«الحقبة النفطية» ومستقبل التطبيع في الخليج!
ربط بعض المحللين اتفاق تطبيع العلاقات بين دولة الإمارات وإسرائيل، بما أسموه «الحقبة الخليجية أو النفطية»، المتمثلة بصعود دور بعض دول الخليج العربية، وتصدّرها المشهد السياسي العربي والإقليمي، وخصوصاً في العقدين الأخيرين، مع انتقال مركز الثقل إليها بعد تقويض دور الحواضر العربية الكبرى (القاهرة، بغداد، دمشق)*1، وتراجعها وانكفائها على نفسها، لأسباب كثيرة داخلية وخارجية لسنا بصددها الآن، وهي الحواضر التي لعبت دوراً بارزاً في قيادة العالم العربي، وخاصة في مرحلة ما بعد الاستقلال والصراع مع إسرائيل.
وقد بدأت الحقبة النفطية أولاً مع صعود دور المملكة السعودية، وخصوصاً إبان «صدمة» الارتفاع الكبير في أسعار النفط عقب حرب 1973. وترافق صعودها مع انهيار «المشروع القومي العربي» بجناحيه «الناصري» و«البعثي» في كلّ من القاهرة ودمشق وبغداد.
وكما هو معروف، فقد لعبت السعودية دوراً فاعلاً في انهيار هذا المشروع، (ولكن بالتفاعل والتكامل مع التحولات والتبدلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العميقة التي كان يشهدها في عواصمه الرئيسة)، وذلك على خلفية الانقسامات والاصطفافات التي كانت، وما تزال، تشهدها المنظومة العربية والتي كان من أبرز علائمها سابقاً التنافس على زعامة العالم العربي بين القاهرة، (زمن عبد الناصر)، والرياض، مع الإشارة إلى مرحلة لاحقة من التقارب، وأحياناً التعاون والتنسيق، بين هذه العواصم منذ سبعينيات القرن الماضي، وخاصة في العقد الأخير منه، والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين.
الحقبة النفطية في طورها الثاني
ثم انتقلت «الحقبة النفطية» إلى طورها الثاني مع بروز دور دول خليجية أصغر حجماً، ولكنها غنية جداً بمواردها المالية المتصلة بتصدير النفط والغاز. ولقد ارتبط الدور الإقليمي «المكتسب» لهذه الدول باستمرار احتياج العالم لموارد الطاقة، من جهة، وللمهام والوظائف التي تُناط بها أو تنخرط فيها في الصراعات الإقليمية القائمة، من جهة ثانية. ولعلّ هذا ما يفسّر علاقاتها المتعدّدة والمتشعبة، إقليمياً ودولياً، مع دول على النقيض من بعضها البعض سياسياً!.
وقد بلغت هذه المرحلة ذروتها مع المآلات الكارثية التي آلت إليها أوضاع بلدان ما سميّ «الربيع العربي»، وخصوصاً في سورية واليمن وليبيا، بعد أن تحوّلت إلى ساحات لصراعات النفوذ والسيطرة، وباتت في النتيجة أشبه بكانتونات تخضع لنفوذ هذه الدولة أو تلك، وذلك بالتضافر مع طفوّ المشاكل الداخلية المريعة على السطح، وتعمّق الانقسامات والاستقطابات، سواءً داخل كلّ دولة على حدة، أم بين الدول العربية بعضها مع بعض. وكان العراق سبقها إلى ذلك منذ الغزو الأميركي عام 2003.
ذلك كلّه أفضى، في المحصلة، إلى تراجع الاهتمام العربي على مختلف الصعد والمستويات؛ الرسمية والسياسية والشعبية، بما يطلق عليه «قضية العرب المركزية»، أيّ الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية. وبرز في المقابل، الخطر الإيراني بالنسبة إلى بعض العواصم الخليجية والعربية، والخطر التركي بالنسبة إلى عواصم أخرى. وهو ما ساهم في «إطلاق يد» عدد من العواصم العربية؛ الخليجية وغير الخليجية، لإقامة صلات وعلاقات متعددة المناحي والمستويات مع إسرائيل، بدأت سرية، (أشبه بزواج عرفي، كما وصفت من قبل كثيرين)، قبل أن تُتوّج أخيراً بإشهارها على الملأ وتثبيتها رسمياً، من خلال الاتفاق الذي أخرج هذه العلاقات إلى العلن ووعد بتطويرها، جهاراً نهاراً، من دون أي حرج.
