23 كانون الأول 2024 الساعة 16:28

بعد أربعين عاماً... السينما الروائيّة في فلسطين إلى أين؟

2020-09-08 عدد القراءات : 933
(الاتجاه الديمقراطي) (كتب صالح ذباح)
يشارك هذا العام ثلاثة أفلام فلسطينيّة في مهرجانات عالميّة: الروائي الطويل «غزّة حبيبتي» لطرزان وعرب ناصر في الدورة الـ 77 لمهرجان البندقية السينمائي الدولي في مسابقة «آفاق»، والروائي الطويل «٢٠٠ متر» لأمين نايفة في مسابقة «أيام فينيسيا السينمائيّة»، وفي الدورة الـ 73 لمهرجان لوكارنو السينمائي الدولي يشارك «بيت لحم 2001» (روائي قصير) لإبراهيم حنضل ضمن فئة Pardi di Domani، تأتي هذه المشاركات بعد أربعة عقود من انطلاق السينما الروائيّة الفلسطينيّة صاحبة نصيب كبير إن لم يكن الأكبر في الحضور العربي في المهرجانات السينمائيّة العالميّة.
حان منذ وقت طويل طرح سؤال جوهري حول سيرورة تطوّر السينما الروائية التي يصنعها الفلسطينيون على الشاشة سرديًّا وبصريًّا، مع كامل الاعتبار للوضع السينمائي الفلسطيني وخصوصيّته المعلومة على مستوى تعقيدات الإنتاج والبحث المُضني والمستمر لصنّاع الأفلام عن سُبل تتيح لهم تحقيق مشاريعهم، فقد تزامن مع الإعلان عن هذه المشاركات منذ أسابيع قليلة عرض منصّة الفيلم الفلسطيني لفيلم «عائد إلى حيفا» (1982) من إخراج العراقي قاسم حول عن رواية غسّان كنفاني، وهو أوّل وآخر إنتاج روائي فلسطيني طويل محسوب على سينما الثورة الفلسطينيّة، بعد أكثر من خمسة عشر عاماً من  الإنتاجات الوثائقيّة التي شكّلت بنيان وهويّة هذه السينما منذ عام 1967.
الكاميرا مسدّسًا
يطرح عرض الفيلم تساؤلات حول السينما الروائيّة الفلسطينيّة، سرديّاتها، اقتباساتها، ومآلاتها فيما لو استمرّت مثلا منظّمة التحرير الفلسطينية وجهازها السينمائي بالتواجد في لبنان. لا تترك تجربة سينما الثورة الفلسطينيّة لنا كثيرًا من الخيالات حول التوجّهات والخطوط الكبرى لشكل السرديّات التي كان سيُطلب حضورها على غرار ما أنتج من قبل المؤسسة في السبعينات، حاملًا تصوّرات اليسار الثوري في التعامل مع الكاميرا كمسدّس مصوّب نحو سرديّة المستعمرين في إعلامهم وأفلامهم، لكن ما لا يُأخذ في الحسبان أحيانًا، أن ذلك المسدّس بشكل ما صُوّب بادئ ذي بدء نحو القصص الفرديّة للفلسطينيين وأجهضها من باب ترتيب الأولويات.
شكّل «عائد إلى حيفا»" بدايةً مبشّرةً لخطىً تحرّر السرديّة على الشاشة من شكل التوثيق الإخباري حيث تنصهر تمثّلات الفلسطينيين في هذه الأنماط وتخضع لاشتقاقات أشكال الحياة والموت من منطلق هرمي يدفع بعيدًا بأي تفصيلة تخرج عن التجانس المتخيّل للجماعة.
