناك إمكانية لانتصار الثورة الاشتراكية في بلد رأسمالي متخلف، والذي أتى عليه الكتاب بشرح أهمية التحالف الطبقي في هذه الحالة، وبخاصة التحالف بين الطبقة العاملة والفلاحين، وما يترتب عليها من مهام للخروج من دائرة التخلف، من خلال اطلاق الثورة بقيادة الطبقة العاملة، الامر الذي  أكدته تجربة ثورة أكتوبر (1917)، بقيادة الحزب البلشفي، والتي أدت الى انتصار تحالف الطبقة العاملة والفلاحين في بلد رأسمالي متخلف.
وفي الفصل الثالث من القسم الأول، أسهم الكتاب بشكل علمي ومسهب في الحديث عن مجموعة من القضايا والمفاهيم من منظور الاشتراكية العلمية، والتي حاولت "الليبرالية الرأسمالية" صبغها بالكثير من المغالطات، بهدف الطعن في جوهر الاشتراكية العلمية، من اجل احداث حالة من البلبلة الفكرية في أوساط الطبقة العاملة، التي شهدت انهيار للمنظومة الاشتراكية ونكسات كارثية، والتي تأتي في اطار الحرب المشنة والهجوم التي تقوده الرأسمالية، لمنع أي محاولة جديدة لإعادة تنظيم القوى الثورية العالمية، واطلاقها لثورة جديدة تدرك الرأسمالية بأنها مطروحة وبقوة على جدول اعمال التطور التاريخي، فعلى سبيل المثال أوضح الكتاب اللغط القائم بإعتبار انهار المنظومة الاشتراكية والاتحاد السوفييتي، انتصارا وتفوقا للرأسمالية على الاشتراكية، أي ان هذه الاطروحة تنطلق من فكرة "المباراة بين النظامين العالميين"، مما يشوه الواقع ويوظفه في خدمة مصالح طبقة محددة، وعليه طرح الكتاب أهمية دحض جميع هذه الاطروحات الليبرالية المشوهة من خلال الخروج من دائرة "الأيديولوجيا" الى دائرة التحليل الملموس للواقع الملموس، أي من دائرة التفسير المثالي للتاريخ الى دائرة التفسير المادي للتاريخ، وذلك بالاستناد على جوهر قوانين ومفاهيم الماركسية.

القسم الثاني للكتاب يمتد من (ص 113 الى ص 169)، يتضمن فصلين متتاليين، بحيث يتناول الفصل الأول " موضوعات في الدولة المدنية الدولة الوطنية"، شرح الكتاب من خلاله المفهوم الواضح للدولة المدنية والخصائص التي تميزها عن الدول الدينية والحدود الفاصلة  بين جوهر وبنية الدولتين، وبهذا يكون الكتاب قد سلط الضوء على احد اهم المواضيع، التي تشكل محور نقاش جوهري داخل المجتمعات، خاصة بالنسبة للقوى الثورية التي تسعى الى احداث تغيير ثوري داخل المجتمع، لتكريس مفاهيم المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية للاغلبية الساحقة التي تمثلها الطبقة العاملة والفلاحين وعموم الكادحين، على طريق بناء المجتمع الاشتراكي، وعليه يبرز للقارئ في تسلسل طرح المواضيع، أهمية الربط بين ما تناوله الكتاب حول الاشتراكية العلمية، والدولة المدنية، والتي لم يقف الكتاب عند حدود التعريفات البسيطة للمفاهيم، بل تعداها الى تفصيلات تتعلق بالدولة المدنية وعلاقتها بالليبرالية، باعتبار ان الدولة المدنية تعبر عن واقع كيانات سياسية اجترحها الفكر الليبرالي البرجوازي، والذي يقوم على  قيمتي (الحرية والمساواة) والتي يوضحها الكتاب بعرض مهم بإعتبار ان المساواة في نهج الليبرالية البرجوازية، لا تمتد الى الحقل الاقتصادي، بل تتحرك فقط على الصعيد السياسي، وبذلك يوضح الكتاب هذا الفرق الجوهري بين زيف المساواة الليبرالية التي تقدس الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وبين المساواة التي تحققها الاشتراكية العلمية في ظل المجتمع الاشتراكي، والتي تقوم على مبدأ الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج، بالإضافة الى الاسهام في تفصيل تداعيات العولمة على الدولة الوطنية، والمنطلق الذي دفع ببعض الدول والتيارات اليمينية داخلها لطرح مفهوم "الحمائية" لإعادة صون كيانها وسيادتها، بإعتبار ان العولمة والليبرالية القصوى التي ترافقها، تأتي على حساب السيادة الوطنية للدولة الوطنية، والتي تشكل احدى اهم المرتكزات التي تقوم عليها.