وهذا في الواقع، ينسجم تماماً مع خطة ترامب المطروحة المسمّاة بـ«صفقة القرن» التي تتبنّى، على نحو شبه تام، رؤية اليمين الإسرائيلي المتطرّف لطي صفحة الصراع العربي – الإسرائيلي نهائياً، وحلّ (تصفية) القضية الفلسطينية. وهي تشتمل في أحد أركانها الرئيسة، على ترتيبات جديدة في المنطقة تقوم على تطبيع علاقات الدول العربية مع إسرائيل، وتغيير خارطة التحالفات والانتقال إلى مرحلة تموضعات واصطفافات جديدة في المنطقة ككل، تصبح فيها إسرائيل حليفاً، معلناً أو مضمراً، في مواجهة إيران في الدرجة الأولى، أو في مواجهة تركيا وحركات الإسلام السياسي المرتبطة بها في الدرجة الثانية، أو في مواجهتها كلّها مجتمعة، تبعاً لسياسات وارتباطات ومصالح كل عاصمة من العواصم العربية. والاتفاق الإماراتي الإسرائيلي، (أو أي اتفاق آخر يعقد على غراره)، سوف يندرج في إطار هذه الخطة على نحو مؤكد.
تحالف وليس تطبيعاً فقط!
وما أعلنه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أخيراً، يؤكد هذه النتيجة على نحو لا يدع مجالاً للشك، فقد قال صراحة إن دولة الإمارات وإسرائيل «توصلتا إلى اتفاق لتشكيل تحالف ضد إيران لحماية الأراضي الأميركية والشرق الأوسط، وذلك من خلال اتفاقية إبراهام للتطبيع الكامل بينهما». وأوضح مشدّداً على أنّ الغرض من الاتفاق هو الحيلولة «دون وصول الخطر الإيراني إلى الأراضي الأميركية»!. وهنا يجدر التنويه إلى الطابع العسكري والأمني (تبادل المعلومات الاستخباراتية)، للعلاقات بين الإمارات وإسرائيل منذ بداياتها السريّة، وخصوصاً إزاء ما يسميه الطرفان «التهديدات الإيرانية لأمن واستقرار المنطقة».
الكلام لم يعد إذن عن تطبيع أو «اتفاقية سلام»، بل عن مستوى أعلى من العلاقات، فالحديث يجري عن «حلف» سياسي وعسكري موجّه ضد طرف محدّد، ولحماية الولايات المتحدة الأميركية بحيث «لا يصل الخطر إلى شواطئها». وهذا يختلف جداً عن الحديث الإماراتي الأولي عن «صفقة لوقف ضم إسرائيل للأراضي الفلسطينية»، (وهو ما نفته تل أبيب فوراً)، كما يختلف عن المعلومات المتداولة بشأن صفقة «إف ـ 35»، وهو الأمر الذي ما زال محلّ أخذ ورد بين أطراف الصفقة الثلاثة.
مآل «الحقبة الخليجية»؟
ما سبق عرضه، هو مجرد توصيف لواقع الحال لا أكثر، ولكن ما ينبغي ملاحظته والوقوف عليه هو السياق الذي جاء فيه إشهار التطبيع الحالي مع إسرائيل، محلياً وعربياً وإقليمياً ودولياً.
فعلى الصعيد المحلي (الخليجي)، لاحظ المراقبون أنّ الدول الخليجية تشهد حالياً أزمات مالية متفاوتة الحدّة فيما بينها، تتمثل بعجز موازناتها الذي بلغ 180 مليار دولار في النصف الأول من العام الجاري، حصة السعودية وحدها كانت نحو 55 % منه، وفق تقرير وكالة «ستاندرد آند بورز» للتصنيفات الائتمانية، صدر في شهر تموز/ يوليو الماضي.
