25 كانون الأول 2024 الساعة 20:25

إسرائيل: يميناً در!

2020-12-06 عدد القراءات : 921
و"يميناً" هذه بتنوين الفتح، فالمقصود بها كل إسرائيل وعموم أحزابها وتشكيلاتها السياسية وحتى مؤسساتها الفكرية والمجتمعية، وليس فقط حزب "يمينا" الذي يقوده نفتالي بينيت، فالمجتمع الإسرائيلي برمّته، ينزاح سنة بعد سنة، ودورة انتخابية بعد أخرى، بشكل منظم وثابت نحو اليمين واليمين المتطرف.
دلائل كثيرة تؤكد ما سلف، سواء على صعيد الخارطة السياسية، أو على صعيد البنى والمؤسسات والبيئة القانونية وحتى التركيبة السكانية، فالتنافس في الانتخابات للكنيست خلال الدورات السابقة كان بين اليمين واليمين الأكثر تطرفا، فالعبرة في البرامج وليس في الماضي الشخصي واليافطة التي يرفعها كل مرشح. وحزب العمل يوشك على الانقراض نهائيا من الخريطة السياسية على الرغم من كل ما فعله هذا الحزب وقادته لدولة إسرائيل، أما ما كان يسمى "معسكر السلام" فقد تبخر نهائيا، واختفت معه أيضا الحراكات السياسية والاجتماعية التي كانت تصب في خدمة مشروع التسوية والسلام مثل حركات السلام الآن ونساء في السواد وأربع أمهات وغيرها.
لقد اتخذت هذه التحولات بعدا عميقا بإقرار قانون القومية العنصري الذي يحصر حق تقرير المصير في "ارض إسرائيل" بما اسماه الشعب اليهودي، ويحرم كل من هو غير يهودي، ليس فقط من حقوقه السياسية والوطنية بل حتى من بعض حقوقه المدنية، والعجيب أن إسرائيل الدولة ومؤسساتها السياسية لم تتفق حتى الآن بشكل قاطع على تعريف من هو اليهودي، ولا زالت تتعامل مع اتفاقيات حزبية تغلب عليها المصالح العابرة بشأن هذه المسألة الجوهرية.
هذه الظاهرة تشمل المجتمع كله، وكل حزب على انفراد أيضا، فدعاة الترانسفير باتوا يحتلون مواقع ثابتة في مركز الخارطة السياسية ودوائر صنع القرار والمؤسسات العسكرية والأمنية، ولم يعد ينظر لهم كشخصيات شاذة وغريبة الأطوار على هامش الحياة السياسية كما كان ينظر لشخص مثل مائير كهانا أو غرشون سلمون، لا بل إن الحزب الحاكم نفسه، أي الليكود، يضم شخصيات معروفة بتطرفها مثل اورن حازان ويهودا غليك وموشي فيغلين، ولم نعد نر فيه شخصيات يمينية "متعقلة" على غرار دان مريدون وروني ميلو وحتى بنيامين بيغن.
بل إن المعارضة الرئيسية لنتنياهو تقودها شخصيات يمينية فعلا، فموشي يعالون كان محسوبا على الجناح اليميني المتطرف في حزب الليكود، وكذلك يائير لابيد الذي لا يشترك مع اليسار سوى في مواقفه العلمانية بينما يتماثل مع اليمين في كل شأن سياسي، وهذه العدوى اليمينية أصابت من بقي من حزب العمل فقرر رئيسه بيريتس الالتحاق بالحكومة من موقع التبعية، وحتى حزب ميرتس اليساري أعرب احد قادته، الجنرال يائير جولان عن تأييده لخطة الضم إذا كانت ستؤدي للانفصال عن الفلسطينيين بحسب رأيه!
ثمة أسباب كثيرة لهذا الانزياح، ومن بينها التحولات العميقة التي جرت في المجتمع، وتصفية القطاع العام والتعاوني، واندثار نماذج ما يسمى بالاشتراكية الصهيونية كالكيبوتسات التي لعبت دورا مهما في جذب المهاجرين اليهود من فقراء العمال أواسط القرن الماضي، وكذلك عمليات الخصخصة لقطاعات مهمة ومركزية في الاقتصاد، وتوثيق علاقات إسرائيل بالولايات المتحدة، واضطلاعها بأدوار وظيفية معروفة أمنيا وعسكريا في خدمة المصالح الأميركية والغربية في المنطقة والعالم، وتبلور مجموعات من الكتل السكانية العرقية التي استعصت على الذوبان في مجتمع إسرائيلي موحد كالكتلة الروسية، وتمايز كتلة المستوطنين بحجمها السكاني وثقافتها وخياراتها الانتخابية، فضلا عن الدور المركزي الذي يلعبه الجيش والمؤسسات الأمنية والمنشآت الاقتصادية المرتبطة بها، كالصناعات العسكرية، في حياة المجتمع والدولة.
ولإسرائيل نموذجها الخاص لليبرالية الجديدة وصعود اليمين الشعبوي، وهي ظاهرة لا تقتصر على إسرائيل فحسب بل انتعشت في الولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا، أي للمناخ الرأسمالي الليبرالي الغربي الذي تعتبر إسرائيل نفسها جزءا لا يتجزأ منه، ليس في السياسة والاقتصاد فقط، بل في الثقافة والفن وصولا لكرة القدم.
عامل آخر ربما كان حاسما ويهمنا كفلسطينيين وعرب، هو أن هذه التحولات في إسرائيل، والتي كانت في الغالب على حسابنا، جاءت من دون أية كلفة، فالاحتلال والاستيطان مستمران من دون أي ثمن أو خسائر، بل على العكس إسرائيل تحقق اختراقات مستمرة في أفريقيا وفي النطاقين العربي والإسلامي، وتحظى باتفاقيات شراكة خاصة مع أوروبا، وعلاقاتها ممتازة حتى مع الأصدقاء التقليديين والتاريخيين للفلسطينيين مثل روسيا والصين والهند، ويهرول إليها كثير من العرب لخطب ودّها على الرغم من سياساتها العنصرية واليمينية المتطرفة.
خلال سنوات الانتفاضة الأولى رسخت لدى كثير من الإسرائيليين قناعة أن الاحتلال مكلف، ليس فقط عسكريا واقتصاديا، بل حتى أخلاقيا لأنه يفسد المجتمع الإسرائيلي، وهكذا تعزز معسكر السلام، على علاّته، في مواجهة خيارات الاحتلال والتطرف، وكان لنهوض الدور الوطني الفلسطيني أثر كبير في لجم اندفاعة التطرف والعنصرية الإسرائيلية، ولا شك أن استنهاض هذا العامل الفلسطيني وإحياؤه هو ما يمكن أن يحد من هذه الاندفاعة.

أضف تعليق