15 تشرين الثاني 2024 الساعة 10:38

من «الضم الزاحف» إلى «الضم بالأمر الواقع»

2020-11-04 عدد القراءات : 904
■ هل تخلت إسرائيل والولايات المتحدة عن مشروع الضم، كما ورد في خطة ترامب – نتنياهو؟ أم أن حكومة نتنياهو علقت العمل مؤقتاً بالخطة؟ أم أن الضم مازال ينفذ بأشكال هادئة بعيداً عن الأنظار؟
دولة الإمارات العربية المتحدة تقول إنها وقعت إتفاق التطبيع والشراكة مع دولة الإحتلال مقابل وقف الضم، واستئناف المفاوضات الثنائية بديلاً له.
بعض الأوساط الفلسطينية ترد على الإمارات بالقول إن تصدي السلطة، لمشروع الضم هو الذي أرغم نتنياهو على وقف العمل بالخطة.
ديفيد فريدمان سفير الولايات المتحدة في إسرائيل يؤكد، في كل مناسبة، أن الضم قائم، وأنه تأجل العمل به لفترة معينة.
آفي بيركوفيتش مبعوث الولايات المتحدة إلى المنطقة بديلاً لجيسون غرينبلات، ومساعد جاريد كوشنير ممثل الرئيس ترامب وراعي صفقة القرن، ينظر إلى الأمور ببساطة أكثر حين يوضح أن إدارته أجلت خطة الضم للتفرغ لإنهاء موجة التطبيع العربي الإسرائيلي.
وزير شؤون المخابرات الإسرائيلية وأكثر من مصدر إسرائيلي وأميركي يتحدث عن خطوة تطبيع كبرى، ستضم خمس دولة عربية، دون الإفصاح عنها، والخطوة مؤجلة لما بعد الإنتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة.
اذن.. حسب كل هذا، فإن خطة الضم معلقة. غير أن الواقع يقول عكس ذلك، فخطة الضم لا تطبق بالضربة القاضية، بل هي تطبق بالخطوات الميدانية، قطعة قطعة، إلى أن يتم تجميع كل القطع لتبدو اللوحة واضحة أمام الجميع؛ أنجز الضم، ولم يبقَ سوى الإعلان الرسمي عنه.
فإذا راجعنا الخطوات الإسرائيلية الأخيرة، أي منذ أن تم الإعلان عن تعليق الضم يمكن أن نلاحظ التالي:
1) انتهت حفلة الإحتفاء بإتفاقات التطبيع مع الإمارات والبحرين، فعادت ورشة الإستيطان تنهب الأرض، في القدس والخليل وأنحاء مختلفة في الضفة الفلسطينية، وصولاً إلى بناء الكتلة الإستيطانية الرابعة، التي تربط بين رام الله والقدس، وتقيم «القدس الكبرى» (الميتروبوليتان) بحيث تنقسم الضفة إلى «إقليمين»، منفصلين، يربط بينهما كتل إستيطانية وطرق التفافية.
 وكما أوضح لنا بعض الأصدقاء في أحد مراكز الأبحاث الفلسطينية المرموقة، فقد بادر خبراء الإستيطان فيه إلى إعادة رسم خارطة الإستيطان في الضفة بالألوان، بحيث تبدو الفوارق فاقعة بين المناطق الفلسطينية ومناطق المستوطنات. ليتبين أن المدن الفلسطينية في الضفة باتت كلها مطوقة بحزام من المستوطنات. يحاصرها من كل الإتجاهات، ويجعل منها غيتو فلسطيني في بحر من المستوطنين، لا يستطيع سكان هذا الغيتو التحرك خارجه إلا عبر مناطق الإستيطان، حيث تقوم الحواجز العسكرية والأمنية الإسرائيلية. وكأن الضفة الفلسطينية  باتت مستوطنة كبرى، تنتشر فيها تجمعات سكنية فلسطينية، مرشحة لأن تكون يوماً ما هي الأقلية، مقابل أكثرية إسرائيلية يهودية.