كما نجح الكتاب في الفصل الأول من قسمه الثاني، بتسليط الضوء على آلية  بناء الدولة الوطنية الحديثة خاصة في الدول الأوروبية، والتي أتت نتيجة صراعات طويلة بين السلطة المدنية والسلطة الدينية من جهة، ومن جهة أخرى شرح أسباب تقوض بنيان الدولة الوطنية في الوطن العربي، وبهذا يكون الكتاب قد سلط الضوء على احد اهم القضايا التي تشهدها المنطقة العربية والمتمثلة بالحروب المندلعة في اكثر من بلد عربي، والتي تستهدف الدولة الوطنية لصالح ما يسمى بمشروع "الخلافة" التي تقوده المجموعات الإرهابية، وهنا تكمن أهمية الإشارة الى  جوهر هذا الاهتزاز في بنية الدولة الوطنية، والتي كان نتاجها المباشر ظهور الجماعات الإرهابية "كداعش" وليس العكس، بإعتبار ان المجتمعات العربية لم تخض عملية تطور تاريخي صحي، بل أتت كنتاج لمشاريع استعمارية في المنطقة وعلى رأسها اتفاقية سايكس- بيكو (1916) ووعد بلفور (1917)، اللذين شكلا الأساس لاعادة تأسيس وصوغ الكيانات السياسية في المشرق العربي، على منطق التقسيم الإقليمي والتقاسم الاستعماري، وهذا ما دفع الكتاب ومن ذات المنظور التشريحي للواقع القائم في المنطقة العربية لطرح الحاجة الفعلية للمجتمعات العربية، لان تعيد الكرة ذاتها التي مرت بها الشعوب الاوروبية، وذلك بصوغ عقد وطني اجتماعي جديد، يقوم على بناء دولة تكون لجميع مكونات المجتمع التي تعيش داخلها، أي دولة ديمقراطية لجميع مواطنيها، تقوم على أساس المساواة التامة في المواطنة، دون أي تفريق الى أسس ديني أو اثني، او مذهبي.
