عن النزاع الأرميني الأذري
تاريخ العلاقات بين أذربيجان وأرمينيا حافل ومثقل بالاقتتال والمعارك على خلفية صدوع قومية ودينية منذ عشرينات القرن الماضي، ولكن اشتعال فتيل الصراع مجدداً على هذا النحو العنيف والمفاجئ حول إقليم ناغورني قره باغ، لا يكفي تاريخ الخلافات وحده لتفسيره، بل لا بد من رصد وتأمل عوامله وأبعاده الراهنة للوقوف جيداً على طبيعته وأسبابه الحالية.
ثمة حالة توتر شبه دائمة بين الدولتين الجارتين، طبعاً، بسبب عدم التوصل إلى تسوية نهائية تعالج ذيول الحرب في التسعينات. وعلى ذلك، كانت مناطق التماس بين أذربيجان وإقليم ناغورني قره باغ، المتنازع عليه والواقع ضمن أراضيها، تشهد بين الفينة والأخرى مناوشات واشتباكات. ولكن هذه المرة اتسعت رقعة المواجهات وبدت مختلفة عن سابقاتها، مما عزّز المخاوف من احتمال تحول المعارك إلى حرب جديدة مفتوحة بين الدولتين، في ظل وجود قوى دولية وإقليمية داعمة لكلا الطرفين، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر.
وبعد عشرة أيام على المواجهات التي بدأت في السابع والعشرين من الشهر الماضي، فشلت الجهود والدعوات الدولية والإقليمية إلى التهدئة، وخصوصاً من روسيا وفرنسا والولايات المتحدة، رؤساء مجموعة مينسك. وفي الواقع، فإنّ تجدّد النزاع ليس بعيداً عن صراعات الطاقة والنفوذ التي احتدمت مؤخراً في شرق المتوسط وتمتد الآن نحو آسيا. فالنفط والغاز الموجودان في أذربيجان، وخط الأنابيب الأذري – الجورجي – التركي، الذي يمرّ بالقرب من قره باغ، مع احتمال وجود أدوار دولية خفية، كلها عوامل وعناصر قد تقف وراء تجدّد المعارك العنيفة الجارية الآن.
دعم وتحريض تركي
ويرى مراقبون أن دخول أنقرة والرئيس التركي رجب طيب أردوغان على خط النزاع، ودعمهما وتحريضهما الصريح لباكو، بل والدعوة علناً إلى استعادة قره باغ عسكرياً تحت عنوان «مواجهة الخطر الأرمني واسترداد باكو لأراضيها»، يوحي وكأنّ أردوغان يرى في ذلك فرصة مواتية لمدّ نفوذ بلاده على نحو أكبر في المنطقة، (وربما استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية الغابرة)، وذلك عبر تغيير ميزان القوى على الأرض من خلال التدخل العسكري المباشر؛ تماماً كما فعل من قبل في سوريا وليبيا وفي البحر شرق المتوسط، بعد أن رمى جانباً بسياسة «صفر مشاكل» مع الجيران!.
يضاف إلى ذلك، ما تعتبره تركيا من أنّ أذربيجان دولة شقيقة لها، وتشاركها التاريخ واللغة والثقافة. كما ترتبط معها بمجموعة اتفاقات اقتصادية وتجارية في كثير من القطاعات، وتعتمد على أذربيجان كمصدر رئيسي للطاقة، وخصوصا الغاز الطبيعي. وهنالك حوالي أربعة آلاف شركة تركية تعمل في أذربيجان، وبلغت مساهماتها في الاقتصاد الأذربيجاني نحو 12,6 مليار دولار.
وقد يكون أحد الأسباب التي دفعت أردوغان إلى تدخله على هذا النحو، اضطراره إلى تجميد مشروعه في المتوسط، قبالة اليونان وقبرص، تحت ضغوط أميركية وتلويح أوروبي بفرض عقوبات على أنقرة. ولكن المراقبين يتوقعون أن يواجه الانخراط التركي في حرب جنوب القوقاز رفضاً دولياً وعدم رضا أميركي، قد يُلجم الرئيس أردوغان عن الاندفاع أكثر في ترجمة طموحاته.