ويدرك خبراء السياسة والإستيطان، والعارفون ببواطن الخطط الإسرائيلية، أن الإستيطان، هو عنوان آخر للضم، وأن كل استيطان هو في واقع الأمر، خطوة في إنجاز خطة الضم. فدولة الإحتلال لا تبني المستوطنات لتهديها في نهاية المطاف إلى الفلسطينيين. «نحن نبني في بلدنا. هذه أرضنا». هكذا يقول نتنياهو، وهكذا ينفذ خطة الضم، عبر الإستيطان، كمحور رئيس من  محاور الخطة.
2) القفزة الكبرى، في تطبيق خطة الضم، تمثلت في قرار حكومة الإحتلال بإخضاع المستوطنات لقوانين الدولة الإسرائيلية، بعدما كانت تخضع للإجراءات الإدارية للإدارة المدنية لسلطة الإحتلال. ما يعني، في التطبيق العملي، «فرض السيادة» الإسرائيلية على المستوطنات، بإعتبارها جزءاً لا يتجزأ من دولة إسرائيل، يسري عليها ما يسري على تل أبيب، على سبيل المثال.
وبالتالي، هي لم تعد مستوطنات أو تجمعات سكنية خارج حدود الدولة. بل أصبحت في قلب الدولة. ولم تعد مقامة على أرض، نص اتفاق أوسلو على أنها «أرض متنازع عليها» يتم حسم أمرها في مفاوضات الحل الدائم. بل أصبحت أرضاً إسرائيلية تتبع لوزارات الدولة وليس للإدارة المدنية.
أي بتعبير آخر، هذه القفزة، تعني عملياً، وقانونياً وسياسياً، ضم المستوطنات إلى دولة إسرائيل. وأنها لم تعد أمراً تفاوضياً في مفاوضات الحل الدائم [إذا ما انعقدت هذه المفاوضات !]. أي أن المستوطنات أصبحت خارج جدول أعمال أية مفاوضات قادمة.
3) الخطوة «القانونية الإقتصادية» التي تؤدي في نتائجها إلى فرض الضم كأمر واقع، وتسهم إلى حد كبير في تعميق دمج الإقتصاد الفلسطيني بالإقتصاد الإسرائيلي، كانت حين منحت حكومة الإحتلال شركة الإتصالات الإسرائيلية، «بيزك» صلاحية العمل في المناطق الفلسطينية المحتلة، بإعتبارها جزءاً لا يتجزأ من «السيادة الإسرائيلية» و«منطقة إقتصادية إسرائيلية»، ما يعني في الواقع العملي، إعلاء القرار «السيادي» الإسرائيلي على القرار الفلسطيني، وتجريد السلطة الفلسطينية من صلاحياتها في قطاع الإتصالات ، وتأكيد واقعها مجرد إدارة ذاتية خدمية محدودة الصلاحيات وفق ما ترسمه الإدارة المدنية للإحتلال، دون أية مرجعية رسمية تشكل معياراً للعلاقة بين الطرفين، لا اتفاق أوسلو، لا بروتوكول باريس. أصبحت المرجعية الوحيدة، هي خطة ترامب – نتنياهو، ومشروع الضم الذي يتم العمل على تطبيقه بقوة الأمر الواقع.
4) ولم تقتصر إجراءات الضم على سلطات الإحتلال، بل أسهمت إدارة ترامب إسهاماً مباشراً في ذلك حين رفعت الإدارة الأميركية (28/10/2020) حظراً كان مفروضاً منذ عشرات السنين، «يمنع استخدام أموال دافعي الضرائب الأميركيين في تمويل الأبحاث العلمية الإسرائيلية في المستوطنات اليهودية في الأراضي الفلسطينية المحتلة». واحتفاء بالقرار وقع الإختبار على مستوطنة ارئيل التي تضم جامعة إسرائيلية، لتكون مكان الإحتفال بتدشين مسار جديد في التعاون العلمي، ينزع عن المستوطنات صفتها  غير القانونية، ويعيد لها «الإعتبار الإسرائيلي» جزءاً من دولة إسرائيل. ففي الإدارات الأميركية السابقة كانت المستوطنات غير قانونية حتى أن إدارة أوباما وافقت (ضمناً) على قرار مجلس الأمن 2334 (2016) بإدانة الإستيطان. إدارة ترامب اعترفت بما سمته «شرعية الإستيطان»، وترجمت خطوتها هذه بإعتبار البناء في المستوطنات «عملاً قانونياً وحقاً سيادياً لإسرائيل» [ على حد قول وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو].