وتوقع صندوق النقد الدولي، في أحدث تقاريره حول آفاق الاقتصاد العالمي في 24 حزيران/ يونيو الماضي، انكماش الاقتصاد في منطقة الخليج بنسبة 7,6 % لعام 2020. وقد أجبر تدهور أسعار النفط الدول الخليجية على اتخاذ إجراءات غير مسبوقة، شملت تقليص دعم الوقود، وفرض ضرائب جديدة غير مباشرة، كما تم إرجاء مشاريع اقتصادية كبيرة.
وعلى رغم أن الإمارات، (ثاني أكبر اقتصاد خليجي)، بدأت العام الحالي من دون أيّ عجز في موازنتها، إلا أن جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية تتجه بها إلى تسجيل أسوأ أزمة في تاريخها، مع توقعات بانكماش اقتصادها بنسبة 4.3%. أما البحرين، التي توقع صندوق النقد الدولي أن تكون الأقرب زمنياً لاندثار ثرواتها النفطية خلال عام 2024، فهي تحتاج إلى مساعدات حلفائها الخليجيين بينما هم في ضائقة وركود اقتصادي.
وتوقع خبراء «ستاندرد آند بورز» ارتفاع العجز المتنامي في موازنات دول الخليج إلى نصف تريليون دولار بحلول العام 2023، وهو ما يجعل حكومات المنطقة في وضع صعب ومعقد مع الضبابية التي تحيط بمستقبل الاقتصاد العالمي، على خلفية وباء كورونا والانخفاض الكبير في أسعار الطاقة، إضافة إلى التوترات الجيوسياسية المتصاعدة التي تشهدها المنطقة. ومنها الحرب باهظة الكلفة التي تخوضها السعودية والإمارات في اليمن، فضلاً عن تدخلهما في الحرب الليبية والتوترات في منطقة الخليج ذاتها.
دوافع الخوف والقلق!
نستنتج من ذلك، أنّ إشهار التطبيع بين دولة الإمارات وإسرائيل، جاء من موقع ضعف وليس من موقع قوة، حيث تشعر الدول الخليجية بالقلق والخوف من المستقبل، في سياق تراجع الحقبة النفطية، وربما أفولها، إذا استمر التدهور الحاصل في أسعار النفط. ولعلّ الإمارات وغيرها من الدول الأخرى، تشعر بالحاجة الماسّة إلى «ظهير»؛ إقليمي أو دولي، لتأمين الحماية اللازمة لها.
ولما كانت علاقاتها متوترة مع كل من إيران وتركيا؛ حيث تنظر إلى إيران بوصفها عدواً أول، وترى أنها بحاجة إلى الحدّ من تأثير النفوذ التركي وأدواته السياسية في المنطقة. وأمام تقلب وتردّد مواقف الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، فقد باتت حليفاً غير مضمون بالنسبة إلى الإمارات، (وإلى غيرها من الدول الخليجية أيضاً)، فلا يبقى لديها سوى إسرائيل لتكون ظهيرها المأمول، وربما تكون في الوقت عينه بوابةً للتأثير في السياسات الأميركية، وإعادة تمتين التحالف الخليجي مع واشنطن.
في هذا الصدد، يمكن تسجيل بعض العناصر التي غذّت قلق الدول الخليجية على أمن منطقتهم؛ من قبيل قرارات إدارة ترامب الأخيرة سحب القوات من بعض مناطق العالم التي كانت تتواجد فيها، (من العراق إلى أفغانستان إلى ألمانيا...)، فضلاً عن الامتناع الأميركي عن القيام بأي عمل ملموس بعد الهجمات على «أرامكو»، وهو ما وضع المصداقية الأميركية بالنسبة إلى تلك الدول على المحك!.
وعلى الصعيد العربي، أظنّ أنه من الواضح للجميع أن لا فائدة ترجى، في المدى المنظور على الأقل، من محاولة معاودة لملمة أشلاء الواقع العربي المتشظية، بل تبدو الأمور وكأنها تسير نحو الأسوأ، وهو ما يزيد من اندفاع كل دولة عربية إلى البحث عن حليف قويّ لها من خارج المنظومة العربية.