وفي حرفية أكاديمية،  لاستمرار عملية الربط بين المواضيع التي تهم القارئ والتي تدور في ذات المضمون، طرح الكتاب في الفصل الثاني من القسم الثاني موضوع المساواة والمرأة كقضية وحقوقها، بحيث أن المساواة في المواطنة بين جميع المواطنين وعلى جميع الصعد والمجالات، هي الركيزة الأساسية التي تقوم عليها الدولة المدنية الديمقراطية، وهذا ما اوضحه الكتاب في استعراضه لمفهوم الديمقراطية التي عادة ما تطالب بها الانتفاضات الشعبية، والتي هي ليست فحسب حكم الأغلبية الذي يتحقق عبر الانتخابات، بل تشكل منظومة متكاملة من المفاهيم والنظم التي تنطلق من مفهوم المواطنة في الحقوق بين جميع المواطنين نساء ورجالا، أي بمعنى ادق أوضح الكتاب متطلبات المسار السوي للبناء الديمقراطي، وهو تأمين الضمانات الدستورية للمساواة بين الرجل والمرأة، ومن هذا الشرح العام والوفير لأهمية المساواة بين الرجل والمرأة في تكريس مفهوم الدولة المدنية والديمقراطية، طرح الكتاب قضية الديمقراطية الفلسطينية وحقوق المرأة والمعيقات التي تواجهها عملية تطوير الديمقراطية الفلسطينية، التي حددها الكتاب بثلاث عناصر أساسية وهي وجود الاحتلال الإسرائيلي، والانقسام الفلسطيني، ونوعية القيادة المقررة في الحركة الفلسطينية، بالإضافة الى الربط العملي بين مهمة التحرر الوطني والتحرر الديمقراطي، الذي يجب ان يتقدم بخط متوازي، أي التقدم نحو أهداف النضال الوطني التحرري ينبغي ان يسير يدا بيد مع تعزيز الديمقراطية السياسية والاجتماعية، الامر الذي يؤدي الى استنهاض المشاركة المتكافئة والفاعلة لكافة شرائح وفئات الشعب في العملية الوطنية، وهذا ما أشار اليه الكتاب من خلال الحديث عن أوضاع  المرأة وحقوقها ودورها في مسار تطوير الديمقراطية الفلسطينية، خاصة في ظل توقيع فلسطين على اتفاقية القضاء على جميع اشكال العنف ضد المرأة "سيداو" من جهة،  ومن جهة أخرى استعراض مكانة المرأة في برنامج الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، من خلال استعراض تطور النص المتعلق بموضوع المرأة، الذي بدأ البرنامج السياسي بمنحه مكانة متقدمة بدء من المؤتمر الوطني العام الثالث للجبهة (1994)، موضحا المكانة التي احتلتها المرأة في  البرنامج السياسي من خلال  طرح الصيغ المتعددة التي مرت بها قضية المرأة وتطورها في البرنامج السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.

القسم الثالث للكتاب يمتد من (ص 179 الى ص 251)، يتضمن ثلاث فصول متتالية، بحيث يعالج الفصل الأول بإسهام شديد، وبتفصيل علمي دقيق للعناصر الأساسية التي تقوم عليها "الاشتراكية العلمية"، من خلال استعراض المسار التاريخي لنشأة وتطور الفكر الاشتراكي العلمي، والذي بدأ منذ اربعينات القرن ال(19) على أيدي المفكرين الثوريين "كارل ماركس، وفريدريك انجلز"، اللذين حققا إنجازا تاريخيا، من خلال نقل الفكر الاشتراكي من مستواه الطوباوي المتخيل الى مستواه العلمي، مما أدى الى ادخال المنهج المادي الجدلي ولأول مرة في عملية قراءة التاريخ، بالإضافة الى كشف لغز نمط الإنتاج والازمة البنيوية في نمط الإنتاج الرأسمالي نفسه، ناهيك عن توقف الكتاب أمام العديد من المصطلحات والمفاهيم المفتاحية، التي تقوم عليها الاشتراكية العلمية، مما اغنى المحتوى المطروح خاصة في تناول مواضيع نظرية "شائكة" بالنسبة للعديد من القراء والمطلعين الجدد على هكذا نماذج من الكتب النظرية، اذ يلعب هذا الشرح الوفير والمبسط دورا في تفكيك عملية القراءة العلمية للتطور التاريخي  للمجتمعات البشرية، وذلك من خلال