المخدوعون
أثبتت تجربتا تحويل روايات كنفاني إلى أفلام أنتجتها جهات عربيّة وفلسطينيّة إمكانيّة توظيف السينما وسيطًا بصريًّا قادرًا على نفث الروح في الرواية الأصلية، ففي التجربة الأولى في فيلم «المخدوعون» (1972 للمصري توفيق صالح عن رواية «رجال في الشمس» من إنتاج المؤسّسة العامّة للسينما في سوريا) نجح العمل  باستثمار مرجعيّة أدبيّة هامّة والخروج من الشعور الطاغي لصفحات الرواية، من خلال توليف الموسيقى والمقاطع الأرشيفيّة وتوجيه الممثّلين، واستطاع حَوَل دمج الأرشيف الأصلي بمقاطع  تحاكي التهجير في النكبة أو استقبال الناجين اليهود من المحرقة في مواقع تصوير ساحلية لبنانية شبيهة بفلسطين، محاولًا عدم الانصياع للشكل الصارم في تحويل الأدب حرفيًّا إلى صور على الشاشة كما فعل مخرجون روس في تحويل شبه حرفيّ ومملّ للأدب الروسي الملحميّ في أواسط الستّينات («حرب وسلام» 1966-67 من إخراج سيرجيي بوندارتشوك).
الاحتفاء السياسي بالسينما مُضلّل
كان مطلع الثمانينات بلا شكّ مفصليًا في تاريخ الشعب الفلسطيني وقياداته في لبنان، وشكّل تحوّلا في اتّجاهاته السينمائيّة، فخلال عامين خرج إلى النور فيلمان طويلان: «عائد إلى حيفا»، آخر إنتاج هامّ لحركة سينما الثورة و«الذاكرة الخصبة» (1980 لميشيل خليفي) أوّل فيلم طويل -دراما وثائقيّة- يصوّر داخل فلسطين من إنتاج أوروبي مشترك خطّ بداية جديدة لحركة السينما الفلسطينيّة على مستوى السردية وبنيويّة صناعة الأفلام، ليقول هذا التزامن بين اتّجاهين مختلفين سينمائيًّا الكثير عن الحال الفلسطينية وعن الانتقال من السرد الجمعي الخانق إلى السرد الفردي.
لا زلنا نعيش تردّدات موجة السينما الروائيّة التي بدأها خليفي ويشبّهها في كتاب «أحلام أمّة»" لحميد دباشي بـ«استعمال الكاميرا كقلم»، تستطيع أن تدمج فيها الخيال والموسيقى والشعر صوريًا لسرد كلّ ما أقصَته سيادة الجماعة الذكورية. لكن بعد أربعة عقود، كم من السرديّات الفلسطينيّة على الشاشة فيها أصالة وتحديث وكسر أنماط تقليدية من القصص والسرد البصري؟ نعيش بلا شكّ حالة مركّبة فيها صنّاع أفلام موزّعون في بقاع متفرّقة داخل وخارج فلسطين، وسط غيابٍ لدولة مستقلّة ذات ميزانيّات قادرة على دعم أفلام بالشكل الكافي، فالاتّكال الأساسي على صناديق الدعم العربيّة القليلة والتمويل المؤسّساتي الأجنبي والتمويل الإسرائيلي في حالة بعض فلسطينيّي الداخل، الأمر الذي يدخلنا كلّ مرّة من جديد إلى حلقة مفرغة من العرض والطلب وتأثّر السرديّة الفيلميّة بذلك لتلبّي تصوّرات واستمناءات ما تتوقّعه جهة إنتاج غربيّة عمّا يجدر أن تكون عليه فلسطين خصوصًا في فترة سابقة، قبل أن تدفع الثورات العربية الملتهبة بقضيّة فلسطين إلى الهامش، لذلك إن أخذنا مرحلة بداية التسعينات حتّى بداية العقد الثاني من الألفينات، نلحظ غزارةً في عدد الأفلام الروائيّة وحضورًا عالميًا ملحوظًا، ونشوء جيل جديد من المخرجين والمخرجات من داخل فلسطين بتقسيماتها المختلفة ومن خارجها، وازدياد في طلب السوق السينمائي العالمي لقصص من فلسطين، وينطبق الأمر ذاته على السينما الإسرائيليّة في ازدياد حضورها العالمي من خلال مخرجين من أمثال عيران ريكليس وعاموس غيتاي، يغازلون وسطيّة سياسيّة وليدة حالة أوسلو، فقد سوّقت أفلامهم السينما الإسرائيليّة بصفتها سينما من منطقة نزاع، في فترة انصبّ فيها تعامل معظم جهات التمويل مع سينما الفلسطينيين وسيلةً إخباريّةً، دورها الإعلامي أكبر من قيمتها الفنيّة، فنجد اعتناء ما أكبر بسينما تتناول قصص انتحاريين أو واقع جدار الفصل العنصري من باب راهنيّة الأحداث وما يذاع في نشرات الأخبار وليس بالضرورة لتفوّقها الفنيّ، ويمرّ السوريون منذ الأزمة السوريّة بنفس الحال، وتتأثّر إمكانيّة الخروج بأفلام بطبيعة الحال بتوْق الغرب إيجاد عنصر إخباري في هذه الأفلام، خصوصًا وأنّ هنالك رغبة برؤية «وحش إسلامي» مشترك.