هذا الواقع البائس فتح شهية القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة (إيران، تركيا وإسرائيل)، إلى مزيد من الاندفاع والتدخل، بحثاً عن نفوذ أو عن موطئ قدم لها، هنا أو هناك من بلدان العالم العربي «الداشرة»!.
ويمكن للمراقب أن يرصد بجلاء الصراع الضاري بين العواصم الإقليمية في بعض الساحات، واتفاقها أو تواطؤها في ساحات أخرى. وعلى سبيل المثال، إيران وتركيا على طرفي نقيض في سوريا، بينما هما ليسا كذلك في ليبيا واليمن، أو في الصراع على الطاقة في المتوسط، وكذلك الأمر بالنسبة للتوترات بين قطر وبعض الدول الأخرى داخل المنظومة الخليجية. وما يقال عن إيران وتركيا يمكن أن ينسحب على تركيا وإسرائيل أيضاً!.
وما يُفسح في المجال أمام هذا القدر من التدخل الإقليمي في العالم العربي، هو عدم توافق (أو عدم استعجال ورغبة) الدول الكبرى في الوصول إلى حلول للصراعات الساخنة القائمة في غير ساحة عربية. وما يزيد الاستعصاء القائم هو التباين الكبير بين مواقف الإدارات الأميركية المتعاقبة والاستراتيجيات التي تطرحها كلّ منها للتعامل مع أهم القضايا المطروحة، وهذا ينطبق، على وجه الخصوص، على إدارة باراك أوباما (الديمقراطية) السابقة، مقارنة مع إدارة ترامب (الجمهورية).
هذا يضفي، وعلى رغم الحديث عن «تحالف إماراتي إسرائيلي»، طابع الراهنية وعدم الثبات، وربما عدم الاستمرار أيضاً، على الاتفاق المعقود، أو الاتفاقات التي من المحتمل أن تعقد، والتي تبدو مدفوعة باحتياجات أطرافها الراهنة والمباشرة، (الإمارات وقلقها الأمني، السودان والمقايضات المطروحة لرفع العقوبات الأميركية عنه، نتنياهو وترامب وقلقهما الانتخابي وحاجتهما الماسّة إلى انجاز ما يلوّحان به أمام الناخبين)، أكثر مما هي مدفوعة بتصورات ورؤى استراتيجية وعقلانية لحلول مقبولة وقابلة للحياة للصراعات القائمة. كلّ ذلك في مرحلة (عربية وإقليمية وعالمية) طابعها الرئيسي أنها «انتقالية»، يحيط بها الكثير من عناصر الغموض والقلق والخوف.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن الغموض الشديد يكتنف صفقة طائرات «إف-35» المتطورة التي يبدو أنّ إدارة ترامب وعدت بها الإمارات، وهي الصفقة التي ترى الأخيرة أنها جزءٌ لا يتجزّأ من اتفاق التطبيع مع إسرائيل، في حين يعارضها المسؤولون الإسرائيليون، بمن فيهم نتنياهو، معتبرين أنها تضعف «التفوق العسكري النوعي الخاص بإسرائيل»، وهو التزام أميركي تجاه إسرائيل يعود إلى سبعينيات القرن الماضي، تم تحويله بعد ذلك إلى قانون مقرّ في الكونغرس.
ولعل «طابع الراهنية» للاتفاق المذكور، يُفسّر لنا تحفظ الموقف السعودي تجاهه، والذي أدّى إلى فرملة أطراف خليجية أخرى (البحرين) عن الاندفاع للحذو حذو الإمارات، (في المدى القريب على الأقل). حيث أكدّت المملكة، عبر خارجيتها، التزامها بمبادرة السلام العربية لعام 2002، التي تنصّ على إقامة دولة فلسطينية كشرط للتطبيع العربي مع إسرائيل، على رغم تجاهلها لقضية اللاجئين، وللأدوات والسبل الكفيلة بترجمة المبادرة على أرض الواقع!.