تسليط الضوء على عملية إنتاج الخيرات المادية، التي تشكل الأساس في حياة المجتمعات، بالإضافة الى تقديم شرح مبسط للبنائين (التحتي والفوقي) للمجتمع والعلاقة والتمايز بينهما، كمقدمة أساسية لطرح الكتاب للتسلسل التاريخي الذي شهدته المجتمعات، قبل ظهور الرأسمالية كأسلوب انتاج، وعليه يكون الكتاب قد وضع المقدمة النظرية الأساسية التي تساعد القارئ على فهم المادية التاريخية، بأسلوب علمي مبسط، وما تضمنته من عملية انتقال من أسلوب انتاجي الى آخر، بدأ من "المشاعية البدائية"، مرورا "بالعبودية والاقطاعية"، وصولا الى أسلوب الإنتاج الرأسمالي، في شرح وفير للعناصر التي تحكم وتميز كل أسلوب انتاج عن الاخر، وكيف أدت عملية التناقض الداخلية بين الطبقات الاجتماعية التي أخذت بالتشكل والتطور، الى اضمحلال أسلوب انتاج متخلف، وفنائه لصالح ولادة أسلوب انتاج أكثر تطور، مع إشارة الكتاب الى ان أساليب الإنتاج الرئيسية التي تمت الإشارة اليها، لم تكن الوحيدة التي عرفتها المجتمعات البشرية، أي ان تطور المجتمعات لم يجر كنسق واحد كحتمية تاريخية، وأن أساليب الإنتاج التي أتى عليها الكتاب بإسهاب وبشرح وفير، هي تلك التي عرفتها عددا من الدول الأوروبية بشكل عام، والتي تمت دراستها لتسليط الضوء على نقاط رئيسية ومهمة في دراسة التطور التاريخي للمجتمعات والتي تتركز بأن ما يحدد تطور المجتمع هو أسلوب الإنتاج، وتطور المجتمع يكون من ضمن عوامل واعتبارات رئيسية أخرى، من خلال الصراع الطبقي الاجتماعي.
وفي استمرار لما بدأه الكتاب في فصله الأول من قسمه الثالث، والذي تركز على استعراض القراءة العلمية لتطور المجتمعات وانتقالها من أسلوب انتاج الى آخر ، فقد ساهم الكتاب في فصله الثاني،  في مساعدة القارئ على تشكيل صورة اكثر وضوحا وشمولية، للقوى الاجتماعية التي تضطلع بمهام اطلاق وإنجاز ثورة وطنية تحررية، وذلك من خلال التطرق الى المستويات التي تتشكل منها هذه القوى، والتي تنقسم الى مستويين، الاجتماعي الطبقي والاجتماعي القطاعي، بالإضافة الى تقديم شرح للتشكيلة الاقتصادية الاجتماعية التي يقوم عليها مجتمع ما، والتناقضات التي تشكل الأساس لتحرك هذه التشكيلة الاقتصادية – الاجتماعية، أي التناقضات بين البنائين التحتي والفوقي للمجتمع، ومن جهة أخرى يضيف الكتاب من خلال تطرقه الى موضوع دينامية البنية الاجتماعية الطبقية والقوى الاجتماعية المحركة للثورة الوطنية التحررية، وتعريف الطبقات الاجتماعية استنادا الى النظرية الاشتراكية العلمية، فيضا من المعلومات المهمة، التي تساعد القارئ على فهم الأسس التي تقف عليها عملية التعريف للطبقات الاجتماعية داخل المجتمع، والتي لا تقف عند حدود المعيار  الاقتصادي فقط  بل تمتد أيضا الى المعايير السياسية والفكرية والثقافية، بحيث أشار الكتاب من خلال التطرق الى تعريف (الكومبرادور والبرجوازية الوطنية، الفئات الوسطى (البرجوازية الصغيرة)، والسمات التي تميزها، الى ان العامل الاقتصادي يلعب الدور الأساسي في تحديد الطبقات ودورها، الا ان العامل السياسي والفكري وما ينتسب الى البناء الفوقي، يلعب دورا فائق الأهمية أيضا، وعليه أشار الكتاب الى موقع الفئات الوسطي في البرنامج السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والذي استقر بعد مرحلة من التعديلات التي ترافقت مع عملية تطور طبقي اجتماعي شهدها المجتمع الفلسطيني، على صيغة واضحة تعتبر ان الفئات الوسطى بشرائحها المختلفة، تؤدي دورا حيويا وفعالا في مجرى الثورة الوطنية التحررية، ولكنها تفتقر الى التجانس الداخلي، الذي