ويهدد التدخل التركي نفوذ موسكو ومصالحها الحيوية في منطقة القوقاز ذات الأهمية الاستراتيجية والأولوية الأمنية والعسكرية القصوى بالنسبة إليها، حيث تعتبرها جزءاً من «حديقة نفوذها الخلفية»، وتربطها علاقات شراكةٍ استراتيجية واقتصادية مع أرمينيا، وتحوز على ما يقارب 40% من حجم الاستثمارات الأجنبية فيها. كما أنّ أرمينيا جزءٌ من تحالف دفاعي مع روسيا وتستضيف قاعدة عسكرية روسية على أراضيها. هذا فضلاً عما تمثله المنطقة من ممرٍ لخطوط الأنابيب التي تنقل النفط والغاز إلى الأسواق العالمية.
وكان رئيس وزراء أرمينيا، نيكول باشينيان، طالب الحكومة الأميركية وحلف الأطلسي بتقديم تفسير، على خلفية ما وصفه بـ«استهداف سلاح الجو التركي المدنيين في قره باغ، باستخدام مقاتلات (إف-16) الأميركية». واتهمت يريفان تركيا مراراً ورسمياً بتقديم دعم عسكري مباشر لباكو، واتهمت أذربيجان بأنها تستخدم أسلحة تركية، من بينها طائرات مسيرة وحربية. وأكد مسؤول أرميني أن تركيا نقلت مئات المقاتلين من شمال سوريا إلى أذربيجان.
تاريخ الصراع
وقبل المضي قدماً في تناول القضية، قد يكون من المفيد العودة إلى جذور النزاع والتوقف عند بعض المحطات التاريخية التي شكلت المشهد الخلفي المظلم لحروب القوقاز التي دارت في السنوات الأولى للثورة البلشفية. فقد خضع إقليم ناغورني قره باغ في أعالي القوقاز (الذي تسكنه أغلبية أرمنية وأقلية أذريَّة) لسيطرة روسيا القيصرية في نهايات القرن التاسع عشر، ثم جرى إلحاقه بعد الثورة البلشفية بجمهورية أذربيجان عام 1921، عندما قرّر قادة الثورة حلّ المسألة القومية على طريقتهم الاشتراكية (الشكلية والاعتباطية)، فقرّروا ضم الأقلية الأرمينية (سكان قرة باغ) داخل حدود أذربيجان، على نحو جعل كل ما يحيط بها أذربيجانياً، خلافاً لرغبة سكانه الأرمن على الأقل، وفي المقابل أبقت الأقلية الأذرية في إقليم «ناختشيفان» معزولة داخل جمهورية أرمينيا، مع منح الإقليمين صفة الحكم الذاتي، الأمر الذي كان أشبه بزرع «قنبلتين موقوتتين» في الدولتين!.
ومع بدء تفكّك الاتحاد السوفييتي وانهياره، لم يكن مفاجئاً أن يبدأ الأمر من الجماعات التي تملك إرثاً ثقيلاً من الإكراه والشقاق. وقد انفجرت أغلب القنابل الموقوتة في منطقة القوقاز وسواها، عبر محاولات الانفصال التي استجرّت عمليات قتل وتصفيات عرقية وتهجير جماعي (متبادل) للأقليات من هنا أو هناك، وصولاً إلى اندلاع حرب شاملة بين أذربيجان وأرمينيا في 1991، عقب إعلان إقليم قره باغ استقلاله، وقيام «جمهورية أرتساخ» غير المعترف بها دولياً.
واستمرّت الحرب بين البلدين حتى أيار/ مايو عام 1994، حين وضعت «مجموعة مينسك» المنبثقة عن مؤتمر الأسس الأمنية والتعاونية الأوروبية، حلاً لوقف الصراع لكنه لم يرضِ الطرفين، وأبقى الوضع قابلاً للانفجار وتجدد الصراع. وبالفعل، فقد تجدّدت المعارك في آب/ أغسطس 2014، ثم في عام 2016، وصولاً إلى تموز/ يوليو الماضي.