ترجمت الولايات المتحدة خطوتها المخالفة للقوانين الدولية، حين عقد بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية، والسفير الأميركي ديفيد فريدمان، ثلاثة اتفاقات، تمكن الباحثين في المستوطنات من طلب تمويل أميركي، على غرار باقي الباحثين داخل إسرائيل. كما وقعا اتفاقاً جديداً للتعاون العلمي والتكنولوجي بقيمة مليار ونصف المليار دولار أميركي، ما يعزز الدور الاقتصادي للمستوطنات في النظام الإسرائيلي، ويعزز مكانتها وينتقل بها، من مجرد مستوطنات محدودة المساحات، إلى مدن تمتلك مقومات المدينة بما في ذلك الجامعات، ما يعفي المستوطنين من الذهاب إلى إسرائيل، والدراسة بدلاً من ذلك في مستوطناتهم التي باتت جزءاً من إسرائيل.
نتنياهو لم يستطع إخفاء علامات نصره، حين صرح أن القرار الأميركي والإتفاق مع فريدمان «هو نصر مهم على كل من يسعى لنزع الشرعية عن كل ما هو إسرائيلي بعد حدود 1967».
5) في السياق نفسه، وبخطوات أكثر خطورة، يعمل ديوان رئيس الوزراء الإسرائيلي على تشكيل هيئة خاصة من المفتشين، من سكان المستوطنات، مهمتها «توثيق وتجميع معلومات استخباراتية عن البناء الفلسطيني «غير المرخص» في الضفة الفلسطينية.
موازنة الهيئة 20 مليون شيكل، مرجعيتها وزارة الاستيطان. وتقدم تقاريرها إلى الإدارة المدنية لسلطات الاحتلال، التي تحتكر امتلاك سجل أراضي الضفة الفلسطينية كاملة، وتعلن نفسها في الآونة الأخيرة الجهة الوحيدة المخولة بمنح رخص البناء للفلسطينيين. ولقد سبق لها وأن هدمت عشرات المنازل في وادي الحمص بجوار القدس (منطقة أ) ومناطق أخرى بدعاوي مختلفة، منها «قانوني» (غير مرخصة من سلطات الاحتلال) ومنها «أمني» (وهي الذريعة التي تلجأ إليها سلطات الاحتلال لتبرر تهديمها لمنازل الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم).
ومن المهام الأخرى لهؤلاء المراقبين، مراقبة «المواقع التاريخية والتراثية»  في الضفة، لمصادرتها من قبل سلطات الاحتلال باعتبارها «تراث الشعب اليهودي».
مثل هذه الخطوة تحقق جملة  أهداف دفعة واحدة. منها أنها تهدم منازل الفلسطينيين، وتؤدي إلى تهجيرهم من أراضيهم المرشحة للمصادرة، ومنها تخفيف الوجود الفلسطيني في الأرض المرشحة للضم، وعلى القاعدة الذهبية للمشروع الاستيطاني الإسرائيلي: «أرض أكثر، عرب أقل». فضلاً عن ذلك تجريد السلطة الفلسطينية من صلاحيتها منح تراخيص البناء للفلسطينيين، وحصرها بالإدارة المدنية وحدها، خطوة أخرى نحو تقليص صلاحيات السلطة الفلسطينية المرشحة لتكون نواة الدولة الفلسطينية، لتصبح مجرد إدارة ذاتية خدمية محدودة الصلاحيات.
6) وفي الإطار نفسه، الصراع المفتوح للاستيلاء على الأرض الفلسطينية وتهويدها باعتبارها «أرضنا وبلدنا»، كما يقول نتنياهو، لم يعد سراً أن الإدارة المدنية لسلطات الاحتلال بصدد اعتماد «آلية بديلة» للاستيلاء على الأرض، وتجاوز كل القوانين، والتفلت حتى من قرارات المحكمة العليا، التي تتقبل تظلم الفلسطينيين المصادرة أرضهم، والتي قلما حكمت لصالحهم.