........................................................
*1: يسميها الكاتب مروان قبلان «اللحظة الخليجية»، في إشارة، كما أفترض، إلى راهنيتها وعدم استمرارها، كما كتب تحت عنوان «حتى لا تغدو اللحظة الخليجية عابرة» / «العربي الجديد»: 19/8/2020، مع أنّ هذه «اللحظة» مستمرة في الواقع منذ عقود!.
وقد بدأت الحقبة النفطية أولاً مع صعود دور المملكة السعودية، وخصوصاً إبان «صدمة» الارتفاع الكبير في أسعار النفط عقب حرب 1973. وترافق صعودها مع انهيار «المشروع القومي العربي» بجناحيه «الناصري» و«البعثي» في كلّ من القاهرة ودمشق وبغداد.
وكما هو معروف، فقد لعبت السعودية دوراً فاعلاً في انهيار هذا المشروع، (ولكن بالتفاعل والتكامل مع التحولات والتبدلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العميقة التي كان يشهدها في عواصمه الرئيسة)، وذلك على خلفية الانقسامات والاصطفافات التي كانت، وما تزال، تشهدها المنظومة العربية والتي كان من أبرز علائمها سابقاً التنافس على زعامة العالم العربي بين القاهرة، (زمن عبد الناصر)، والرياض، مع الإشارة إلى مرحلة لاحقة من التقارب، وأحياناً التعاون والتنسيق، بين هذه العواصم منذ سبعينيات القرن الماضي، وخاصة في العقد الأخير منه، والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين.
الحقبة النفطية في طورها الثاني
ثم انتقلت «الحقبة النفطية» إلى طورها الثاني مع بروز دور دول خليجية أصغر حجماً، ولكنها غنية جداً بمواردها المالية المتصلة بتصدير النفط والغاز. ولقد ارتبط الدور الإقليمي «المكتسب» لهذه الدول باستمرار احتياج العالم لموارد الطاقة، من جهة، وللمهام والوظائف التي تُناط بها أو تنخرط فيها في الصراعات الإقليمية القائمة، من جهة ثانية. ولعلّ هذا ما يفسّر علاقاتها المتعدّدة والمتشعبة، إقليمياً ودولياً، مع دول على النقيض من بعضها البعض سياسياً!.
وقد بلغت هذه المرحلة ذروتها مع المآلات الكارثية التي آلت إليها أوضاع بلدان ما سميّ «الربيع العربي»، وخصوصاً في سورية واليمن وليبيا، بعد أن تحوّلت إلى ساحات لصراعات النفوذ والسيطرة، وباتت في النتيجة أشبه بكانتونات تخضع لنفوذ هذه الدولة أو تلك، وذلك بالتضافر مع طفوّ المشاكل الداخلية المريعة على السطح، وتعمّق الانقسامات والاستقطابات، سواءً داخل كلّ دولة على حدة، أم بين الدول العربية بعضها مع بعض. وكان العراق سبقها إلى ذلك منذ الغزو الأميركي عام 2003.
ذلك كلّه أفضى، في المحصلة، إلى تراجع الاهتمام العربي على مختلف الصعد والمستويات؛ الرسمية والسياسية والشعبية، بما يطلق عليه «قضية العرب المركزية»، أيّ الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية. وبرز في المقابل، الخطر الإيراني بالنسبة إلى بعض العواصم الخليجية والعربية، والخطر التركي بالنسبة إلى عواصم أخرى. وهو ما ساهم في «إطلاق يد» عدد من العواصم العربية؛ الخليجية وغير الخليجية، لإقامة صلات وعلاقات متعددة المناحي والمستويات مع إسرائيل، بدأت سرية، (أشبه بزواج عرفي، كما وصفت من قبل كثيرين)، قبل أن تُتوّج أخيراً بإشهارها على الملأ وتثبيتها رسمياً، من خلال الاتفاق الذي أخرج هذه العلاقات إلى العلن ووعد بتطويرها، جهاراً نهاراً، من دون أي حرج.