كما أصبح للصراع امتداداته الجيوسياسية وتشابكاته الإقليمية والدولية المرتبطة بملفات أخرى؛ سواءً في منطقة القوقاز أم في منطقة الشرق الأوسط ككل، ذلك أن النزاع لم تعد تغذّيه خطابات التعصب القومي فقط، بل باتت تحكمه مسارات الصراع الجيوسياسية مع وجود لاعبين إقليميين ودوليين كثر. الأمر الذي يثير الخشية من تحوله إلى حربٍ بالأصالة عن نفسها، وبالوكالة عن بقية اللاعبين، بهدف تصفية حسابات في قضايا وملفاتٍ أخرى.
الموقف الروسي
وقد لفت انتباه المراقبين، أنّ موسكو تتمسك حتى الآن (7/10/2020) بنهج الوساطة، وتدعو إلى إحلال قوات فصل روسية على خطوط التماس. يُذكر هنا أنّ روسيا تربطها علاقات اقتصادية قوية مع أذربيجان أيضاً، حيث تعمل فيها حوالي 700 شركة روسية في مجالات الصناعة والبناء والتجارة والخدمات والبنوك والاتصالات والنقل والزراعة وغيرها، ووصل حجم التبادل التجاري بين أذربيجان وروسيا إلى 2.5 مليار دولار في العام 2019.
وقد أشاد الرئيس الأذري، إلهام علييف، بما وصفه بـ«موقف روسيا المسؤول». واتهم أرمينيا بأنها «تحاول جذب روسيا إلى صفّها»، وبأنها تعمل على تأجيج المعارك واستهداف المدن، كيما «تتوجه بطلب المساعدة من روسيا ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي»، في إشارة إلى المنظمة الدفاعية التي تضم كلاً من روسيا وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وبيلاروسيا.
ولا ريب أن الدور الروسي يمكن أن يكون حاسماً في الضغط على أذربيجان وأرمينيا معاً، من أجل الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وتناول قضية الإقليم وسائر القضايا الخلافية الأخرى من خلال المفاوضات والسبل السلمية. وهو الدور ذاته الذي يمكن أن تلعبه تركيا في الضغط على أذربيجان، وحثّها على ترجيح كفّة التفاوض.
ولكنّ ما أثار غضب موسكو هو الأخبار المتصلة بنقل مقاتلين مرتزقة إلى أذربيجان. حيث حذر جهاز الاستخبارات الروسي من مخاوف جدية بتحول المنطقة إلى «بؤرة أساسية لنشاط الإرهاب، ومنصة انطلاق جديدة للمتشددين الإسلاميين»، إذ يستطيع المسلحون أن «يعبروا لاحقاً إلى دول مجاورة لأذربيجان وأرمينيا ومن بينها روسيا».
ورجّح محللون أن تتجه العلاقات التركية الروسية؛ المعقدة للغاية أصلاً، نحو مزيد من التعقيد، على خلفية الصراع الأذري الأرميني. كما يبدو أنّ علاقة «الصداقة اللدودة» بين الرئيسين أردوغان وبوتين قد لا تستمر إلى ما لا نهاية، وإذا كان الطرفان نجحا، حتى الآن، في تجاوز الخلافات بشأن «تعاونهما التنافسي» في سوريا وليبيا، فإن التدخل التركي في أذربيجان قد يفجر العلاقة بينهما.
ورأى المحللون أن التنسيق الروسي التركي في سوريا وليبيا كانت تحكمه ظروف مغايرة، لكنه انتقل هذه المرة إلى تنافس في ميدان محسوب تاريخيّاً على روسيا، وهو في الواقع ما دفعها إلى الغضب، وليس نقل المقاتلين المرتزقة فحسب، فالتنافس والتحدي التركي بات يمسّ من صورة وهيبة روسيا، ودورها كوسيط وضامن في تنفيذ الاتفاقيات بين الجمهوريات التي كانت أعضاء في الاتحاد السوفييتي السابق!!.