«آلية» الإدارة المدنية لسلطات الاحتلال، هي مسح أراضي الضفة الفلسطينية وتصنيفها بقرار تعسفي بين «أراضي دولة» و«أراضي خاصة». أراضي الدولة تعود ملكيتها في هذه الحالة إلى دولة الاحتلال باعتبارها هي «الدولة الوحيدة» في المنطقة، ويدخل في باب التصنيف «أراضي الدولة»، تلك الأراضي التي تعتبر إسرائيل الاستيلاء عليها «ضرورة أمنية». أو تلك الأراضي التي مضى على «إهمالها» من قبل أصحابها سنوات وظلت بلا زراعة، أو الأراضي التي تدخل في باب «المحميات» أو تلك «المنوي» إقامة قواعد عسكرية عليها، أو تلك التي تشكل «حاجة ضرورية» لتوسيع المستوطنات أو منحها عمقاً إدارياً لمستقبل الأيام.
وبناء عليه تعيد الإدارة المدنية رسم خارطة الضم، فتمحو العلامات بين مناطق (أ)و(ب) و(ج)، كما صنفها اتفاق أوسلو، وتصبح كل المناطق عملياً منطقة (ج)، أي تحت السيطرة التامة لسلطة الاحتلال. ولا تخضع الخارطة الجديدة، لأي نقض قضائي قد يلجأ إليه الفلسطينيون. أي عملياً ضم أوسع الأراضي لدولة إسرائيل بقوة الأمر الواقع.
■   ■   ■
ليست هي المرة الأولى التي تعمل دولة الاحتلال على بناء واقع جديد بالإجراءات الميدانية، لتضع العالم أمام هذا الواقع، وتدفع لأن يسلم به.
1) فقد أقامت الحركة الصهيونية مؤسسات الدولة الاستراتيجية على مدى أعوام الانتداب. فبنت جيشاً، وأقامت مؤسسات سياسية وإدارية وخدمية ونقابية وحزبية. وحين حانت «لحظة الحقيقة»، أعلنت الحركة الصهيونية قيام دولة إسرائيل، بكيانتها المؤسساتية. وبالتالي لم يكن الإعلان عن قيام الدولة في 14/5/1948 هو بداية مشوار بناء الدولة، بل كان خط الوصول إلى الدولة التي عملت مؤسسات الحركة الصهيونية على بنائها خطوة خطوة، بدعم ورعاية بريطانية وأميركية سافرة.
2) الاستراتيجية نفسها اتبعتها مع تطبيقات أوسلو. فقد حققت إسرائيل مكسباً تاريخياً شكل مقتلاً للمشروع الوطني الفلسطيني، حين قبل المفاوض الفلسطيني الموافقة على تصنيف أرض فلسطين أنها أرض متنازع عليها، ونزع عن إسرائيل صفتها القانونية «دولة احتلال». ومع أن الاتفاق أقر عدم قيام أي طرف بإجراءات أحادية يمكن أن تؤثر على مفاوضات الحل الدائم وعلى مستقبل الأرض وحسم مصيرها، لجأت دولة الاحتلال إلى مئات الإجراءات، في مقدمها البناء الاستيطاني الذي انطلق من حوالي 50 ألف مستوطن مع اتفاق أوسلو، إلى حوالي 750 ألف مستوطن مع خطة الضم. إجراءات يومية لبناء واقع استيطاني تطالعك مشاهده المرعبة في كل أنحاء الضفة الفلسطينية وفي القلب منها القدس والخليل وباقي المناطق.
الآن تلجأ دولة الاحتلال إلى التطبيق الميداني لخطة الضم، من خلال الانتقال من «الضم الزاحف» إلى «الضم بالأمر الواقع»، وبحيث، عندما يتم الاعلان عن استئناف تطبيق خطة الضم، تكون إسرائيل قد أنجزت الخطة، ووضعت المجتمع الدولي أمام واقع جديد، ترى صفقة ترامب – نتنياهو أنه الأرضية الميدانية، والمرجعية العملية لأية مفاوضات قد تستأنف مع الفلسطينيين.■

أضف تعليق