الذاكرة الخصبة
إن جمّعنا الأفلام الروائيّة الفلسطينيّة في الفترة الآنفة الذكر، سنجد تطوّرات إيجابيّة كبروز موجة من المخرجات النساء، وجيل من المخرجين الشباب بعد جيل هاني أبو أسعد، وإيليا سليمان ورشيد مشهراوي، ومحاولات للإتيان بقصص فرديّة جديدة تختبر حدود السرد، وحدود كسر الرموز، لكن ليس بالإمكان الإشارة إلى أعمال كثيرة نجحت في ذلك. في المجمل ينقصنا بعض التجريب والتجديد والشجاعة في خلق خصوصيّة تعبيريّة، فإن لم يستطع الفن البصري إعادة تأويل ما نراه، ما فائدته؟
لم يرافق التصاعد الإيجابي في الكمّ تصاعد مقابل في الكيف، وكثير من الاحتفاءات السياسيّة بالأفلام الفلسطينيّة تصيب عدسة فحصنا لإنتاجاتنا السينمائيّة بغشاوة في نقدنا لها. إن كان ميشيل خليفي قدّ بدأ روائيًّا التحوّل من السردية الجمعيّة إلى الفرديّة وبنى نموذجًا لسينما مؤلّف فلسطينية وبرهن عدم استحالة إنتاج فيلم روائي طويل، فإيليا سليمان أثّر جذريًا في تشكيل السرديّة الفردية وأسّس لنموذج اللابطل في السينما الفلسطينيّة، «سجّل اختفاء» (1996) نقطة تحوّل مركزيّة سرديًا، ولا زال يخرج من رحم هذين الخطّين عدد كبير من التصوّرات للأفلام الروائيّة، واستثمر جيل كامل من المخرجين (الرجال بالأساس) ثيمة اللابطل ومنحها خصوصيّته التعبيريّة مع تفاوت الجودة السينمائية لكنّها خطوة نحو التطوير بلا شكّ، في أفلام  مثل «عطش» لتوفيق أبو وائل، «حب، سرقة، ومشاكل أخرى» لمؤيّد عليّان، «بدون موبايل» لسامح زعبي، «مفك» لبسّام جرباوي، «بونبونة» لركان مياسي، «صفّير» لفراس خوري. ندور بلا شكّ لأعوام مستمرّة في دائرة سينما اللابطل التي أسّسها أدبيًا بشكل بارز غسّان كنفاني («رجال في الشمس») وإميل حبيبي («الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبو النحس المتشائل»)، وعلى منحىً مُقابل تحاول المخرجات النساء وضع المرأة نوعًا ما في مركز السردية بعد أعوام من سينما الرجال الذين آثروا إبقاء المرأة في الخلفية أمّهاتٍ وأخواتٍ وحبيباتٍ للأبطال. تجارب خليفي وسليمان قد تكون الاستثناءات في ذلك وأحيانا أكثر راديكالية وخَلقًا بصريًّا من طرح المخرجات النساء أنفسهنّ، من الأمثلة الأبرز لأفلام بطلاتها نساء: «فيلا توما» لسهى عرّاف، «المرّ والرمّان» لنجوى نجّار، «ملح هذا البحر» لآن ماري جاسر، «3000 ليلة» لمي المصري، «برّ بحر» لميسلون حمّود. هنالك توقّع ما بعد كلّ هذه التجارب الروائيّة، أنّنا بانتظار ما هو مختلف ومُحدّث، في ظلّ أفلام تجريبيّة ووثائقيّة لصنّاع أفلام فلسطينيين/ات فيها خَلق وجنوح عن السرد التقليدي ثيمةً وشكلًا سينمائيّا، منها على سبيل الحصر لا القصر: «استعادة» لكمال الجعفري، «المطلوبون الـ18» لعامر الشوملي، «عالم ليس لنا» لمهدي فليفل، «في إثر مادّة سحريّة» لجمانة منّاع،«شقيقة موسوليني» لجونا سليمان.