الأدوار الأخرى
أما الأدوار الأخرى في هذا الصراع فهي أقلّ أهمية وتأتي لاحقاً، ومنها الدور الفرنسي الذي محوره الأساس هو توتر علاقاتها مع تركيا بسبب محاولات تمدّد النفوذ التركي في غير مكان، وخصوصاً في ملف الطاقة في المتوسط الذي أوصل الخلافات بينهما إلى الذروة، في وقت تنقسم فيه مواقف دول الاتحاد الأوروبي حيال هذا الملف، وتتعامل معه من زاوية تضرّر المصالح الأوروبية من حالة عدم الاستقرار في المنطقة عموماً.
وإلى ذلك، تفيد التقارير المتواترة عن قلق إيراني من التصعيد الحاصل وتقدم أذربيجان على الأرض بدعم تركي عسكري مباشر، وهو ما من شأنه أن ينعكس في مسألتين خطيرتين بالنسبة إلى طهران، أولاهما؛ تغذية الشعور القومي لدى ملايين الأذريين الموجودين في إيران، وثانيتهما؛ توسع النفوذ التركي في آسيا الوسطى الغنية بالنفط والغاز، وهو أمر لن يكون مريحاً لها في أي حال من الأحوال، لأنه سيسمح بتفوّق إقليمي لتركيا في منطقة حيوية، ويعوق خطط طهران في تحولها إلى لاعب رئيسي في المنطقة.
يجدر بالذكر أنه توجد في إيران أقلية أذرية وازنة تتركز أساساً في شمال غرب البلاد، ويُقدّر عددها بنحو 10 ملايين، من إجمالي 80 مليون مواطن إيراني. ومن اللافت أنه على رغم اشتراكهما في اعتناق المذهب الشيعي، إلا أن النفوذ الإيراني محدود جداً في أذربيجان وتتم محاربته بجدية، في ظلّ نظام قومي أقرب للعلمانية. ويعتقد الأذريون أن إيران تفضّل التحالف مع عدوّهم التاريخي أرمينيا، ولن تكون صديقة لهم حتى لو تودّدت إليهم مذهبياً، خاصة وأنهم يميلون إلى تغليب انتمائهم العرقي التركي بدلاً من المذهبي.
ثمة حالة توتر شبه دائمة بين الدولتين الجارتين، طبعاً، بسبب عدم التوصل إلى تسوية نهائية تعالج ذيول الحرب في التسعينات. وعلى ذلك، كانت مناطق التماس بين أذربيجان وإقليم ناغورني قره باغ، المتنازع عليه والواقع ضمن أراضيها، تشهد بين الفينة والأخرى مناوشات واشتباكات. ولكن هذه المرة اتسعت رقعة المواجهات وبدت مختلفة عن سابقاتها، مما عزّز المخاوف من احتمال تحول المعارك إلى حرب جديدة مفتوحة بين الدولتين، في ظل وجود قوى دولية وإقليمية داعمة لكلا الطرفين، سواء بشكل مباشر أم غير مباشر.
وبعد عشرة أيام على المواجهات التي بدأت في السابع والعشرين من الشهر الماضي، فشلت الجهود والدعوات الدولية والإقليمية إلى التهدئة، وخصوصاً من روسيا وفرنسا والولايات المتحدة، رؤساء مجموعة مينسك. وفي الواقع، فإنّ تجدّد النزاع ليس بعيداً عن صراعات الطاقة والنفوذ التي احتدمت مؤخراً في شرق المتوسط وتمتد الآن نحو آسيا. فالنفط والغاز الموجودان في أذربيجان، وخط الأنابيب الأذري – الجورجي – التركي، الذي يمرّ بالقرب من قره باغ، مع احتمال وجود أدوار دولية خفية، كلها عوامل وعناصر قد تقف وراء تجدّد المعارك العنيفة الجارية الآن.