وهذا في الواقع، ينسجم تماماً مع خطة ترامب المطروحة المسمّاة بـ«صفقة القرن» التي تتبنّى، على نحو شبه تام، رؤية اليمين الإسرائيلي المتطرّف لطي صفحة الصراع العربي – الإسرائيلي نهائياً، وحلّ (تصفية) القضية الفلسطينية. وهي تشتمل في أحد أركانها الرئيسة، على ترتيبات جديدة في المنطقة تقوم على تطبيع علاقات الدول العربية مع إسرائيل، وتغيير خارطة التحالفات والانتقال إلى مرحلة تموضعات واصطفافات جديدة في المنطقة ككل، تصبح فيها إسرائيل حليفاً، معلناً أو مضمراً، في مواجهة إيران في الدرجة الأولى، أو في مواجهة تركيا وحركات الإسلام السياسي المرتبطة بها في الدرجة الثانية، أو في مواجهتها كلّها مجتمعة، تبعاً لسياسات وارتباطات ومصالح كل عاصمة من العواصم العربية. والاتفاق الإماراتي الإسرائيلي، (أو أي اتفاق آخر يعقد على غراره)، سوف يندرج في إطار هذه الخطة على نحو مؤكد.
تحالف وليس تطبيعاً فقط!
وما أعلنه وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو أخيراً، يؤكد هذه النتيجة على نحو لا يدع مجالاً للشك، فقد قال صراحة إن دولة الإمارات وإسرائيل «توصلتا إلى اتفاق لتشكيل تحالف ضد إيران لحماية الأراضي الأميركية والشرق الأوسط، وذلك من خلال اتفاقية إبراهام للتطبيع الكامل بينهما». وأوضح مشدّداً على أنّ الغرض من الاتفاق هو الحيلولة «دون وصول الخطر الإيراني إلى الأراضي الأميركية»!. وهنا يجدر التنويه إلى الطابع العسكري والأمني (تبادل المعلومات الاستخباراتية)، للعلاقات بين الإمارات وإسرائيل منذ بداياتها السريّة، وخصوصاً إزاء ما يسميه الطرفان «التهديدات الإيرانية لأمن واستقرار المنطقة».
الكلام لم يعد إذن عن تطبيع أو «اتفاقية سلام»، بل عن مستوى أعلى من العلاقات، فالحديث يجري عن «حلف» سياسي وعسكري موجّه ضد طرف محدّد، ولحماية الولايات المتحدة الأميركية بحيث «لا يصل الخطر إلى شواطئها». وهذا يختلف جداً عن الحديث الإماراتي الأولي عن «صفقة لوقف ضم إسرائيل للأراضي الفلسطينية»، (وهو ما نفته تل أبيب فوراً)، كما يختلف عن المعلومات المتداولة بشأن صفقة «إف ـ 35»، وهو الأمر الذي ما زال محلّ أخذ ورد بين أطراف الصفقة الثلاثة.
مآل «الحقبة الخليجية»؟
ما سبق عرضه، هو مجرد توصيف لواقع الحال لا أكثر، ولكن ما ينبغي ملاحظته والوقوف عليه هو السياق الذي جاء فيه إشهار التطبيع الحالي مع إسرائيل، محلياً وعربياً وإقليمياً ودولياً.
فعلى الصعيد المحلي (الخليجي)، لاحظ المراقبون أنّ الدول الخليجية تشهد حالياً أزمات مالية متفاوتة الحدّة فيما بينها، تتمثل بعجز موازناتها الذي بلغ 180 مليار دولار في النصف الأول من العام الجاري، حصة السعودية وحدها كانت نحو 55 % منه، وفق تقرير وكالة «ستاندرد آند بورز» للتصنيفات الائتمانية، صدر في شهر تموز/ يوليو الماضي.
وتوقع صندوق النقد الدولي، في أحدث تقاريره حول آفاق الاقتصاد العالمي في 24 حزيران/ يونيو الماضي، انكماش الاقتصاد في منطقة الخليج بنسبة 7,6 % لعام 2020. وقد أجبر تدهور أسعار النفط الدول الخليجية على اتخاذ إجراءات غير مسبوقة، شملت تقليص دعم الوقود، وفرض ضرائب جديدة غير مباشرة، كما تم إرجاء مشاريع اقتصادية كبيرة.