يمكنها من احتلال موقع الطليعة الطبقية للثورة، معتبرة ان موقع الفئات الوسطى الرجراج حيال سائر الطبقات، يحد من قدرتها على بلورة، برنامج نضالي ملموس، لتعبئة جماهير الشعب تحت قيادتها، الا ان ذلك لا ينال من حقيقة ان الفئات الوسطى تشكل احدى القوى الاجتماعية الرئيسية المحركة للثورة، كذلك الامر بالنسبة للطبقة العاملة التي أتى عليها الكتاب بشرح في التعديلات التي رافقت موقعها في البرنامج السياسي للجبهة الديمقراطية، والتي أيضا استقرت على مفهوم ان الدور القيادي للطبقة العاملة لا يكون الا من خلال، تحالفها الديمقراطي الوطيد مع القوى الاجتماعية الديمقراطية، أي التحالف مع (فقراء الفلاحين وسائر الكادحين، والفئات الوسطى، وأوسع قطاعات الشباب والمرأة)، وهذا ما أشار اليه الكتاب في شرحه للفرق بين مفهوم "تحالف القوى الاجتماعية الديمقراطية" ومفهوم "الديمقراطية الثورية"، مما يمنح الكتاب أهمية خاصة على صعيد، شرح التعبير الطبقي والهوية الفكرية التي وصلت اليها  الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين كمثالا لحركة تحرر وطني تناضل في ظل نمط انتاج رأسمالي متخلف، وبين الأحزاب التي تنشأ في ظل أسلوب انتاج رأسمالي متطور، بعد مرورها بعديد مراحل التطور الفكري الذي رافق تطورات في طبيعة المهام الملقاة على عاتقها، نتيجة  التطورات الطبقية داخل المجتمع الفلسطيني، خاصة بعد ولادة السلطة الوطنية الفلسطينية.
وفي الختام، يقدم الكتاب في فصله الثالث من قسمه الثالث والاخير، مساهمة فكرية كبيرة كمدخل لفهم الاقتصاد السياسي، انطلاقا من الفهم المادي الجدلي للتاريخ، وذلك من خلال الإضاءة على أساس الحياة داخل المجتمع، والتي تتولد بفعل عملية الإنتاج، التي تمكن الانسان من امتلاك الغذاء والكساء والسكن وعموم الخيرات المادية، مما يساعده على الاستمرار في البقاء والتطور، والتي يشكل "العمل" الأساس العملي لإنتاجها، فمن دون العمل يستحيل على الانسان انتاج الخيرات المادية، التي تتطلب عوامل تشكل بتكاملها، الأساس لاتمام عملية الإنتاج داخل المجتمع، وبهدف تمليك القارئ الامكانية على الفهم الاعمق لهذه العناصر، فقد أسهب الكتاب في شرح القوى المنتجة (وسائل العمل +مواضيع العمل) داخل المجتمع، وعلاقات الإنتاج التي تقوم في سياق عملية الإنتاج، والتي يدخل الناس خلالها في علاقات اقتصادية متبادلة، كما يشير الكتاب الى الأساس الذي يحدد طبيعة هذه العلاقات والذي يرتكز بشكل أساسي على ملكية وسائل الإنتاج، والتي على أساسها يتحدد أسلوب الإنتاج القائم داخل المجتمع، وهذا ما أوضحه الكتاب في شرحه للبنائين الفوقي والتحتي للمجتمع والعلاقة بينهما، بالإضافة الى طبيعة الطبقات الاجتماعية داخل المجتمع الاشتراكي، وعلاقتها بوسائل الإنتاج، في ظل الاشتراكية، موضحا ان المساواة بين المنتجين يكون من خلال العلاقة مع وسائل الإنتاج، وليس في توزيع ثمار العمل الاجتماعي، بحيث يوضح الكتاب الفرق بين المرحلة العليا من المجتمع الاشتراكي، حيث تتوفر الوفرة في الخيرات المادية والروحية، وسيطرة المنتجين والديمقراطية التامة على مصادر هذه الخيرات في المجتمع، ومما يعطي الفرد فيها للمجتمع بقدر طاقته، وينال منه بقدر حاجته، وبين المرحلة الأولى من الاشتراكية التي ينال فيها الفرد حصة من ناتج العمل الاجتماعي تتناسب مع عمله، وبذلك يكون الكتاب قد أزال الكثير من المغالطات المتعلقة، بمفهوم المساواة على الصعيد الاقتصادي  داخل المجتمع الاشتراكي، والذي بقي الى فترة طويلة، محط استهداف الدعاية التشويهية لليبرالية البرجوازية.