دعم وتحريض تركي
ويرى مراقبون أن دخول أنقرة والرئيس التركي رجب طيب أردوغان على خط النزاع، ودعمهما وتحريضهما الصريح لباكو، بل والدعوة علناً إلى استعادة قره باغ عسكرياً تحت عنوان «مواجهة الخطر الأرمني واسترداد باكو لأراضيها»، يوحي وكأنّ أردوغان يرى في ذلك فرصة مواتية لمدّ نفوذ بلاده على نحو أكبر في المنطقة، (وربما استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية الغابرة)، وذلك عبر تغيير ميزان القوى على الأرض من خلال التدخل العسكري المباشر؛ تماماً كما فعل من قبل في سوريا وليبيا وفي البحر شرق المتوسط، بعد أن رمى جانباً بسياسة «صفر مشاكل» مع الجيران!.
يضاف إلى ذلك، ما تعتبره تركيا من أنّ أذربيجان دولة شقيقة لها، وتشاركها التاريخ واللغة والثقافة. كما ترتبط معها بمجموعة اتفاقات اقتصادية وتجارية في كثير من القطاعات، وتعتمد على أذربيجان كمصدر رئيسي للطاقة، وخصوصا الغاز الطبيعي. وهنالك حوالي أربعة آلاف شركة تركية تعمل في أذربيجان، وبلغت مساهماتها في الاقتصاد الأذربيجاني نحو 12,6 مليار دولار.
وقد يكون أحد الأسباب التي دفعت أردوغان إلى تدخله على هذا النحو، اضطراره إلى تجميد مشروعه في المتوسط، قبالة اليونان وقبرص، تحت ضغوط أميركية وتلويح أوروبي بفرض عقوبات على أنقرة. ولكن المراقبين يتوقعون أن يواجه الانخراط التركي في حرب جنوب القوقاز رفضاً دولياً وعدم رضا أميركي، قد يُلجم الرئيس أردوغان عن الاندفاع أكثر في ترجمة طموحاته.
ويهدد التدخل التركي نفوذ موسكو ومصالحها الحيوية في منطقة القوقاز ذات الأهمية الاستراتيجية والأولوية الأمنية والعسكرية القصوى بالنسبة إليها، حيث تعتبرها جزءاً من «حديقة نفوذها الخلفية»، وتربطها علاقات شراكةٍ استراتيجية واقتصادية مع أرمينيا، وتحوز على ما يقارب 40% من حجم الاستثمارات الأجنبية فيها. كما أنّ أرمينيا جزءٌ من تحالف دفاعي مع روسيا وتستضيف قاعدة عسكرية روسية على أراضيها. هذا فضلاً عما تمثله المنطقة من ممرٍ لخطوط الأنابيب التي تنقل النفط والغاز إلى الأسواق العالمية.
وكان رئيس وزراء أرمينيا، نيكول باشينيان، طالب الحكومة الأميركية وحلف الأطلسي بتقديم تفسير، على خلفية ما وصفه بـ«استهداف سلاح الجو التركي المدنيين في قره باغ، باستخدام مقاتلات (إف-16) الأميركية». واتهمت يريفان تركيا مراراً ورسمياً بتقديم دعم عسكري مباشر لباكو، واتهمت أذربيجان بأنها تستخدم أسلحة تركية، من بينها طائرات مسيرة وحربية. وأكد مسؤول أرميني أن تركيا نقلت مئات المقاتلين من شمال سوريا إلى أذربيجان.
تاريخ الصراع
وقبل المضي قدماً في تناول القضية، قد يكون من المفيد العودة إلى جذور النزاع والتوقف عند بعض المحطات التاريخية التي شكلت المشهد الخلفي المظلم لحروب القوقاز التي دارت في السنوات الأولى للثورة البلشفية. فقد خضع إقليم ناغورني قره باغ في أعالي القوقاز (الذي تسكنه أغلبية أرمنية وأقلية أذريَّة) لسيطرة روسيا القيصرية في نهايات القرن التاسع عشر، ثم جرى إلحاقه بعد الثورة البلشفية بجمهورية أذربيجان عام 1921، عندما قرّر قادة الثورة حلّ المسألة القومية على طريقتهم الاشتراكية (الشكلية والاعتباطية)، فقرّروا ضم الأقلية الأرمينية (سكان قرة باغ) داخل حدود أذربيجان، على نحو جعل كل ما يحيط بها أذربيجانياً، خلافاً لرغبة سكانه الأرمن على الأقل، وفي المقابل أبقت الأقلية الأذرية في إقليم «ناختشيفان» معزولة داخل جمهورية أرمينيا، مع منح الإقليمين صفة الحكم الذاتي، الأمر الذي كان أشبه بزرع «قنبلتين موقوتتين» في الدولتين!.