وعلى رغم أن الإمارات، (ثاني أكبر اقتصاد خليجي)، بدأت العام الحالي من دون أيّ عجز في موازنتها، إلا أن جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية تتجه بها إلى تسجيل أسوأ أزمة في تاريخها، مع توقعات بانكماش اقتصادها بنسبة 4.3%. أما البحرين، التي توقع صندوق النقد الدولي أن تكون الأقرب زمنياً لاندثار ثرواتها النفطية خلال عام 2024، فهي تحتاج إلى مساعدات حلفائها الخليجيين بينما هم في ضائقة وركود اقتصادي.
وتوقع خبراء «ستاندرد آند بورز» ارتفاع العجز المتنامي في موازنات دول الخليج إلى نصف تريليون دولار بحلول العام 2023، وهو ما يجعل حكومات المنطقة في وضع صعب ومعقد مع الضبابية التي تحيط بمستقبل الاقتصاد العالمي، على خلفية وباء كورونا والانخفاض الكبير في أسعار الطاقة، إضافة إلى التوترات الجيوسياسية المتصاعدة التي تشهدها المنطقة. ومنها الحرب باهظة الكلفة التي تخوضها السعودية والإمارات في اليمن، فضلاً عن تدخلهما في الحرب الليبية والتوترات في منطقة الخليج ذاتها.
دوافع الخوف والقلق!
نستنتج من ذلك، أنّ إشهار التطبيع بين دولة الإمارات وإسرائيل، جاء من موقع ضعف وليس من موقع قوة، حيث تشعر الدول الخليجية بالقلق والخوف من المستقبل، في سياق تراجع الحقبة النفطية، وربما أفولها، إذا استمر التدهور الحاصل في أسعار النفط. ولعلّ الإمارات وغيرها من الدول الأخرى، تشعر بالحاجة الماسّة إلى «ظهير»؛ إقليمي أو دولي، لتأمين الحماية اللازمة لها.
ولما كانت علاقاتها متوترة مع كل من إيران وتركيا؛ حيث تنظر إلى إيران بوصفها عدواً أول، وترى أنها بحاجة إلى الحدّ من تأثير النفوذ التركي وأدواته السياسية في المنطقة. وأمام تقلب وتردّد مواقف الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، فقد باتت حليفاً غير مضمون بالنسبة إلى الإمارات، (وإلى غيرها من الدول الخليجية أيضاً)، فلا يبقى لديها سوى إسرائيل لتكون ظهيرها المأمول، وربما تكون في الوقت عينه بوابةً للتأثير في السياسات الأميركية، وإعادة تمتين التحالف الخليجي مع واشنطن.
في هذا الصدد، يمكن تسجيل بعض العناصر التي غذّت قلق الدول الخليجية على أمن منطقتهم؛ من قبيل قرارات إدارة ترامب الأخيرة سحب القوات من بعض مناطق العالم التي كانت تتواجد فيها، (من العراق إلى أفغانستان إلى ألمانيا...)، فضلاً عن الامتناع الأميركي عن القيام بأي عمل ملموس بعد الهجمات على «أرامكو»، وهو ما وضع المصداقية الأميركية بالنسبة إلى تلك الدول على المحك!.
وعلى الصعيد العربي، أظنّ أنه من الواضح للجميع أن لا فائدة ترجى، في المدى المنظور على الأقل، من محاولة معاودة لملمة أشلاء الواقع العربي المتشظية، بل تبدو الأمور وكأنها تسير نحو الأسوأ، وهو ما يزيد من اندفاع كل دولة عربية إلى البحث عن حليف قويّ لها من خارج المنظومة العربية.
هذا الواقع البائس فتح شهية القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة (إيران، تركيا وإسرائيل)، إلى مزيد من الاندفاع والتدخل، بحثاً عن نفوذ أو عن موطئ قدم لها، هنا أو هناك من بلدان العالم العربي «الداشرة»!.