فلسطين ليست فانوسًا سحريًّا
في ظلّ تفاقم الأزمات والحروب عربيًّا، لم تعد فلسطين ذلك الفانوس السحريّ لجذب أعين وجيوب المنتجين في العالم، بعدما اُستنفدت الكثير من الفرص لتكوين روايات سينمائية مختلفة، وأصبحت بعض الأفلام نسخ متكرّرة عن بعضها لا تجذب المموّلين خصوصًا وأنّ نصيب سينمات عربيّة أخرى طالت بلدانها المآسي كسوريا والسودان بات أكبر وباتت حالتها السياسية أكثر «جاذبيّة».
لا يزال الكثير من القصص لم يُحكَ بعد، هنالك أنواع فنيّة لم نقترب إليها حتى الآن وبعد ٤٠ عامًا من انطلاق الموجه الروائيّة في السينما الفلسطينيّة، أفلام كويريّة، سرياليّة، موسيقيّة، اقتباسات وتطوير لروايات معاصرة، لا زالت هنالك تجارب إنسانية جميلة، دامية، مُلهمة نضجّ بها كلّ يوم في واقعنا العينيّ والافتراضي المليئين بالمفارقات والقمع ولا تجد طريقها إلى الشاشة، حيث ينتهي بنا الأمر أن نرى فلسطين وتمثّلاتها على الشاشة في أحيان كثيرة متشابهة وفاقدة الصلاحيّة، يحصل هذا في أحيان كثيرة تحت عبء تمثيل المجموعة دون الانهماك بما فيه الكفاية بالتعبير البصري الشخصي لصنّاع الأفلام والقيام بمجازفات فنيّة. هذه مهمّة الجميع، الأجيال المخضرمة والأجيال الجديدة الواعدة التي أثبتت من خلال تجارب روائية قصيرة مؤخّرًا أن هنالك أملًا في التحديث، وما يبشّر بالتحوّل الإيجابي على سبيل المثال مأسسة أرضيّة مهنيّة متمثّلة بمعهد سينمائي أكاديمي ككليّة «دار الكلمة» في بيت لحم، التي وصلت إنتاجاتها وأعمال طلابّها النوعيّة إلى محافل دولية («أمبيانس»" لوسام الجعفري في دورة العام المنصرم من مهرجان كان، «بيت لحم 2001» لإبراهيم حنضل في دورة هذا العام من مهرجان لوكارنو)، أهمّ ما في هذه المأسسة بناء كوادر متشعّبة التخصّصات تحفّز على العمل الجماعي ليتقن كلّ صاحب/ة تخصّص مهنته، في الإخراج، أو قسم التصوير أو الصوت أو كتابة السيناريو أو الملابس، والخروج عن مآزق تسبّبها قلّة التجربة في التخصّصات المختلفة، كي لا يكتب مثلاً مخرج ذات عين سينمائية جيّدة سيناريو غير مكتمل.
الحضور السينمائي الفلسطيني لافت في الدورات الحاليّة في المهرجانات العالميّة، خصوصا في فترة ركود سينمائي بسبب جائحة الكورونا، وقد تكون هذه المشاركات الإنجاز الفلسطيني الإيجابي الوحيد (في حالتنا البائسة اليوم) الذي أدخل على قلوبنا قسطًا من السعادة، لكن مع ذلك نريد أن نشاهد فيما يقدّمه صنّاع الأفلام تحديثًا مرجوًّا، وفتح نقاش بين السينمائيين والعاملين في الصناعة والنقّاد والصحفيّين حول أفق تطوير سرديّاتنا وتمثّلاتنا على الشاشة وعلاقة هيكليّات الإنتاج المختلفة بذلك.

أضف تعليق