ومع بدء تفكّك الاتحاد السوفييتي وانهياره، لم يكن مفاجئاً أن يبدأ الأمر من الجماعات التي تملك إرثاً ثقيلاً من الإكراه والشقاق. وقد انفجرت أغلب القنابل الموقوتة في منطقة القوقاز وسواها، عبر محاولات الانفصال التي استجرّت عمليات قتل وتصفيات عرقية وتهجير جماعي (متبادل) للأقليات من هنا أو هناك، وصولاً إلى اندلاع حرب شاملة بين أذربيجان وأرمينيا في 1991، عقب إعلان إقليم قره باغ استقلاله، وقيام «جمهورية أرتساخ» غير المعترف بها دولياً.
واستمرّت الحرب بين البلدين حتى أيار/ مايو عام 1994، حين وضعت «مجموعة مينسك» المنبثقة عن مؤتمر الأسس الأمنية والتعاونية الأوروبية، حلاً لوقف الصراع لكنه لم يرضِ الطرفين، وأبقى الوضع قابلاً للانفجار وتجدد الصراع. وبالفعل، فقد تجدّدت المعارك في آب/ أغسطس 2014، ثم في عام 2016، وصولاً إلى تموز/ يوليو الماضي.
كما أصبح للصراع امتداداته الجيوسياسية وتشابكاته الإقليمية والدولية المرتبطة بملفات أخرى؛ سواءً في منطقة القوقاز أم في منطقة الشرق الأوسط ككل، ذلك أن النزاع لم تعد تغذّيه خطابات التعصب القومي فقط، بل باتت تحكمه مسارات الصراع الجيوسياسية مع وجود لاعبين إقليميين ودوليين كثر. الأمر الذي يثير الخشية من تحوله إلى حربٍ بالأصالة عن نفسها، وبالوكالة عن بقية اللاعبين، بهدف تصفية حسابات في قضايا وملفاتٍ أخرى.
الموقف الروسي
وقد لفت انتباه المراقبين، أنّ موسكو تتمسك حتى الآن (7/10/2020) بنهج الوساطة، وتدعو إلى إحلال قوات فصل روسية على خطوط التماس. يُذكر هنا أنّ روسيا تربطها علاقات اقتصادية قوية مع أذربيجان أيضاً، حيث تعمل فيها حوالي 700 شركة روسية في مجالات الصناعة والبناء والتجارة والخدمات والبنوك والاتصالات والنقل والزراعة وغيرها، ووصل حجم التبادل التجاري بين أذربيجان وروسيا إلى 2.5 مليار دولار في العام 2019.
وقد أشاد الرئيس الأذري، إلهام علييف، بما وصفه بـ«موقف روسيا المسؤول». واتهم أرمينيا بأنها «تحاول جذب روسيا إلى صفّها»، وبأنها تعمل على تأجيج المعارك واستهداف المدن، كيما «تتوجه بطلب المساعدة من روسيا ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي»، في إشارة إلى المنظمة الدفاعية التي تضم كلاً من روسيا وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وبيلاروسيا.
ولا ريب أن الدور الروسي يمكن أن يكون حاسماً في الضغط على أذربيجان وأرمينيا معاً، من أجل الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وتناول قضية الإقليم وسائر القضايا الخلافية الأخرى من خلال المفاوضات والسبل السلمية. وهو الدور ذاته الذي يمكن أن تلعبه تركيا في الضغط على أذربيجان، وحثّها على ترجيح كفّة التفاوض.