ويمكن للمراقب أن يرصد بجلاء الصراع الضاري بين العواصم الإقليمية في بعض الساحات، واتفاقها أو تواطؤها في ساحات أخرى. وعلى سبيل المثال، إيران وتركيا على طرفي نقيض في سوريا، بينما هما ليسا كذلك في ليبيا واليمن، أو في الصراع على الطاقة في المتوسط، وكذلك الأمر بالنسبة للتوترات بين قطر وبعض الدول الأخرى داخل المنظومة الخليجية. وما يقال عن إيران وتركيا يمكن أن ينسحب على تركيا وإسرائيل أيضاً!.
وما يُفسح في المجال أمام هذا القدر من التدخل الإقليمي في العالم العربي، هو عدم توافق (أو عدم استعجال ورغبة) الدول الكبرى في الوصول إلى حلول للصراعات الساخنة القائمة في غير ساحة عربية. وما يزيد الاستعصاء القائم هو التباين الكبير بين مواقف الإدارات الأميركية المتعاقبة والاستراتيجيات التي تطرحها كلّ منها للتعامل مع أهم القضايا المطروحة، وهذا ينطبق، على وجه الخصوص، على إدارة باراك أوباما (الديمقراطية) السابقة، مقارنة مع إدارة ترامب (الجمهورية).
هذا يضفي، وعلى رغم الحديث عن «تحالف إماراتي إسرائيلي»، طابع الراهنية وعدم الثبات، وربما عدم الاستمرار أيضاً، على الاتفاق المعقود، أو الاتفاقات التي من المحتمل أن تعقد، والتي تبدو مدفوعة باحتياجات أطرافها الراهنة والمباشرة، (الإمارات وقلقها الأمني، السودان والمقايضات المطروحة لرفع العقوبات الأميركية عنه، نتنياهو وترامب وقلقهما الانتخابي وحاجتهما الماسّة إلى انجاز ما يلوّحان به أمام الناخبين)، أكثر مما هي مدفوعة بتصورات ورؤى استراتيجية وعقلانية لحلول مقبولة وقابلة للحياة للصراعات القائمة. كلّ ذلك في مرحلة (عربية وإقليمية وعالمية) طابعها الرئيسي أنها «انتقالية»، يحيط بها الكثير من عناصر الغموض والقلق والخوف.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن الغموض الشديد يكتنف صفقة طائرات «إف-35» المتطورة التي يبدو أنّ إدارة ترامب وعدت بها الإمارات، وهي الصفقة التي ترى الأخيرة أنها جزءٌ لا يتجزّأ من اتفاق التطبيع مع إسرائيل، في حين يعارضها المسؤولون الإسرائيليون، بمن فيهم نتنياهو، معتبرين أنها تضعف «التفوق العسكري النوعي الخاص بإسرائيل»، وهو التزام أميركي تجاه إسرائيل يعود إلى سبعينيات القرن الماضي، تم تحويله بعد ذلك إلى قانون مقرّ في الكونغرس.
ولعل «طابع الراهنية» للاتفاق المذكور، يُفسّر لنا تحفظ الموقف السعودي تجاهه، والذي أدّى إلى فرملة أطراف خليجية أخرى (البحرين) عن الاندفاع للحذو حذو الإمارات، (في المدى القريب على الأقل). حيث أكدّت المملكة، عبر خارجيتها، التزامها بمبادرة السلام العربية لعام 2002، التي تنصّ على إقامة دولة فلسطينية كشرط للتطبيع العربي مع إسرائيل، على رغم تجاهلها لقضية اللاجئين، وللأدوات والسبل الكفيلة بترجمة المبادرة على أرض الواقع!.
........................................................
*1: يسميها الكاتب مروان قبلان «اللحظة الخليجية»، في إشارة، كما أفترض، إلى راهنيتها وعدم استمرارها، كما كتب تحت عنوان «حتى لا تغدو اللحظة الخليجية عابرة» / «العربي الجديد»: 19/8/2020، مع أنّ هذه «اللحظة» مستمرة في الواقع منذ عقود!.
أضف تعليق