ويختم الكتاب في شرح مهم للاقتصاد السياسي في ظل أسلوب الإنتاج الرأسمالي، والذي يشكل مادة قيمة جدا لتبيان الأساس الذي يقوم عليه، والذي يساعد القارئ على فهم اعمق لطبيعة التناقضات التي تحكم الرأسمالية العالمية في اعلى مراحلها "الامبريالية"، والتي تواجه اليوم تناقضات حادة وجوهرية، تدحض جميع الادعاءات الليبرالية، بحتمية وخلود نمط الإنتاج الرأسمالي، وذلك بشرح مبسط وعلمي لعملية ميل معدل الربح للهبوط، وأزمة فيض تراكم رأس المال، وأزمة فيض الإنتاج، والتي يسبقها  شرح مسهب لعملية انتاج البضاعة، وقانون القيمة الذي يشكل القانون الاقتصادي لحركة تطور الإنتاج البضاعي القائم على أساس الملكية الخاصة، مرورا بشرح مراحل تطور مقياس القيمة، التي استخدمت في عملية تبادل البضائع، بالإضافة الى شرح علمي، لعملية انتاج القيمة الزائدة والاساس التي تقوم عليه هذه العملية، من خلال تشريح مكونات رأس المال الى (رأس المال الثابت، ورأس المال المتغير)، ومكونات العمل (العمل الضروري والعمل الزائد)، وإيضاح عملية انتاج القيمة الزائدة للقارئ، من خلال تبيان عملية الاستغلال التي تفرض على الطبقة العاملة، والتي تؤدي بمحصلتها الى مراكمة رأس المال للبرجوازية، من خلال انتاج القيمة الزائدة.

وعليه وبناء على ما ورد أعلاه، في رحلة القراءة للمواضيع التي تناولها كتاب "في الاشتراكية العلمية، الدولة المدنية، المجتمعات الانتقالية"، والتسلسل في عملية الربط بين مختلف المواضيع التي طرحت، ومنهجية الربط بينها، بطريقة علمية وبسيطة، تجعل من هذا الكتاب، مرجعا فكريا ونظريا في غاية الأهمية، لجميع المهتمين في الشأن الاقتصادي والسياسي، والباحثين في المجال الفكري والنظري، من تلاميذ الجامعات، والأكاديميين، والمفكرين، والباحثين، وبشكل خاص لحركات التحرر الوطني في المنطقة العربية، التي تطلع بمهمة التحرر الوطني، على جميع المستويات، وبذلك تكون الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، التي وضعت (18) كتابا في  سلسلة من الفكر السياسي الفلسطيني المعاصر، قد قدمت للقارئ العربي حصة وازنة في الاسهام الفكري، المستمد من تجربة نضالية طويلة، تمتد ل (51) عاما، ومازالت متواصلة، وذلك انطلاقا من سعيها الدائم لإثراء الفكر السياسي الفلسطيني والعربي، وحرصها الشديد على النهوض بالحياة الفكرية والثقافية الفلسطينية والعربية، والعمل على ربطها بالعالمية والنضال الاممي، بهدف رفع مستوى الحصانة الفكرية في وسط الحركة الجماهيرية والارتقاء بوعيها الفكري والسياسي بما يخدم القضايا العادلة التي تناضل في سبيلها شعبونا العربية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.    

أضف تعليق