ولكنّ ما أثار غضب موسكو هو الأخبار المتصلة بنقل مقاتلين مرتزقة إلى أذربيجان. حيث حذر جهاز الاستخبارات الروسي من مخاوف جدية بتحول المنطقة إلى «بؤرة أساسية لنشاط الإرهاب، ومنصة انطلاق جديدة للمتشددين الإسلاميين»، إذ يستطيع المسلحون أن «يعبروا لاحقاً إلى دول مجاورة لأذربيجان وأرمينيا ومن بينها روسيا».
ورجّح محللون أن تتجه العلاقات التركية الروسية؛ المعقدة للغاية أصلاً، نحو مزيد من التعقيد، على خلفية الصراع الأذري الأرميني. كما يبدو أنّ علاقة «الصداقة اللدودة» بين الرئيسين أردوغان وبوتين قد لا تستمر إلى ما لا نهاية، وإذا كان الطرفان نجحا، حتى الآن، في تجاوز الخلافات بشأن «تعاونهما التنافسي» في سوريا وليبيا، فإن التدخل التركي في أذربيجان قد يفجر العلاقة بينهما.
ورأى المحللون أن التنسيق الروسي التركي في سوريا وليبيا كانت تحكمه ظروف مغايرة، لكنه انتقل هذه المرة إلى تنافس في ميدان محسوب تاريخيّاً على روسيا، وهو في الواقع ما دفعها إلى الغضب، وليس نقل المقاتلين المرتزقة فحسب، فالتنافس والتحدي التركي بات يمسّ من صورة وهيبة روسيا، ودورها كوسيط وضامن في تنفيذ الاتفاقيات بين الجمهوريات التي كانت أعضاء في الاتحاد السوفييتي السابق!!.
الأدوار الأخرى
أما الأدوار الأخرى في هذا الصراع فهي أقلّ أهمية وتأتي لاحقاً، ومنها الدور الفرنسي الذي محوره الأساس هو توتر علاقاتها مع تركيا بسبب محاولات تمدّد النفوذ التركي في غير مكان، وخصوصاً في ملف الطاقة في المتوسط الذي أوصل الخلافات بينهما إلى الذروة، في وقت تنقسم فيه مواقف دول الاتحاد الأوروبي حيال هذا الملف، وتتعامل معه من زاوية تضرّر المصالح الأوروبية من حالة عدم الاستقرار في المنطقة عموماً.
وإلى ذلك، تفيد التقارير المتواترة عن قلق إيراني من التصعيد الحاصل وتقدم أذربيجان على الأرض بدعم تركي عسكري مباشر، وهو ما من شأنه أن ينعكس في مسألتين خطيرتين بالنسبة إلى طهران، أولاهما؛ تغذية الشعور القومي لدى ملايين الأذريين الموجودين في إيران، وثانيتهما؛ توسع النفوذ التركي في آسيا الوسطى الغنية بالنفط والغاز، وهو أمر لن يكون مريحاً لها في أي حال من الأحوال، لأنه سيسمح بتفوّق إقليمي لتركيا في منطقة حيوية، ويعوق خطط طهران في تحولها إلى لاعب رئيسي في المنطقة.
يجدر بالذكر أنه توجد في إيران أقلية أذرية وازنة تتركز أساساً في شمال غرب البلاد، ويُقدّر عددها بنحو 10 ملايين، من إجمالي 80 مليون مواطن إيراني. ومن اللافت أنه على رغم اشتراكهما في اعتناق المذهب الشيعي، إلا أن النفوذ الإيراني محدود جداً في أذربيجان وتتم محاربته بجدية، في ظلّ نظام قومي أقرب للعلمانية. ويعتقد الأذريون أن إيران تفضّل التحالف مع عدوّهم التاريخي أرمينيا، ولن تكون صديقة لهم حتى لو تودّدت إليهم مذهبياً، خاصة وأنهم يميلون إلى تغليب انتمائهم العرقي التركي بدلاً من المذهبي.
أضف تعليق